لا تملك العلوم الاجتماعية ما تملكه العلوم الطبيعية والتطبيقية من أدوات قياس صارمة، وحازمة، ودقيقة، وحاسمة،فلا توجد مثلاً معايير شديدة الدقة والصرامة تقيس مدى الرضا أو السخط عند أي شعب، ولا توجد مقاييس عاليةالدّقة لمقدار الفرح أو الحزن.. السعادة أو الكآبة .. عند أي إنسان، هناك فقط مؤشرات قد لا تخطئها العين، لكن تقدير حجمها ووزنها النوعي وكتلتها وحتى وجهتها المستقبلية، يظل عصيًّا على أدوات القياس العلمي، وتلك أحد أبرز الصعوبات التي يواجهها المعنيّون برصد التغيّرات الاجتماعية والسياسية والنفسية في كل مكان حول العالم ، ويعاني منها المشتغلون بالسياسة بصفة خاصة. معضلة أدوات القياس هذه حاولت بعض العلوم الاجتماعية والإنسانية معالجتها، وسعى علم الاجتماع السياسي بصفة خاصة إلى محاولة رصد العلاقة بين السياسة و بين الواقع الاجتماعي الذي يعتبر الحاضنة للأحداث السياسية، ودراسة التأثير المتبادل للأحداث السياسية على البنية الاجتماعية ،أو تأثير تلك البنية الاجتماعية - وهى ليست جامدة بالطبع- على السياسة التي ينبغي أن تتّسم بدورها بمرونة عالية في إطار مبادىء عامة تتسم بالثبات لا بالجمود، لكن أحدًا من علماء الاجتماع السياسي لم يفلح حتى الآن في ابتكار جهاز ترمومتر لقياس الظواهر السياسية والاجتماعية أو لمعرفة مقدار التأثير السياسي على المجتمع أو الاجتماعي على السياسة. ومنذ فجر التاريخ اعتمدت السياسة على الفطرة السليمة لدى القائد السياسي، بما لديه من بصيرة نافذة، أو رؤية عميقة، أو خبرات إنسانية واقتصادية واجتماعية وحتى عسكرية، ومنذ هذا الفجر ذاته، اعتمد السياسي ايضا على فطرة المجموعة السياسية التي يقودها، وعلى وعاء القيم الحاكمة للسلوك العام بين أفراد مجتمعه. وبسبب تلك الصعوبة التقنية، تتجلّى عظمة قادة سياسيين على مرّ التاريخ، استطاعوا قيادة شعوبهم بسلامة الفطرة، وعمق البصيرة، والقدرة على استيعاب “الظرف التاريخي” ، والتجاوب مع مقتضياته، وهذا بالضبط ما حدث ويحدث في الحالة السعودية، إذ استطاعت القيادة منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز استشراف المستقبل بآماله والمخاطر التي تحدق به، والتعامل الحذق مع مقتضيات تحقيق الآمال ومواجهة التهديدات. لقد استطاع الملك عبدالعزيز قراءة المشهد الدولي البالغ التعقيد في حقبة مبكرة من التاريخ الحديث إبّان الحرب العالمية الثانية، وتمكن عبر الالتزام بمبادىء أعلنها وارتضاها شعبه، أن يرسم خارطة طريق لدولته، تقول النتائج ونحن نرصدها الآن على بعد عشرات السنين، إنها نجحت في تحقيق رؤية ملك و استلهام إرادة شعب، ثم تمكن أبناؤه من بعده في اجتياز مرحلة التحولات الاقليمية، المصاحبة لتغييرات في الجوار عصفت بمصر وسوريا والعراق ولبنان واليمن والخليج وايران، مستلهمين ذات المبادئ، ومستعينين بفطرة شعب لم تخطئ طوال مسيرة طويلة للبناء والنهضة. لم تفلح الهزات العنيفة في الجوار، ولا التحولات العميقة في النظام الدولي، من زمن تأسيس الأممالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية الى زمن ثورة الخوميني في ايران ، ثم انهيار جدار برلين،وحتى زمن تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك،ثم توابعه بغزو أفغانستان والعراق، لم تفلح كل تلك الهزات العنيفة في التأثير في ثبات الموقف السعودي، ولا في سلامة الرؤية السعودية، ولا في القراءة الدقيقة والعميقة للمشهدين الاقليمي والدولي، واستطاعت القيادة السعودية أن تقود سفينة الوطن برويّة وبهدوء وبلا أدنى صخب إلى مرافئ السلامة وسط بحر اقليمي متلاطم. نفس الآلية.. فطرة سليمة لدى قيادة التزمت بثوابت وطنها، و فطرة سليمة أيضاً لشعب يدرك أن وحدته وسلامة وطنه فوق كل اعتبار، ويعرف أن الإصلاح لن يتحقق بالمسيرات والمظاهرات وانما بالحوار عبر قنواته الشرعية، ومن خلال أبواب ظلت مفتوحة مع القيادة، هذه الفطرة السليمة برهنت على أنها أقوى من كل أدوات القياس العلمي، واقدر على استلهام خطى شعب وسياسات قادة. والآن وبينما تعصف الرياح بمنطقة الشرق الأوسط، ويوشك تسونامي السياسة أن يطيح بما كان يبدو أنه من بين ثوابت هذا الاقليم، فإن ثمة شواهد لابد من رصدها، وثمّة حقائق لابد من الإمعان فيها، لعل بينها مايلي: * أولاً: أن دواعي التحوّلات الاقليمية ، كان من الممكن توقّعها ورصدها، في ضوء الأزمة المالية العالمية التي عصفت باقتصادات القوى العظمى ثم راحت تداعياتها تنداح باتجاه الدول الأقل دخلاً، والتي ظنّ بعضها أنه بمنأى عن تداعيات تلك الأزمة. *ثانياً” أن الأزمة المالية العالمية، قد أعقبتها أزمة أخرى طالت الموارد الغذائية العالمية، بسبب اضطرابات مناخية وتحوّلات بيئية( حرائق الغابات في روسيا مثلا) وحذّرت منها منظمات دولية وإنسانية متخصصة في وقت مبكر، وكذلك بسبب لجوء بعض الدول الصناعية الى انتاج الوقود الحيوي من الحبوب، إثر ارتفاع فاتورة الطاقة جراء زيادة أسعار النفط.ما أدى بدوره إلى ارتفاع فاتورة الغذاء بنسبة فاقت 30 بالمائة دفعة واحدة، الأمر الذي يرهق الاقتصادات الصغيرة وحتى المتوسطة. * ثالثا: أن المجتمعات التي طالتها آثار الأزمتين العالميتين( المالية والغذائية) كانت تعاني خللًا هيكليًا وعجزًا ماليًا مزمنًا، قاد الشارع عندها الى لحظة انفجار، عجزت قياداتها عن استشرافها، والتحسب لها، بإجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية، كان يمكن أن تسهم في لجم الانفجار السياسي. * رابعاً: إن اختلاف الظرف بين كل دولة وأخرى عند مواجهة مثل تلك الأزمات، يقود بالضرورة الى اختلاف نتائج تلك المواجهات، ويقطع باستحالة استنساخ النماذج، فالأمم ليست كيانات جامدة، يمكن اخضاعها لقواعد حسابية أو فيزيائية او كيميائية ثابتة، وإنما هى قوى وعناصر انسانية، لكل منها حركته الخاصة وإيقاعه المميز. * خامساً: أن المملكة ظلت بمنأى عن تداعيات الأزمة المالية العالمية، بل ان تلك الأزمة قد حملت المملكة الى قمة العشرين شريكا على قدم المساواة مع كبار العالم في صياغة السياسات المالية والنقدية العالمية. *سادساً: استطاعت المملكة لجم أسعار المواد الغذائية رغم ارتفاع أسعارالغذاء عالميا بنسبة فاقت 30 بالمائة، ما جنّب شعبها سعار الأسعار، وتمكّنت عبر حزمة من الإجراءات الحصيفة تخفيف أعباء محدودى الدخل. *سابعاً: جاء استيعاب القيادة مبكرًا للظرفين العالميين( أزمة مال وأزمة غذاء) وكذلك للظرف الإقليمي ( توترات اجتماعية وسياسية بعضها على خلفية الأزمتين العالميتين)، وانعكس هذا الاستيعاب في سلسلة إجراءات ساهمت إلى حدّ بعيد في الحد من تأثيرات تلك الأزمات على الوطن والمواطن، ثم جاء استيعاب المواطن السعودي لتلك الحقائق، ووعيه الفطري بطبيعة المخاطر والتهديدات التي تحدق بالوطن وسلامته ووحدته واستقراره، إذا ما أمكن استدراجه الى ساحات التظاهر لانتاج فوضى لا يعلم نهايتها الا الله . ثامناً: تعكس كلمات صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز لدى افتتاحه مؤتمر العمل البلدي الخليجي السادس بالرياض، عمق العلاقة بين القيادة والمواطن في هذا البلد، فقد أبدى سموه بالغ التأثر لموقف مواطنيه من دعوات استهدفت استدراج الوطن الى ساحات الفوضى، مهنئا القيادة بشعبها والشعب بقيادته، ومعتبرًا أن الشعب “قد رفع رؤوسنا” وقال: إنه” شعب وفيّ.. شعبًُ كريمُ..لا تنطلي عليه الافتراءات.. انه شعب يعرف نفسه.. لقد اثبت هذا الشعب للعالم كله أنه في قمة التلاحم مع قيادته” وكما حملت كلمة سموه مشاعر التقدير لشعبه، فقد حملت أيضاً وعود الرفاه لهذا الشعب حين قال:” مثلما نقول اليوم شكرا وهنيئا لمليكنا بشعبه، سنقول غدا شكرا لسيدي خادم الحرمين الشريفين وهنيئا للشعب بمليكه”. * تاسعاً: هذه اللغة الخاصة جدا للحوار بين القيادة وبين شعبها، هى إحدى أهم مفردات الخصوصية السعودية، وهى ايضا أحد ابرز عناصر الاختلاف بين آليات إدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم هنا في المملكة، وبين تلك الآليات في أي مكان آخر. .. هنا السعودية، بثقافتها الخاصة، وبنسيجها المميّز، وبوعيها الفطري، وبإيمانها العميق.. هنا تحدث التحوّلات الكبرى بحسب توقيت مكةالمكرمة لا سواها.. هنا يولد التغيير من رحم الحوار عبر أبواب لم يوصدها الحكام يومًا في وجه مواطن، وعبر مؤسسات يجري تأهيلها للحوار وفق توقيت أم القرى.