حين تبرد العاطفة، ويتغيّر نوع التجربة، ويخف الإحساس بجوع الدنيا بتقدم العمر أو الزهد فيه، عندها قد يتحوّل الشاعر الرومانسي إلى شعر الحكمة، إذ يطل العقل بمنطقيته، وأحياناً بصقيعه، وقد يستغرب البعض شعر المرحلتين لدى الشاعر نفسه، مرحلة العاطفة المتأججة، ومرحلة العاطفة لمّا خبت، ففي الأولى استيقظت كل المدارك الشعورية، وفي الثانية لم يعد التفتّح، ولم يكن الشعر إلاّ بمقدار، فماذا عن حكمة المتنبي؟ هذا الشاعر الكبير كان يدرك أكثر مما يتأثر، أو لنقل كان قادراً على عقلنة انفعاله باللحظة وصياغتها بهيئة حكمة مثيرة ومتحركة، وكأنها بكل معانيها ورموزها من صنع شاعرها، مع أنها كانت موجودة من قبله، ولكن إليه يعزو الفضل في استنباطها وتلميعها، فالمتنبي بامتلائه واستعلائه، استطاع أن يدرك العالم من خلال ذاته، وأن يدرك ذاته من خلال العالم، بل وتمكّن من إيجاد الصلة التي تجاوز بها ذاته وحتى زمانه، فإلى يومنا لا نزال نردد حكمته، ونتعجب كيف بلغته معانيها. فهل تُعد الحكمة فلسفة؟ الفلسفة تهدف إلى إيجاد النظريات المفسِّرة للعلاقات بين مجموعة من الأشياء وإلى تحديد مواقف الإنسان من المطلق ومن الحياة والأحياء والموت والأموات، فهل تفعل الحكمة ذلك؟ ليس من مهمتها إيجاد النظريات، ولكنها رأي خاص يلخِّص تجربة إنسان، قد تقرأها وتنفعل بها، وقد لا تعنيك ولا ما رمت إليه، فالشاعر الحكيم ليس فيلسوفاً، وإن حاول الانتقال إلى الفلسفة، فقد يوفق كشاعر ويسقط كفيلسوف، وهذا المعري أراد الجمع بين الاثنين، فاختلف النقاد حوله في الاثنين، وإن ظلت فلسفته أشعر بكثير ممن ادعوها في شعرهم ثم صدّقوها. وبالعودة إلى الحكمة نقول هي تلك التي عناها نيتشه بوصفها ب«المثير الذي يستفز فيك الخيال وانطلاقه في آن»، فماذا إن شطح الخيال، إن شطح ووصل إلى منطقة الوهم عن إرادة واختيار؟ هنا قد ينقلب الشاعر العقلاني الحكيم إلى فنان مبدع كبير، ذلك أن الفن هو محصلة الاختيار الإرادي للوهم، على حد تعبير «شوبنهور»، فيُقال إن الشاعر الحق هو الذي لا يكتفي بمنهجية العقل، أو بتنظيم الفكر، وإنما هو الذي تهزّنا «لا نظامية نظامه»، وهو كلام منطقي، فتصور إن صفصف لنا الفنان ما اعتدنا عليه، فأين ذاتيته المبدعة في العمل؟ لذلك قد يُقتل المبدع فينا إن حاول أن يخرج من سجن العقل الاعتيادي إلى فضاء أرحب، ودنيا من الإحساس أمتع، وعالم من التخيلات يصبح معها قادراً على إثارة عقله ودفعه إلى حمى التغيير، فإذا هو الغريب بعينين مبصرتين وسط جيش من العميان. كلما ازدادت الثقافة ازداد عمل العقل، وفي المقابل كلما انخفض مؤشرها عجز العقل، أو لنقل تكاسل عن تشغيل آلته، وشاعر مثل أبو العتاهية كان من المقربين إلى عامة الناس بأصنافهم، من عمل منهم عقله ومن أراحه، وذلك لما في تعبيره من بساطة وعفوية الجميع، فلا تشعر معه برهبة النص كما مع أبي تمام والمتنبي، ولكنك لا تحصل أيضاً على سهولة مجانية لا تقول شيئاً، فمما روي عنه في مجلس هارون الرشيد أنه تحدث عن البرامكة، وكيف أن الرشيد يقبض عليهم ويولي غيرهم ممن لا يستحقون الوزارة، فغضب الرشيد منه وصاح به، فلمّا كان بعد أيام دعاه الخليفة إلى مجلسه، فكان أن أنشد في حضرة الرشيد أبياتاً جاء فيها: «فلو قدّم صب في/هواه الصبر والرفق، لقدمت على الناس/ ولكن الهوى رزق»، فضحك الرشيد وقال: «يا إسحاق قد صرت حقوداً»، فتأمل المعنى في قوله: «ولكن الهوى رزق»، حكمة ضُغطت في ثلاث كلمات محمّلة بظلال النفس وتجربتها، وكل معنى قديم وله ثوب جديد، فالمعاني كما يقول الجاحظ: «مطروحة في الطريق يلتقطها البر والفاجر»، إنما ماذا بعد التقاطها؟ كيف تعالجها بعد أن كادت تبلى بين أصابع من سبقك، فإذا هي تضيء بين يديك بعد أن لامست روحك؟ فكما أن الهوى رزق، كذلك هي الروح رزق، وروح تُضيء فتُحيّي، وروح تُعتِم فتُميت. كاتبة سعودية [email protected]