في خبر عن محاكمة مستمرة لامرأة في لندن بتهمة تسميم عشيقها السابق وخطيبته بطبخة دجاج «بالكرّي» قرأت هذه السطور «لاخفير كاور سنغ، 40 سنة، متهمة بوضع سم قديم يعرف باسم ملك السموم، أو اقونيط Aconite، في طبخة «الكرّي» لقتل المستر تشيما، صديقها على امتداد 16 سنة والمس تشوغ». قصة غرام وانتقام في لندن انتهت بموت العشيق ونجاة خطيبته لأنها لم تأكل إلا قليلاً أعادت إليّ ذكرى يوم لا ينسى من بدايات عملي في الصحافة في بيروت. كنت رئيس نوبة العمل صباح الخامس من حزيران (يونيو) 1967 في وكالة رويترز في بيروت، ووقعت تلك الحرب المشؤومة وطالت النوبة من ست ساعات الى ستة أيام، وضاعت القدس، وذهبتُ بعدها الى الأغوار في الأردن ورأيت النازحين الجدد، وعدت الى بيروت لأستأنف عملي في مكاتب الوكالة، وكانت في بناية أونيون الضخمة قرب حديقة الصنائع. كانت لي نوبة المساء يوم 14 ايلول (سبتمبر) 1967، وترجمت، يساعدني اثنان من المحررين، الأخبار العربية من المنطقة وأرسلناها الى لندن، وترجمنا الأخبار العالمية الواردة من لندن الى العربية للتوزيع على وسائل الإعلام في الشرق الأوسط كله. وكان مساعدي في إعداد نشرة الأخبار بالإنكليزية الصديق حنا عنبر الذي انتقل بعد ذلك ليعمل في «الديلي ستار» وأنا رئيس تحريرها، ولا يزال من أركان جريدتي القديمة العزيزة. كان من عملنا ان نتنصت على نشرات أخبار الإذاعات العربية الرسمية، وأهمها نشرة الساعة التاسعة مساء في راديو القاهرة فقد كنا نعيش عصر جمال عبدالناصر الذي بقي على شعبيته منتصراً مهزوماً. لم أسمع أخباراً تستحق النقل عن راديو القاهرة ذلك المساء. كذلك لم أسمع شيئاً مهماً وأنا أتابع راديو بغداد عبر الموجة القصيرة. وقررت وقد اقتربت الساعة من العاشرة مساء أن أبحث في الإذاعات العربية عن أغنية لأم كلثوم فقد كانت أغانيها تذاع في المساء. مررت بإذاعة صوت العرب فإذا بي أسمع مذيع نشرة الأخبار يقول «بيان عن انتحار المشير عبدالكريم عامر» ثم يكمل بموجز الأخبار. ترجمت بسرعة كلمات المذيع الى الإنكليزية إلا أنني ترددت في إرسال الخبر المستعجل الى لندن، لأن الموجز لم يوضح هل المشير عامر انتحر ومات، أو حاول الانتحار ونجا. لم تطل حيرتي فعندما انتقل المذيع الى الأخبار الكاملة وجدته يبدأ بقراءة بيان طبي عن انتحار المشير ضم في بدايته أسماء الأطباء الذين فحصوه، وكانوا من نوع «اللواء الطبيب» و «العميد الطبيب»، وأكتب من الذاكرة، فالمشير كان تحت الإقامة الجبرية، ونقل الى المستشفى في محاولة لإنقاذه بعد تناول سم الاقونيط. ترجمت البيان حرفياً، وكان عمال الطباعة يتناولون من يدي الصفحات لطبعها على التلكس، قبل الفاكس والبريد الالكتروني، ثم جاء في البيان أن المشير انتحر بتناول سم الاقونيط الذي خبأه في حزام مربوط حول ساقه أو بطنه وهو يواجه احتمال محاكمته مع ضباط آخرين. لم أكن قد سمعت بهذا السم من قبل وصرخت بالمساعدين ان يبحثوا لي في القواميس عنه، فعثروا عليه، وأكملت الترجمة تقريباً مع انتهاء قراءة البيان على الراديو. السبق الصحافي بين وكالات الأنباء العالمية يحسب بالدقائق، غير أنني سبقت الوكالات الأخرى بأكثر من نصف ساعة فنشرة أخبار «صوت العرب» لم تكن مصدر أخبار مهمة عن مصر، لأن الأساس هو نشرة أخبار الساعة التاسعة مساء على راديو القاهرة. ويبدو أن العاملين في الوكالات الأخرى لم يبحثوا عن أغنية لأم كلثوم كما فعلت، ففاتهم الخبر الذي «تفردت» به الى ان بدأت الإذاعات الغربية تنقله عن رويترز. بعد أسبوع من تلك الليلة التاريخية تلقيت من رئاسة رويترز في لندن رسالة تهنئني على «السبق» الذي حققته وتقول إن حُسن الانتباه من صفات الصحافي الناجح. ولم أقل طبعاً إنني كنت أبحث عن أم كلثوم. بعد 42 سنة كاملة عاد سم الاقونيط ليذكرني بتلك الليلة المشهودة، ففي العمل الصحافي قد تمر مئة يوم أو سنة من دون خبر تختزنه الذاكرة، ثم يأتي خبر لا يُنسى. الأخبار الكبرى تحمل كلمة «فلاش» فوقها «إشارة» الى أهميتها، وأذكر من الستينات أنني رأيت «فلاشات» أولها اغتيال الرئيس جون كينيدي، ثم القنبلة النووية الصينية، وبعدها إطاحة نيكيتا خروشوف، وآخرها موت جمال عبدالناصر. وكان لي من «فلاشات» العقد انتحار المشير عبدالحكيم عامر، رحمه الله ورحمنا. [email protected]