عندما رأيت الشقاء الذي رسمته الأعوام الثمانية عشر في الاحتجاز القسري على وجهه والأخاديد التي حفرتها في جلده وفراغات الأسنان التي خلعتها من فكيه أحسست كأن قبضةً خانقةً أطبقت على حنجرتي وحبست أنفاسي. تخيلته وأنا أتفحص صورته في الجريدة أنه هو الذي يحدق في وجهي قائلاً حسبي الله عليكم جميعاًً وعلى بلادكم التي يمكن أن يحدث فيها مثل هذا الظلم ولا يكتشف إلا بالصدفة، وحسبي الله على شرطتكم ودورياتكم ومؤسساتكم الاحتسابية التي تكتفي بالدوران في أسواق المدن والتحري عما قد يشوش على أعرافكم وتقاليدكم المحلية. أما بلادي الهند فقد سبق أن نفضت يداي منها منذ أن شحت علي فغادرتها بعد زواجي بنصف عام طلباً للرزق في صحرائكم الواسعة ومتاهاتها الظالمة. لعلكم عرفتم الآن من أتحدث عنه. إنه ذلك العامل الهندي البائس الذي قدم قبل ثماني عشرة سنة إلى المملكة للعمل براتب أربعمائة ريال فانتهى به الأمر محتجزاً في حظيرة أغنام في قرية عماير بن صنعا على بعد 160 كيلومتراًً من مدينة حائل. لم يكن مخفر شرطة عماير بن صنعا يبعد عن حظيرته سوى خمسين كيلومتراًً، لكنها كانت مسافةً كافيةًً لإهلاكه عطشاً لو حاول الهرب وهو التائه الغريب وسط صحراء لا يعرف جهاتها الأربع. ما حصل لذلك الهندي الذي حذفته الأقدار إلى بلادنا تقشعر له الأبدان وتنقبض له أقسى النفوس. استلم من كفيله ثلاثة رواتب مقدارها ألف ومئتا ريال لقاء عمله لرعي المواشي، والباقي من استحقاقات الثماني عشرة سنةً اختفى في ذمة الكفيل السعودي. المأساة هي أن مسألة المال تهون إزاء ما ضاع من عمره في صحراء التيه تلك وما تعرض له من عزل قسري عن التواصل مع أهله وزوجته وعن الحياة بكاملها مع البشر. أرجوكم بحق الإنسانية أن تقتطعوا بضع دقائق من أوقاتكم للتأمل في الهموم التي كانت تجثم على قلبه والهواجس التي دارت في عقله والظلمة الحالكة التي كانت تلفه والحنين الصامت الحزين المستكن بين أضلاعه لأهله وزوجته الصغيرة التي تركها على أمل عودته إليها بالأموال من بلاد النفط والسمن والعسل. ذكرتني قصة هذا الهندي التائه المغدور، وهو تائه ومغدور بالفعل بالمعنى الجغرافي والإنساني والحقوقي وبكل معاني الحياة، لقد ذكرتني قصته بقصة شخص يدعى ألفريد درايفوس وبموقف جمعية المثقفين الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر في قضية تهمة الخيانة العظمى التي وجهت إليه. كان ألفريد درايفوس ضابطاً فرنسياً ديانته اليهودية في عصر وظرف كانت الأحوال الاجتماعية والعقائدية في فرنسا كاثوليكية متعصبة ومتحيزة ضد أتباع العقائد والمذاهب الأخرى، ومنحازة بشكل أقبح ضد الأعراق والأجناس المغايرة. ما حصل هو أن الضابط درايفوس اتهم بالخيانة العظمى ضد بلده فرنسا لصالح الألمان وقدم للمحاكمة العسكرية وحكم عليه مستعجلاً بالسجن مدى الحياة، لكنه ظل يصر ويقسم على براءته. بعد أن مرت سنتان عليه في السجن عثر عضو في هيئة الأركان العسكرية الفرنسة على وثائق تثبت براءة درايفوس، لكنه تخلى عن الموضوع بأمر من رؤسائه، غير أن الحقيقة وصلت إلى الشارع. كانت هي تلك اللحظة التاريخية المشرفة لمؤسسات المجتمع المدني الفرنسية وعالم الفكر والأدب حيث تكاتفت الجهود والمطالب بإعادة المحاكمة. كان أبرز من تصدى لرفع الظلم عن المتهم المدان جمعية المثقفين والأدباء الفرنسيين فأصدرت «بيان المثقفين»، ومن أهم ركائزه الأخلاقية والحقوقية رسالة الكاتب الكبير إيميل زولا المعنونة: إني أتهم. خاضت المؤسسات الحقوقية المدنية وجمعيات المثقفين والأدباء في فرنسا معركة شرسة ضد المؤسسة العسكرية والكنيسة الكاثوليكية وضد المجتمع الفرنسي المتعصب، وكسبوا القضية التي انتهت بتبرئة ألفريد درايفوس. للأسف ليست لي أضلاع إيميل زولا ولا أستطيع الاتكاء على مثل مؤسسات المجتمع المدني الفرنسي، لكنني سوف أتوكل على الله وأوجه الاتهام عن المسؤولية في مأساة العامل الهندي إلى عدة جهات، ولكن في الحلقة القادمة إن شاء الله وسنحت الظروف.