حكمةٌ أرادها اللّه سبحانه، وفضل امتنّ به على من شاء من عباده، فليست الهداية إلى معرفة اللّه، والانضواء تحت لواء الإسلام، ميراثاً ولا اختصاصاً لأحد دون أحد، سواء كان لمنصب قيادي، أو زعامة قبلية، أو، وفرة مال أو جاه، ولكنها نور يقذفه اللّه في قلوب من يشاء من عباده. وكما أخبر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله الكريم: «إن اللّه يرفع بهذا الدين أقواماً ويخفض آخرين» ففي الآخرة الأمن والنعيم المقيم، فهو أكبر رفع وتكريم وأفضل منزلة تتوق إليها النفوس. وإن لهذا الدين حلاوة ولوقعه في القلوب طلاوة، لا يحس بها، إلاّ من لامست بشاشته قلبه، فنسي مع هذه الحلاوة، أنواع الملذات الدنيوية، وصنوف المطاعم والمشارب المحسوسة، ليتحمل في هذا كل ما يعترضه باطمئنان ورضا وقناعة. ويبين أثر ذلك في كل من دخل الإسلام بعد كفر، ومن أحس بوجود نفسه مع دين الإسلام والتلذذ بالعبادات، بعد الضياع في بيئته السابقة، عمل بلا هدف، وتفكير بدون هويّة. دفعني إلى هذا الموضوع ما قرأته في عكاظ عدد الجمعة 17/4/1423ه عن تلك المليونيرة الفرنسية، التي هجرت قصر أبيها، بخدمه وحشمه، الرّافل في ملذات الدنيا، واتجهت للإسلام، واستطابت شظف العيش، وخشونة المسكن، وتحمل متاعب الحياة، والرضا بالكفاف تجوع يوماً، وترضا باليسير يوماً آخر، مستسلمة وقانعة، دون أن يدفعها ذلك إلى العودة لدين أسرتها النصرانية، أو المغريات التي وضعت أمامها. إنها قصة مثيرة جاءت تحت عنوان يكتبه د. عبدالعزيز أحمد سرحان: حكايات من فرنسا، وكتبت هذه الحلقة زوجته: حياة شهاب، في سرد شيّق ومؤثّر، ومرّ بها قبلها: سلمان الفارسي وإبراهيم بن الأدهم وغيرهما. ولا شك أن الأخت مريم الفرنسية. في مسيرتها مع طريق الهداية، وصمودها وتحمّلها في سبيل معتقدها الجديد الإسلام، الذي رضيت به عن قناعة، تدلّ على مضمون حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: «ذاق طعم الإيمان من رضي باللّه ربّاً، وبالإسلام ديناً وبمحمّد صلّى اللّه عليه وسلم، نبيّاً ورسولاً». هذا الطّعم الذي لا يتزحزح عنه، من تمكّن من قلبه هذا الدّين ، وهو الذي برز أثره، في الصفوة الأولى من هذه الأمة كآل ياسر، وهم عمّار بن ياسر، وأمّه وأبوه، الذين يعذبهم جبابرة قريش، ولا يتزحزحون عن عقيدتهم، ويزيدهم تمسّكاً بمبدئهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم يعذّبون في حرارة الصّيف حتّى يقول لهم: «صبراً آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنّة».. فتكون أمّ عمّار أول شهيدة في الإسلام، بضربة قاتلة من فرعون هذه الأمة: أبي جهل.. المذكور في الدّنيا، المنسيّ في الآخرة. وبلال الحبشيّ، لم يغفل قلبه، أو يتغيّر لسانه عن الثبات على الوحدانيّة لله: «أحد أحد» وجبابرة قريش ينالون منه: ضربا ً وتهديداً وتجويعاً وعطشاً، في شدة حرارة شمس تهامة. ثمّ هذا مصعب بن عمير الذّي كان من أنعم شباب قريش، نشأ في بيت غنى، وأمّه ثريّة تغدق عليه وتحبه جداً، فترك ذلك النّعيم الدنيويَّ، بعد أن أسلم، وأحسّ بلذة لا يعدلها لذّة، فترك ما يرفل فيه في رعاية أسرته، وكنف أمّه الحنون عليه اختياراً، لينعم بالإسلام مع خشونة العيش، حتى أنّه لمّا مات في المدينة بعد أن بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم مع الأنصار داعياً، وإماماً لم يجدوا ما يكفّنونه به إلاّ كساء قد بلي، إن غطوا به رأسه بانت رجلاه، وإن غطّوا رجليه ظهر رأسه. وفي المدينة بعد هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، نرى أمثلة كثيرة، منها قصة «مخيريق» الذّي كان كبيراً في اليهود، ولم يرضه اعتذارهم الواهي عن القتال إلى جانب محمّد وأصحابه الذين حالفوهم فراح يلوم قومه وينصحهم لما تجمّع الأحزاب ضد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فما وسعه إلاّ حفظ العهد فلبس عندئذ درعه، وحمل سيفه، ثم دخل على زوجته وابنه الرضيع فأفضى إليها بما عزم عليه، وهو أن يقاتل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى النهاية.. وقال لها: وإنّي قد أموت في هذا القتال، فإن يكن ذلك فارحلي مع ولدك وخادمنا إلى الشّام لتلحقي بأخي هناك حيث يسكن في دمشق. فمات وما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمّ يذكره بعد ذلك، ويقول: «مخيريق خير يهود». وقد جعله ابن عبدالبّر وغيره ممّن كتب تراجم للصّحابة من عدّتهم. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنّ الجيوش الإسلاميّة، في عهد عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه، لما فتحت الشّام وسلّم كبير قساوسة القدس، مفاتيحها لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وفي إحدى تلك الوقائع: دخل ابن مخيريق على أمه، وقد تقلد عدّة الحرب والجلاد، فسألته: إلى أين يا ولدي؟ قال: إلى القتال. قالت: ومع من تقاتل؟ قال: مع جند الإمبراطور الرّومي طبعاً، ألست من رعاياه؟ قالت الأّم التي يظهر أنها تأثرت بزوجها، وبما أسرّ لها من الوفاء بالعهد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم: على رسلك يا ولدي، حتى أحدّثك بحديث لم يشأ عمّك أن يحدّثك به حتى اليوم. قال: ما هو؟ قالت: أما وقد تأزّم الأمر، فإنّ في عنقي أن أقصّ عليك تاريخ أبيك، وحدّثتْه بما كان من أبيه مع قومه، وخروجه عليهم لأنهم خانوا العهد مع رسول اللّه، مما دفعه إلى القتال في صفوف المسلمين حتى قتل. استمع الشاب إلى حديث أمّه مصغياً، لا تفوته منه كلمة، وأطال السّكوت، ثمّ تركها وقد بيّت أمراً، ونوى في قلبه نيّة، لم تعلمها إلاّ بعد حين، لقد حكى فصول هذه القصّة، عن مخيريق وابنه وزوجه الدكتور طه حسين في كتابه (الأيام) بأسلوب أدبيّ شيّق، ومما قاله: إن هذه المرأة الطّيبة، كانت في بيتها في دمشق يوماً بعدما حكت لابنها عمل والده، وانتقاده لليهود بالمدينة، ونقضهم العهد مع رسول اللّه، وممالأة المشركين، وإذا بطارق يدق الباب، ويسأل عن أرملة مخيريق، وقامت الأمّ لتجد جنديّاً من جنود الإسلام ليقول لها: أبشري يا أَمَةَ اللّه لقد فاز ابنك بالشهّادة في صفوف المسلمين كما فعل والده من قبل.. هكذا يكون المحبّ للخير يدلّه على طريقه. إسلام الطُّفَيْلِ: كان الطُّفيل بن عمرو الدَّوْسِيُّ، سيّداً مطاعاً شريفاً في دَوْس، لمّا قدم مكّة حذَّره أشراف مكّة من الاجتماع برسول اللّه، أو سماع كلامه، فما زالوا به حتى لان لهم، فلما غدا للمسجد الحرام، حشا أذنه بالقطن، خوفاً أن يبلغه شيء من قول الرسول صلى اللّه عليه وسلّم قال: ولماّ دخلت المسجد إذا برسول اللّه قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريباً منه، فأبى اللّه إلا أن يُسمعني بعض قوله فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: إنني امرؤ لبيب شاعر، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل. فلما انصرف رسول اللّه إلى بيته، دخلت عليه. فأخبرته ما قال لي قومه، ثم قلت: اعرض عليّ أمرك فعرض عليّ الإسلام، وتلا عليّ القرآن، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت يا نبيّ اللّه إنيّ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادعُ اللّه أن يجعل لي آية، تكون عوناً لي عليهم، فيما أدعوهم إليه، فقال: «اللّهمّ اجعل له آية». فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنيّة تطلعني على الحاضر، وقع بين عينيّ نور مثل المصباح فقلت: اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنّوا بها مُثْلَةً وقعت في وجهي، لفراقي دينهم، فتحوّل فوقع في رأس سوطي، فجعل الحاضرون يتراءون ذلك النّور، في رأس سوطي كالقنديل المعلّق، وأنا أتهبّط عليهم من الثنيّة، حتى جئتهم. فصرت أدعوهم وأوّل من أسلم أبي ثم زوجتي، ثم دعوت دوساً فأبطأوا، فجئت رسول اللّه فقلت: إنه قد غلبني على دوس الزنا فادعُ عليهم، قال: «اللّهم اهد دَوْساً» ارجع إلى قومك، فادعهم وارفق بهم، فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام، حتى هاجر رسول اللّه إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي، ورسول اللّه بخيبر فلحقت به بمن معي من قومي فأسهم لنا مع المسلمين [البداية والنهاية لابن كثير باختصار 3:99].