أثناء العودة من القاهرة ينتابني شعور الزائر المغادر بمقدار ما اعيش إحساس المقيم المسافر، فهذه المدينة التي أتيتها عشرات المرّات عرفتها قبل أن أعرفها، حتى باتت الأمكنة والأسماء تتداعى كأنها من ذاكرة طفولة أو من وقائع ماض ٍ قريب. والألفة الحميمة الناشئة مع المكان وأهله لا تعود لكثرة «الزيارات»، بمقدار انتسابها الى معرفةٍ سابقة على الزيارة المادية أو الجسدية وعلى اختراع الطائرات والمطارات! هذه الأمكنة أعرفها، وكذلك الوجوه. جلتُ فيها على صفحات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس وشاهدتها في سينما حسن الإمام وهنري بركات وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين وعاطف الطيّب وأصغيت اليها في قصائد صلاح عبدالصبور وأمل دنقل وأحمد فؤاد نجم وعبدالرحمن الابنودي وصلاح جاهين وسيّد حجاب. وانتشيت بها في صوت أم كلثوم وعبدالوهاب وكارم محمود وعبدالحليم وفريد الأطرش وأسمهان، ومن هم قبل هؤلاء وبعد هؤلاء ممن منحتنا إياهم القاهرة، سواء أولئك الذين جاؤوها من أنحاء مصر ومن خارجها فصهرتهم وانصهروا بها، وأعطتهم من خميرتها ليصنعوا رغيفها الإبداعي الذي يظل شهياً ساخناً مهما دارت الأيام أو جارت. كلما تركت المدينة في اتجاه مطارها شعرت انني أترك مكاناً أعرفه تمام المعرفة. لم أسكنه - صحيح - لكنه سكنني على الدوام. ومن منا، ليس له من القاهرة نصيب؟ ثمة مدن تشبه الجدات والأمهات، وتروي على مسامعنا حكايات تؤسس مداميك الوعي والوجدان، وهكذا هي القاهرة التي تجيد مراوغة الزمن والنوائب والمحن، وتبتكر وسائل العيش وأسباب الحياة مثلما تبتكر الطرائف وتنتزع القهقهة من أعماق قلبك، واقع حالٍ برمته وتغنيك عن «وجع القلب» الذي يسببه المنظّرون والمحللون. الحب لا يغني عن النقد والمساءلة، وصديقك من صدقك لا من صدّقك. وكما في القاهرة كثير من أسباب الفرح والضحك، كذلك فيها كثير من أسباب الوجع والدمع، خصوصاً لجهة التصالح مع الذاكرة وعلاقة الجيل الحالي بماضيه وماضي أسلافه (سبق لهذه الزاوية الاشارة الى مسرحية «قهوة سادة» التي تعالج هذه النقطة بالذات)، وهذا الأمر لا يطاول القاهرة وحدها بل المدن العربية كافة، وإذ نقول المدن فإننا نعني ونقصد البلاد، كل البلاد المترامية بين ماءين: محيط وخليج! صباح الخميس المنصرم أقلني السائق الشاب من المطار الى الفندق معبّراً عن فرحته بخلو الشوارع من زحمة السير المعتادة عازياً السبب الى عطلة نهاية الأسبوع. لكنه حين عاد في المساء ليقلّني من الفندق الى استوديو نحّاس العريق استدرك قائلاً عن أسباب غياب الزحام: أصله النهار ده إجازة، 23 يوليو عيد تحرير سينا!! طبعاً صححت للشاب المصري خطأه، وشرحت له ماذا يعني 23 يوليو في تاريخ مصر، ولم استغرب الأمر كثيراً، فما الذي يعرفه شاب لبناني في العمر نفسه عن أحداث العام 1958 مثلاً، او شاب سوري عن ميسلون أو جزائري عن جميلة بو حيرد أو...أو... أو... ألسنا أبناء بلادٍ مصابة بمرض فقدان الذاكرة؟! ألا نعاني جميعاً من الزهايمر «تاريخي وثقافي واجتماعي وسياسي» الخ...؟ في طريق عودتي من الاستوديو الى الفندق، ومن الفندق الى المطار رحت افتش في الوجوه والأمكنة عمّا بقي من 23 يوليو غير يوم الإجازة، وفي مفكرة أيامي عن موعد عودتي الى مدينة أحبها في مختلف حالاتها وكل أحوالها.