في شوارع مدينة برلين هذه الأيام، أنشطة مختلفة بمناسبة مرور 80 عاماً على صعود الحزب النازي للحكم. السمة الرئيسة التي تجمع هذه الأنشطة، هي استعراض كيف قام النازيون بتدمير التنوّع الاجتماعي للمدينة من أجل عدم تكرار ذلك. في شارع محدد هناك، تجد في أحد أطرافه مجموعة من اللوحات تستعرض كل واحدة منها صورة لمفكر أو فنان أو أديب فر من برلين إبان حكم من يوجد في الطرف الآخر من الشارع صور كيفية صعوده للحكم والتصويت له، أي آدولف هتلر. من بين صور الشخصيات الموجودة في الطرف الآخر، كانت هناك صورة الفيلسوفة حنة أرندت التي فرّت من برلين إلى فرنسا مع بدايات الحملة التي بدأت تشنها النازية ضد اليهود هناك. في فرنسا عاشت أرندت هناك لأعوام كلاجئة، وتجربة اللجوء هذه، تجربة أن تكون إنسان بلا دولة، هي الحدث الأبرز الذي صاغ منحى كتاباتها في الفلسفة السياسية في ما بعد. كان أوّل مأخذ حملته أرندت على الفلسفة السياسية هو استخفافها بالتمييز بين الظواهر، وعدم استخدام المصطلحات مأخذ الجد، وأن اختلاف الألفاظ لهو مؤشر على أنه اختلاف لشيء في الظواهر نفسها يستحق الاهتمام والتمييز. ونتيجة لهذا الحرص، كان من أهم ما خلفته لنا هو الفحص المدقق لكثير من التمايزات. كيف أن الدولة الشمولية ظاهرة مختلفة عن الدولة المستبدة، كيف أن نشاط الكدح يختلف عن نشاط الصناعة وعن نشاط العمل. إلا أن أحد أهم التمييزات التي سعت لتوضيحها هو التمييز بين «القوّة» و«العنف». فقد جرت العادة في الأدبيات السياسية على اعتبار أن القوة والعنف مصطلحان لظاهرة واحدة ذلك لأنه منذ اليونان والسياسة يتم النظر إليها باعتبارها ميدانا للهيمنة. ففي تقسيم أرسطو للدول - دولة مستبدة، دولة ديموقراطية، دولة أرستقراطية - نجد أن معيار التقسيم هو هوية المهيمن، فرداً كان أم نخبة أم عامة، هذا الاختزال للسياسة باعتبارها محض هيمنة نجد اكتماله في التعريف الذي يضعه ماكس فيبر للدولة «حكم الناس للناس والمبني على الاستخدام الشرعي - أو ما يدعى أنه شرعي - للعنف». بالنسبة لأرندت، فإن اختزال السياسة لمحض هيمنة هو الخطيئة الرئيسة لتراث الفلسفة السياسية وذلك لسببين. الأول، أن الهيمنة أي إخضاع الآخرين بالعنف هو ظاهرة غير سياسية، نشأت وتطورت في الحيز الخاص للأفراد. ذلك أنه - قبل التقنية الحديثة - ما كان بالإمكان للأفراد أن يتحرروا من همّ تدبير حاجاتهم اليومية إلا عبر إخضاع أفراد آخرين لهم ليقوموا بهذا الدور، أي استعبادهم. فالهيمنة هي ظاهرة «ما قبل سياسية» مكانها الحيز الخاص ونموذجها علاقة السيد بعبده، أي العلاقة التي لم تقم «السياسة» بإنهائها بقدر ما قامت بذلك التقنية. أما السبب الثاني فهو أن هذا الاختزال للسياسة إلى محض هيمنة يلغي الفوارق بين القوّة والعنف، ويعتبر مجرد مدّ أدوات العنف يقتضي امتداداً للقوّة. إلا أن موقف للعلاقة بين القوّة والعنف مختلف، ذلك لأن كل واحد منهما ينتمي لطبيعة من العمل مختلفة. فبالنسبة لها، يظهر العنف عندما تختفي القوّة، ويستطيع العنف أن ينهي قوّة، لكنه لا يستطيع بناءها. ماذا يعني هذا الكلام؟ إن فهمه يحتاج إلى استيعاب تقسيم أرندت للنشاط العملي في شكل عام. فالعمل لديها ينقسم لثلاثة، فهناك ثلاثة أنشطة عملية رئيسة: كدح، وهو تدبير الحاجات اليومية، وهو الدافع الذي لأجله تم تأسيس مؤسسة العبودية من أجل تحرير السيد من هذه الحاجات. النوع الثاني هو الصناعة، أي مثل بناء المنزل. أما النوع الأخير فهو العمل الذي لا يتم إلا بين البشر وليس عبرهم أو ضدهم، مثل الحديث والتواصل. فالعنف ينتمي لهذا النوع الثاني من الأعمال، أي الصناعة. فبالنسبة لها، العنف: أداة، أو وسيلة، هو في شكله البسيط يتشكل على شكل عنف جسدي، إلا أن هذا الشكل قد تتم مضاعفته عبر أدوات أخرى نسميها أسلحة. فالعنف الذي يمارسه من يمتلك مسدساً قد يكون أكثر بكثير من العنف الذي قد يمارسه شخص أشد بأساً منه من الناحية الجسدية. العنف وسيلة مثل ما إن الهندسة وسيلة، تستطيع بالهندسة بناء منزل وتستطيع من خلالها تطوير سلاح. أي أنه عمل يتم في شكل منفرد، بتخطيط، يستخدم لغرض محدد مسبقاً. في المقابل تنتمي القوة إلى النوع الثالث أي العمل. العمل يمارسه البشر لأنهم متنوعون، أي أنهم متمايزون عن بعضهم في الوقت نفسه الذي هم فيه متساوون. فالحديث بين شخصين لا يمكن أن يتم لو كان هذان الشخصان متطابقين، إذ لاكتفوا حينها بالإشارة، وكذلك الحديث ليس ممكناً لو كانوا غير متساويين، إذ إنه سيكون حينها أمراً أو توسلاً. فالعمل بطبيعته ليس هرمياً وليس وسيلة، أي أنه يظهر بين الناس، وليس بواسطتهم ولا ضدهم. وهذه الطبيعة تجعله عفوياً، غير قابل للتنبؤ، لأنه غير خاضع للحاجات كالكدح ولا للخطط المسبقة كالصناعة، بل هو حرّ بطبيعته. عندما تنحسر القوّة، أي قدرة حكومة ما على العمل سوية مع المواطنين، فإنها تلجأ للعنف لإخضاعهم لإرادتها. فكل ممارسة للعنف، كل ظهور له، كل انتشار له، هو مؤشر لغياب القوّة، وبالتالي غياب السياسة معها، والعودة لحالة «ما قبل سياسية». [email protected] @sultaan_1