فوائد بذور البطيخ الصحية    هيئة التراث ‏تقيم فعالية تزامناً اليوم العالمي للتراث بمنطقة نجران    كريسبو للهلاليين: راح آخذ حقي    أقوال وإيحاءات فاضحة !    «المظالم»: 67 ألف جلسة قضائية رقمية عقدت خلال الربع الأول من العام الحالي    «استمطار السحب»: 415 رحلة استهدفت 6 مناطق العام الماضي    «التراث»: استيطان كهف «أم جرسان» بالمدينة قبل 6 آلاف عام قبل الميلاد    ذات الأكمام المفتوحة نجمة الموضة النسائية 2024    الطائي يصارع الهبوط    تخلَّص من الاكتئاب والنسيان بالروائح الجميلة    غاز الضحك !    الفقر يؤثر على الصحة العقلية    مقتل قائد الجيش الكيني و9 ضباط في تحطم مروحية عسكرية    سلطان البازعي:"الأوبرا" تمثل مرحلة جديدة للثقافة السعودية    "أيوفي" تعقد جلسة استماع بشأن معايير الحوكمة    مجلس جامعة جازان يعيد نظام الفصلين الدراسيين من العام القادم    مصر تأسف لعدم منح عضوية كاملة للفلسطينيين في الأمم المتحدة    الاحمدي يكتب.. العمادة الرياضية.. وحداوية    تَضاعُف حجم الاستثمار في الشركات الناشئة 21 مرة    أمير الرياض يعتمد أسماء الفائزين بجائزة فيصل بن بندر للتميز والإبداع    السلطة الفلسطينية تندد بالفيتو الأميركي    المستقبل سعودي    اليحيى يتفقد سير العمل بجوازات مطار البحر الأحمر الدولي    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة من يوم غدٍ الجمعة حتى الثلاثاء المقبل    الجامعات وتأهيل المحامين لسوق العمل    التوسع في المدن الذكية السعودية    التعاون يتعادل إيجابياً مع الخليج في دوري روشن    أتالانتا يطيح بليفربول من الدوري الأوروبي    الرباط الصليبي ينهي موسم أبو جبل    في حب مكة !    الإصابة تغيب كويلار أربعة أسابيع    فيصل بن تركي وأيام النصر    إسرائيل.. ورقة شعبوية !    الدمّاع والصحون الوساع    المفتي العام ونائبه يتسلّمان تقرير فرع عسير    "سلمان للإغاثة" يوقع اتفاقية تعاون لدعم علاج سوء التغذية في اليمن    أمير الرياض يستقبل مدير التعليم    المرور يحذر من التعامل مع أيّ روابط ومكالمات ومواقع تزعم التخفيض    سعود بن جلوي يطلع على استراتيجية فنون جدة    إنطلاق مؤتمر التطورات والابتكارات في المختبرات.. الثلاثاء    السجن 5 سنوات وغرامة 150 ألفاً لمتحرش    الرويلي ورئيس أركان الدفاع الإيطالي يبحثان علاقات التعاون الدفاعي والعسكري    نائب أمير الرياض يقدم تعازيه ومواساته في وفاة عبدالله ابن جريس    شركة تطوير المربع الجديد تبرز التزامها بالابتكار والاستدامة في مؤتمر AACE بالرياض    أمير الشرقية يرعى حفل افتتاح معرض برنامج آمن للتوعية بالأمن السيبراني الأحد القادم    سمو محافظ الطائف يستقبل مدير الدفاع المدني بالمحافظة المعين حديثا    "فنّ العمارة" شاهد على التطوُّر الحضاري بالباحة    تحت رعاية خادم الحرمين.. المملكة تستضيف اجتماعات مجموعة البنك الإسلامي    أمير الباحة: القيادة حريصة على تنفيذ مشروعات ترفع مستوى الخدمات    محافظ جدة يشيد بالخطط الأمنية    رئيس الشورى بحث تعزيز العلاقات.. تقدير أردني للمواقف السعودية الداعمة    السديس يكرم مدير عام "الإخبارية"    10 آلاف امرأة ضحية قصف الاحتلال لغزة    شقة الزوجية !    تآخي مقاصد الشريعة مع الواقع !    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على محمد بن معمر    سمو أمير منطقة الباحة يلتقى المسؤولين والأهالي خلال جلسته الأسبوعية    جهود القيادة سهّلت للمعتمرين أداء مناسكهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسين المناصرة
ذاكرة المخيال الشعبي في رواية «الغجرية والثعبان»(2-2)
نشر في الجزيرة يوم 17 - 10 - 2002

ثمة أسطرة للمكان في رواية الناصر، حيث تشكل الصحراء على وجه التحديد مكاناً حيوياً لبناء البعد الأسطوري في بنية السرد، بوصفها ممتلئة بالجان والأرواح البشرية الهائمة اثر الحروب وحوادث السير.
يجد عامر وسلطان نفسيهما - أثناء استراحة على طريق الدمام - في عمق الصحراء بين جماعات من الجن المزروعين في كل مكان، يشعلون النيران والمشاعل في البراري الشاسعة، يحذرون الناس من طول الاقامة في مرحهم الخاص الذي لا يعترف بحدود المكان، بل هم يظهرون ويختفون كلمح البصر، وهنا يحذر عامر، الذي يميل الى الصوفية، رفيقه سلطان من خطورة بنات الجن اللواتي يعشقن الرجال فيخطفنهم، ويحثه على قراءة القرآن ليحفظ نفسه من سطوتهم ولغتهم غير الواضحة: «كان الصخب من حولهما ينسيهما أنهما في عالم مختلف.. ومهما حاولا التقاط ما تعنيه النبرات المبهمة، فلن يفهما ما تعنيه قط، لأن الصوت لا يتشكل في مخارج الكلمات، انما تذروه الرياح مثل خفقة هواء مداهمة يشنها تيار شارد».
في ظل هذا الجو الشبحي الأسطوري يرى سلطان أباه المتوفى إثر حادث سير، لكن السخرية تكمن في سؤال عامر لسطلان: «أكان أبوك مقاتلاً.. ومات في معركة؟» وعندما يحاول سلطان ان يخلص أباه من بين أيدي الجان، يقول له عامر: «لا تخف سوف يلحقون بنا.. طالما يريدون التخلص من الأسرى». لذلك ألمت حالة الجنون الأولية بسلطان الذي لا يؤمن بفاعلية القراءة في مواجهة الجان، فيتوجه دون وجل أو خوف إلى النار الجنية المشتعلة قرب عربته، فيدخل يديه بين ألسنتها وهو يبتسم، مما يشير إلى الجنون.
ومن الأوصاف التي تحيل الصحراء إلى اسطورة، ما حدث للمخيم الذي يقيمه الغجر في الصحراء، بعيداً عن عيون الناس، يذهب إليه الرجال للتمتع برقص الغجرية الحسناء وغنائها، فما أن يهاجم رجال الأمن هذا المخيم، حتى يختفي، وكأن الأرض ابتلعته، أو كأن الغجر على علاقة بمن تحت الأرض من الجن كما يرى سلطان، الذي يصف الجن بقوله: «إنهم في كل مكان حسب ما نعرف، وموقعنا هذا فوق سكناهم، جعلنا الله خفيفين على قلوبهم»، ثم يصف الغجر بأوصاف الجن بسبب طريقة اختفائهم عندما ظهر الخطر «المطاردة» يقول: «لقد توصلت إلى تفسير ما حدث، فأصحابنا الغجر على علاقة بمن تحت الأرض، وقد اعتزموا الرحيل، ولم يجدوا بدا من اختراع حكاية العربات الكبيرة «عربات المطاردة» للتخلص من ضيوفهم حتى يتسنى لهم الاختفاء مع الغسق ومواصلة طريقهم في الصحراء». لكن عامراً عندما ينظر خلفه وهما عائدان الى الرياض يرى أنوار المخيم تشع في المكان الذي غادراه، وكأن شيئاً لم يحدث!!
إن وصف الصحراء -على العموم - يشكل لوحة تشكيلية اسطورية كابوسية، فصحراء الدهناء الغزيرة الرمال، وذات الخطوط الذهبية العميقة، التي تتوسدها كثبان رملية متباينة الارتفاع والأحجام تعج بأرواح الفرسان الذين تساقطوا جرحى أو بفعل تعثر الجياد في نتوءات الرمال التي تكومت حول هياكل الحيوانات التي نفقت منذ عشرات السنين، فغدت هذه الهياكل العظيمة عيداناً تضطجع في برك مياه الأمطار سريعة التبخر، فتنفع هذه العظام الطيور الهائمة التي تتبرد فوقها من الحرارة اللاهبة، تلهث وتنظر الى كل الاتجاهات وخاصة الى الحفر العميقة التي تأوي الأفاعي السامة بعد أن تغذت على الحيوانات النافقة فلم تترك منها حتى العظام اللينة، في حين تلبد الزواحف مثل الضب والورل والعقارب والفئران بين الهياكل لتحتمي من هجمة الأفاعي الشرسة. وما أن يصرخ طير فوق هذه الوهاد حتى تبتسم الحيوانات في جحورها أملاً في أن يهوي، ليكون وليمة شهية لها في هذه البراري المقفرة. والطيور نفسها تحلق على ارتفاع منخفض لتجوس الأرض بعيونها الصقرية، بحثاً عن دابة تنقض عليها وتخطفها.. هذه الصور الكابوسية للمكان تغدو أكثر مأساوية اذا قرنت بوجود آبار النفط التي تلوث البيئة، فتنشر روائح كريهة تستنشقها تلك الحيوانات المسكينة وهي لا تعلم أنها تتنفس مواد كيماوية ملوثة سوف تعمل على قتلها بالتدريج.
ومن صور الصحراء لحظة الغروب هذه الصورة: كانت الشمس تميل إلى الغروب وقد انتشرت أشعتها الارجوانية فوق رؤوس التلال الرملية عاكسة ظلالا تشبه المردة المزمجرة وقد طوحت بقضبانها المفتولة التي تحمل سيوفاً تلتمع على مرابض الرمال الناعمة، وكأنما تذكر العالم بما حدث فوق هذه السهوب والوهاد من معارك طاحنة قبل مئات السنين، «فالالحاح على العلاقة بين الصحراء والحروب القديمة علاقة جوهرية في بعث الوهج الأسطوري داخل بنية السرد!!
ويشكل المكان السكني مكاناً شعبياً بملامح اسطورية، هذا ما نجده على سبيل المثال في تصوير حي «المربع» في الرياض قديماً، فهو حي شعبي قديم، أقيمت منازله الكاحلة المنظر من الطين والقليل من الحجر، نوافذها عالية حتى لا ينكشف ما بداخلها، وتفاديا لدخول غبار الزوابع التي تثور بدون مقدمات، مشكلة خيمة غبارية، تحجب الرؤية، وتحرق العيون. وتربض الحيوانات الأليفة «الحمير والبقر والماشية» قرب البيوت، فتكون تسلية للأطفال عند ذهابهم أو عودتهم من المدرسة، كما توجد في الحي الكلاب والقطط التي تنشب بينها وبين الأطفال معارك في النهار، وبين بعضها مع بعض ومع المارة في الليل.
أما المقبرة المسكونة بالأرواح وما تحمله من خوف ينبعث من العالم الآخر، فهي عالم مستقل يدعو إلى التأمل والاغتراب، يبدو هذا واضحاً من خلال السؤال التعجبي «كم غيبت الرموس من البشر؟!». ومع هذا الموت الذي يذكر بأن البقاء لله وحده، يلتفت الروائي إلى أن الحياة مهما تكن درجة الموت فيها، فإنها تستحق الاحتفال، حتى ان كان هذا الاحتفال عن طريق الجن «ما زال الجن في الصحراء يقيمون الولائم ويرقصون كل ليلة احتفالاً باليوم الجديد.. يحملون مشاعل الانتصار للحياة التي لا تبلى».
يسمع عامر من بعيد وشوشة أصوات المقبرة التي تشبه أصوات الطيور الصغيرة وهي تحلق في الأعالي، فيتهيأ له أن الأرواح تعاود أصحابها بين الحين والآخر، فتكون الوشوشة ونين أجنحة الأرواح العائدة إلى أجسادها. وكذلك يرى عامر «حزمة ضوء ما بين المقبرة وعنان السماء من التموج الساطع حتى لتحسبه اسطوانة لولبية ملونة من القوس قزح».
ونجد سطوح البيوت مسرحاً للحركة الاسطورية من خلال حركة القط الأسود الذي يراه الناس على أنه رسول من الجن يحضر إلى الإنس. بل ترى زوجة سليمان فوق السطوح فتاة جنية، تقول لزوجها «أقسم لك أنني رأيتها في وضح النهار.. لقد خفت منها حين لم تستمع إليّ وأنا أكلمها.. فقد مضت تخترق الأرض دون اهتمام بصوتي وتتحداني.. أقفلت عليها باب السطح، ولا أدري أين ذهبت عقب ذلك».
وتتحول غرفة عامر التي انتقل إليها الى غرفة من غرف ألف ليلة وليلة الخرافية عن طريق الجان: «يقيناً انه يعيش في جنة أو روضة من رياض الخلد في الفردوس.. فمن أين له هذا المنزل الباذخ رغم صغره، وهذه المرأة تقف على رأسه لتخدمه، وتلك الفتاة الكاعب ترعاه في ليله الطويل.. الليل الذي كان يغشاه فيه الشياطين والكوابيس ووجه شنقافه القبيح ذي الأسنان النخرة واللعاب السائلة والقطة المخيفة؟ حقاً إنه يحلم».
ويبدو باطن الارض مسكن الجن الرئيس، يلاحظ هذا من خلال اختفاء المخيم، وتعامل البشر مع الارض تحتهم، على اساس ان الجن يقطنونها!! وحزم الضوء التي يبعثها حراس الارض من باطنها الى السماء..
هكذا يبدو المكان المتعدد احاديا في احالته داخل بنية السرد الى ما يشبه الخرافي او الاسطوري المنبت من المخيال الشعبي!! لكن الناصر يحاول ان يوحي لنا بأنه يستل اماكنه من الذاكرة الشعبية البعيدة، فيلعب على وجدان المتلقي فيشعره بأنه تجاه مكان مختلف لا يعرفه، او انه مدعو الى التعامل مع المكان الخرافي الجديد!!
وعلى اية حال بدت علاقة الشخصية بالصحراء، والمقبرة، والحارة، والمنزل، علاقة محكومة بالبحث عن الغرائبي، الى حد لا تعرف فيه الشخصية ذاتها هل هي في الواقع ام في الخيال، ولو غابت هذه البنية المتشكلة من العلاقة الحميمة بين الواقعي والاسطوري في تناول المكان البطل المحوري عن الرواية، لربما غدت الرواية بمجملها تقريرية مباشرة لا تلفت الانتباه، وهذا ما سنجده ايضا في عالم الشخصية، حيث يختلط الواقعي بالاسطوري في بناء الشخصية، مما يشكل ما يعرف بالواقعية السحرية!!
رابعا: شنقافة وعالم الجن والارواح
يرى العم «صقر» ان الجان يعيشون مع الناس، وان اغلبهم مسلمون لا يؤذون احدا من الانس، لكنَّ بينهم كفرة ومشركين يحتكمون بالناس، فيحدثون لهم الاذى.
وهؤلاء الجان يسكنون باطن الارض، ويعمرون في الخرائب، ويسترون بالليل تحركاتهم السريعة بين الاقدام، ولا يسمع اصواتهم الا الاولياء يقرأ عامر في رقعة ورق عنهم:« تحت ضوء القمر، في اعماق الليالي التي يدلهم اولها فلا تبين الحدقة، ولا بسمة العروس ذات الجمال كالبدر، يخرجون متدثرين، بالضوء، لا يستر اجسادهم سوى نقيع الليل، وسلطان الغيب، ويلتفون حول الشجيرات الظمأى فيسقونها من شرابهم المصفى من عيون الشهد.. هكذا تبدأ سهرتهم بعد عراكهم مع الظلام، ينفثون من افواههم اعاصير الليل ودمدمة الرياح.
وقد تربى الناس منذ الصغر على الا يحاولوا ازعاج من تحتهم من الجان، بل ان النساء الكبيرات في السن لا يمشين الا وهن يبسملن ويقرأن القرآن، خوفا من اصطياد الجان للعقلاء من البشر، وقد حدث ان اصطادت جنية احد الرجال المتعلمين:« كان من الرجال المتعلمين، ومع ذلك وقع في الحبائل وترك العمل، بل تركوه في غرفة مظلمة لوحده يتحدث على هواه، ويأتي بحركات غريبة».
وقد يظهر الجان ايضا في صور الناس، فيعيشون بينهم، ومن امثلة هذا الظهور شخصية «شنقافة» المنحوت من:« شنفق آفة»، وهو علامة محورية في البنية الاسطورية داخل الرواية. انه شخص طويل القامة، داكن اللون، يرتدي ثوباً قاتما قديما، له وجه مستدير، تتوسطه اسنان بارزة وعينان جاحظتان، وشفتان غليظتان له يد كبيرة، ذات اصابع طويلة، وغير نظيفة، يلف غترته حول الجزء الاسفل من وجهه، ابتسامته مخيفة، وصوته مبحوح، غريب الاطوار كأنه من السحرة، يحك ابهام رجله الكبير بالارض، فيخرج خيطا من الدخان الاصفر، وتتقادح النيران من جسمه، يسكن في المقبرة فيبدو للآخرين معتوها قبيحا مسحورا او مسكونا، فبيته حفرة كبيرة يصعب النزول إليها، لا يفارقه كلبه المخيف مثله!! وبالتالي يمثل من خلال قبحه وثيابه الرثة ورائحته النتنة، الغول بعينه.. ومع ذلك فهو امير من الجن تقول عنه الغجرية:« حين يعود الى طبيعته «الجن» يصبح اجمل واحلى من ابناء اهل الارض، وزوجته الكلبة الضخمة تغار عليه، ولا تغفل عيناها عن حراسته، انه ابن امير من امراء اهل باطن الارض»..
ويظهر الجان ايضا في صور الحيوانات كما لاحظنا من خلال كلبة شنقافة التي هي زوجه، والقط الاسود الذي هو شاب من الجن احب الغجرية، والغترة المخططة التي هي الغجرية..
وتمثل شخصية العجوز التي وجدها عامر في غرفته تخدمه جنية من عالم الارواح، فهي تخبر عامر انها كانت جارة لامه قديما، وان امه التي توفيت منذ زمن طويل هي التي بعثتها اليه لتساعده، تقول له انا مرسلة من والدتك حتى اخدمك فلا تقلق انت لا تعرفني، وانا من جيرانكم في الحارة، وليس لدي ابناء لانني لم اتزوج، وانت ابني وزوجي في ديار الغربة. وكذلك تبدو الغجرية في بعض جوانبها فتاة جنية تصورت في صورة هناء حبيبة عامر قبل عشرين عاما.
ان عالم الجن والارواح عالم جوهري في اسطرة واقع الرواية، اي في بناء الشخصية والزمكانية واللغة. وتكاد هذه البنية ان تكون السبب المباشر في تحقيق تجدد الرواية عند ابراهيم الناصر!!
خامسا: أسطرة المرأة والحب:
تعد شخصية المرأة مركز الحب، وهي تشكل في الرواية البنية الاسطورية الفاعلة، فعندما كان سلطان في الصحراء بين ارواح الجان والاموات من البشر، بدأ من وجهة نظر عامر المثقف العارف بتصاريف الحياة وتقلباتها الواقعية والروحية، شخصية تندفع وراء سراب الآمال، فكان حبه للفتاة الشقراء التي تعمل في مكتب المدير في الشركة التي عمل بها، فكان حبه حبا مستحيلا، احب عينيها الزرقاوين، وفمها الصغير ذا الشفتين الرقيقتين ذواتي اللون الروماني، فهذا الحب اسطوري لانه الحب الذي تكسرت الرماح دون بلوغه.. ذلك الاحساس النقي.. الشفاف البريء.. ينبع بطواعية مثل انبثاق الماء من باطن الارض..
ويوجد ايضا الحب والحرمان بين عامر وجارته الفارسية الشقراء «هناء» فهو احبها قبل ان يعرف الحب عندما كان يراها، وهو طفل، من نافذة بيتهم تسير بين غرف بيتها لتساعد امها، وعرف ايضا انها محجوزة لقريبها، فكان حبهما مستحيلا، لذلك صارت حياته صحراء قاحلة خلال عشرين عاما تلت هذا الحب، حاملا ذكرياته معها، وهي تقوله له:« لن اكون لاحد.. لانني من عشيرة القمر، ومن ارادني فليتطاول حتى يقبض على نجمته في اعالي الافق، حيث تكتنز هذه اللغة بأسطورية العشق المستحيل في حياة عامر الذي بدأ يتعامل مع حبيبته الغائبة من خلال حضورها في احلامه وكوابيسه!!
وتتمثل الصورة المكبوتة عن الحب في كونه مصدر الحزن والالم، يظهر هذا في السؤال الذي يطرحه عامر في داخله «هل للحب جحيم.. وماذا عن النعيم؟» ويشير الى هذه الاشكالية الاسطورية من خلال قراءته لرواية «الحناء والكهل»، حيث تجسد فيها حب عميق بين حسناء شقراء احبت كهلا في الستين من العمر، وكانت المأساة في الفارق الكبير بينهما من جهة السن، فهي في ريعان الشاب والجمال، وهو شيخ ليس فيه ما يلفت النظر سوى عينيه الجريئتين، وقدرته على التحدث والسيطرة على من حوله بلطفه ودماثته. والمهم ان هذه الحماية وقصص العشاق الكثيرة كقصة رابعة العدوية، وقيس وليلى، تبدو اسطوريتها من كونها تحيل ابطالها الى شهداء الحب من وجهة نظر السرد!!
ويروي «منور» احد شخصيات الرواية عن ابيه قصة العشق والغرام التي سادت في جزيرة العرب منذ مئات السنين بوصفها اسطورة قديمة عن الحب الصادق، بين جبلين متجاورين الذكر «سنام» والانثى «طمية» فقد خانت «طمية» عشيقها وغازلت جبلا آخر، فرحل «سنام» مع صديقه الجمل في الصحراء، ولما هجمت الزواحف على الجمل، ولم يتبق منه سوى سنامه، حزن الجبل كثيرا على صديقه واستقر قرب العراق، وكان هذا كله بسبب خيانة «طمية»،حيث ضرب المثل على قصة العشق هذه فقالوا:« زعلت سنام على طمية».
تؤكد الرواية من خلال العلاقات السابقة مخزون علاقات الحب البائسة، لتمهد السياق لما يدور داخل العشق من خرافات تتمركز حول علاقات الغجرية بكل من الثعبان وسلطان، وعامر.
فالغجرية، فتاة عادية في العقد الثاني من عمرها، مديدة القوام، شعرها الناعم الطويل يبلغ عجيزتها، رشيقة الجسد، ذات عينين سوداوين، وانف صغير، وثياب براقة، وصدرها البارز يكتظ بالمصوغات البراقة، راقصة بارعة ومغنية موهوبة.
ينتمي هذا الجمال الفطري الغجري الى البادية، حيث عاشت راعية للغنم في النهار، وفي الليل تغني وترقص في الخيمة امام تجمع الرجال من اماكن شتى، فتكون صورتها مع اهلها على النحو التالي:« الغجر مفتاح القهر لاهل السياسة والمكر، يطوفون الدنيا وخاصة الصحاري، ولا احد يعرف لهم منبتا ولا مربطا ولا يستطيع ان يمنعهم من اكل الثعابين والحصرم، ويتناسلون بهدوء ولا يعرفون المدينة او البندر، عشقهم للمرح والحرية اذاب اماههم جميع العقبات، فجعل الارض جميعها مفتوحة لهم وبسلام، يدخلون ويخرجون من الممالك والاقطار وحتى من تحت الارض.
لكن الغرابة تبدو في شخصيتها من خلال علاقاتها بشنقافة البليد القذر، حيث يراهما عامر، معا، فلا يصدق هذه العلاقة بينهما «من يصدق ان القبيح شنقافة» يعرف تلك الهيفاء الغجرية الحسناء، او في قوله:« يا سبحان الله.. هذه الفتاة التي ابدع الخالق في تكوينها.. قريبة لهذه الكتلة البلدية».
اما الثعبان الاشقر المخيف الذي يلازم الغجرية، فهو كما نعرف منها شاب من الجن احبها، وقرر ان يلازمها ويدافع عنها حتى آخر يوم من حياتها، وهو في شكله المتحول الى ثعبان قادر ايضا على التحول الى حد ان يصير طيرا يراقب الناس من فوق المرتفعات، ونجده ايضا قطا اسود، يتبختر فوق السطوح رافعا ذيله، تلمع عيناه!! والقضية كما تقول الغجرية انها مع ثعبانها احبا عامرا معا فلازماه ولاحقاه. لذلك كثيرا ما اندس القط الاسود في فراش عامر فوق السطوح.
ومن جهة اخرى يلاحق سلطان الغجرية، فينثر عليها امواله، الى حد انه يقرر التنازل عن شركة المقاولات لشريكه من اجل ان يتفرغ للغجرية، ويصل الامر به في نهاية الراوية الي ما يشبه الجنون!!
اما قصة عامر مع الغجرية فهي تكاد تشكل جوهر العلاقة السردية بين الرجل والمرأة، فهو وجد نفسه مشدودا الى هذه المرأة بعد ان اخذه صديقه سلطان الى مخيم الغجر، فرآها ترقص فيه، ثم جاءته فوق السطح في لقطة سريعة، ووجدها في غرفة شنقافة في المقبرة بعد ان تحولت من الشاة «العنزة» الى امرأة عادية وشاهدها عدة مرات مع شنقافة، واخيرا جاءته الى غرفته، واقامت معه في سكنه في علاقة تشبه الخيال، فيظن الآخرون انه تزوج في السر من امرأة جميلة ذات شعر طويل وهو يظن في البداية انها حبيبته هناء، مما يعقد نهاية الرواية!!
سادسا: نهاية الرواية
تمثل اللوحتان الاخيرتان «19/20» مفتاح التمايز بين الواقعي والاسطوري في الرواية، وبالتالي انصح قارئ هذه الرواية ان يبدأ من هاتين اللوحتين، حتى لا يقع فيما وقعنا فيه من غموض تلبسنا الى ما قبل قراءة هاتين اللوحتين!!
يبدو ان الناصر اراد ان يقيم في نهاية روايته حالة الجنون التي تحيل الرواية الى العالم الخرافي او الاسطوري، وبذلك كانت نهاية بطليه «عامر وسلطان» الجنون على ايدي شخصيات الجان، وتحديدا على يدي الغجرية، الحسناء التي تحيط نفسها بمجموعة من شخصيات الجان، فاختلطت في شخصيتها اوهام الحب في الواقع واوهام الحب المجنون، اذ تمثل من خلال شخصيتها ذاكرة «هناء» عند عامر، وذاكرة فتاة الشركة عند سلطان.
تخبر الغجرية عامرا، بعد ان تحولت في حياته الى شهر زاد الرواية التي تحتكر عشيقها بحكيها، انها المسئولة عن اختفاء سلطان، لان هذ الاخير ازعجها بحبه لها، وهي لا تريده ان يقلق حبها لعامر الذي استمر عشرين عاما، كما تقول على اساس انها «هناء»، ولكنها تخبره انها احبته مع ثعبانها عندما شاهدته قادما مع سلطان الى المخيم، اي ان هذا الحب بوصفها غجرية او فتاة من الجان.
يظهر سلطان في النهاية على حالة من حالات الجنون، يحمل سيفا، ويتحدى عامرا، متهما اباه بانه اختطف عشيقته، لكن الثعبان ينقض على سلطان دفاعا عن عشيقته الغجرية، مما يتيح المجال لعامر ان يحمل سيف سلطان ليدافع عن عشيقته التي يراها متجسدة في هناء، فتكون نهاية عامر ايضا الجنون، اذ تنتهي الرواية بهذا النص: «توسلت اليه قائلة اننا هناء.. هل نسيتني؟ نفض رأسه وسيف سلطان في يده صارخا، والفتاة تحتمي بصدره: كلا.. ولن يأخذك احد مني.. حتى ثعبانك العاشق.. لابد ان اقضي عليه في الحال.. ولن يفلت مني.. رفع السيف. .فصدرت بروق.. وامطرت السماء.. بينما الثعبان مرفرف الجناحين ويلوذ بالظلام.
من خلال هذه النهاية يتحول عشاق الغجرية الحسناء «عامر وسلطان والثعبان» الى مجانين في الدفاع عنها، او في سعي كل منهم الى الاستئثار بها لنفسه، والسلاح هو السيف في يدي عامر وسلطان، اما الثعبان «الجني» فهو كالسيف عندما يلتف على وسط اعدائه!!
وعن طريق هذه النهاية ايضا احال الناصر روايته الى عمق المخيال الشعبي المتمحور حول الجنون الناتج من العلاقة بين الانسان والجان، وهذه النهاية ايضا قد تحيل الى نوع من الترميز الناتج عن اغتراب الشخصية في الواقع - وخاصة في سياق عياب الحب والمرأة - الى حد الجنون، فتكون الادلة الترميزية عميقة الايحاء في تصوير نمط الهروب الى المخيال الشعبي ابتعادا عن مواجهة الواقع الذي بدأ هو الآخر يتغير من خلال ظهور التلفاز. والتظاهر من اجل حرية الصحافة!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.