لماذا الأربعون وليست الثلاثين أو الخمسين، يبدأ خلالها الانسان في الوقوف على مدائن العقل، والواقع.. وتقصي الحقائق، ومحاسبة النفس، والتماس العذر للآخرين، والنظر الى الأمور بحكمة، وتقدير العواقب.. وعدم الاندفاع وراء الاغراء كما كان قبل الأربعين، حتى في الحب يكون ذو الأربعين عاقلا في حبه، وعواطفه، حازما بالقدر الذي تستدعيه الضرورة.. يقول الدكتور محمد العوين في ملحق الأربعاء بجريدة المدينة العدد الصادر الأربعاء غرة ذي الحجة 1422ه: «أيتها الشعرة البيضاء المخاتلة.. أيتها الأربعون الخافقة الحائرة.. أيتها السنون الوجلة القلقة. أيها الزمن الذي لا نعلم كيف نحسبه بدءاً ونهاية ما السر الذي تنطوي عليه؟ وما قصة هذا الخافق المعذب بالرائحين والذاهبين والمنسربين من بيننا الى الصمت الأبدي المطبق وهل ثمة قصة تحكيها أجيال لاحقة عن هذا الذي نعلمه من أسرار البدء والختام لتبحث بعد ان تعلم كيف هو ممعنٌ ألم الاندقاق في الليالي الحالكات عن معنى ولو صغيراً في حدوث المتضادات من ألم وحبور، وسعادة وشقاء، وسواد وبياض، وحدوث وعدم، واصباح وامساء.. وغواية ورشد» انتهى. في تصوري أن الشعرة البيضاء صديقة الأربعين فاصلة بين زمنين، زمن يحلّق فيه الانسان كيفما أراد، بلا مسؤولية وحوله الصحاب والأحباب، وقبل ذلك وبعده، غالباً الأم والأب والاخوة والأصدقاء، وجمال الحياة عندما كان شاباً نضراً مورقاً قوياً صحيحاً معافى. الكل يرمقه بعين التسامح والحب والتشجيع والمناصحة، وقد يغض الطرف عن أخطائه وشقائه و«شقاوته» واسراف في أمره وليس مُعنى إلا بما يريده، ويرغب، ويهوى، ويعشق.. فتتبدى الحياة له مسرحا جميلا يمثل فيه دور البطل، الكل يسارع الى تحقيق رغباته ومآربه فهو لم يبلغ سن الرشد، وليس جديراً بحمل المسؤولية المادية والمعنوية والفكرية.. التي هي موضوع الدكتور محمد العوين في تياراته الجميلة.. ان المسؤولية الفكرية بعد سن الرشد تجعله يفكر، ويتأمل في الحياة التي بدأ التسرب في صهاريجها فها هو يفقد أماً وأبا وأصدقاء واخوة وزملاء. لقد قطع أربعين عاما ومن المحال ان يستمر الحال على ما كان عليه. فقد الحب، والعطف والحنان، والصفاء في الحياة، وجمالها، فقد التسامح الذي قد كان ما قبل الأربعين، انتهى من تحقيق كثير من طموحاته، ورغباته ونزواته أيضا، فقد الأجواء الجميلة، والحرية الزمنية، والمكانية، وأصبح مسؤولا كما كان مسؤولا عنه!!. ما الذي فعل هذا به؟؟ إنه الموت الذي غيَّب عنه أولئك الناس الذين أحبوه، وأعطوه، وأغدقوا عليه بفيض من عطائهم، ومشاعرهم، وتسامحهم.. لقد أضحوا في غياهب العدم، ومن المحال ان يجد بديلا عنهم وأنى له ذلك.. بل أصبح لديه من هو بحاجة اليه أيضا.. هنا يتساءل صاحب الأربعين عن الموت، وعن حقائق أخرى مرتبطة به، النظر الى الحياة من منظور آخر، ومن فكر متنوع حذر، يفكر في سر الحياة، والموت، وتعاقب الأجيال، وتبدل الأحوال وتبادل المواقع، الخوف من المستقبل، التوبة النصوح، النظر الى الدنيا على أنها دار ممر، الحساب، لم يعد الوقت مناسبا للنظر الى ما ترغبه النفس وما تشتهيه وما توقع به عندما كان في يفاعة الشباب، ومرابع الصبا!!. إذن الفكر في حالة غليان، بعدما كان الجسد يغلي، ومع هذا الخطب المدلهم الذي يلازمه أنى سار من الفكر الباحث المتقصي، وتقدير الأمور، والأهوال الفكرية التي تجول في أروقة رأسه تتداعى تلك الشعيرات البيضاء على ليل رأسه الأسود لتفتك بظلام البعد عن الحقيقة، وتنشر بياض المعرفة، في رأس ذلك المجاوز لعالم الأربعين.. ويرتبط البياض في الأغلب الأعم، ببياض الفكر ونصاعة الحقيقة المرة والوحيدة حقيقة الموت.. وأسئلة العوين في تياراته نتاج لما يمر به من هو في مثل العوين في عمق الطرح الفكري الواضع يده على عمق الحقيقة.. ذلك الطرح الانساني في حالة تأمل بين ما كان وما هو واقع. والله سبحانه وتعالى أمرنا بالتفكر والتدبر والتأمل بقوله تعالى:{وّفٌي أّنفٍسٌكٍمً أّفّلا تٍبًصٌرٍونّ} الآية.. غير أننا أمام هذه الأزمة الفكرية نحتاج لأمر واحد ولا غيره إنه الايمان بالله سبحانه وتعالى، وبالقضاء والقدر وان النار حق والجنة حق وان الموت حق.. أشكر للدكتور العوين طرحه الفكري العميق النابض بكل ما هو جميل. [email protected]