لعل جريمة قتل المهندس الشاب أحمد عيد في مدينة السويس، وما خلّفته من شعور بالثكل لدى أمه، والعجز لدى أبيه، والألم لدينا جميعاً، هى إحدى أقبح الجرائم التي شهدتها مصر الثورة وأخطرها، إذ تمثل نموذجاً عملياً ومشهداً درامياً حزيناً لما يمكن أن نكونه أو نعانيه إذا ما انفلت حبل الدولة المدنية من أيدينا، وحلقت غيوم الدولة الدينية على أيامنا، طافحة بالشر الذي يتصوره البعض مقدساً، والقهر الذي يراه الكثيرون شرعاً، والخوف الذي يرونه جميعاً إصلاحاً وتهذيباً. دان الإخوان الجريمة، ونفاها السلفيون عن أنفسهم، كما تبرأ منها أقطاب الجماعة الإسلامية. وقد تكون الإدانة صادقة، والنفي حقيقياً، والتبرؤ صحيحاً، وأنهم جميعاً لا يكذبون، ولكن جميعهم يظلون مسؤولين، خصوصاً السلفيين، لأن كثيراً من خطاباتهم وتصرفاتهم مهدت له، بل إن كثيراً من شيوخهم دعوا صراحة إليه. وهو ما لم يستنكره السلفيون صراحة، ولم يدنْه الإخوان كلية، بل راوغ الجميع حوله وإزاءه حتى وقعت الجريمة التي تشكل طعنة نافذة في قلب دولتهم الراسخة، ومدنيتهم العريقة، وتسامحهم الموروث. لا يتوقف الأمر في الحقيقة عند ذلك الحادث الدرامي، فمثله وإن بدرجة أقل، صار يتواتر، كما حصل لفتاة في حي المعادي انتَهَكَت خصوصيتَها منتقباتٌ لعدم ارتدائها الحجاب، بل إن المحجبات صرن يتعرضن لمضايقات في محافظات الدلتا لأنهن غير محجبات بما يكفي، أو حتى غير منتقبات. وإذا ما أضفنا إلى ذلك المماحكات المستمرة حول المادة الثانية من الدستور وإصرار التيار السلفي على تضييق الاجتهاد الفقهي، يصبح الأمر أخطر، على نحو كشف عنه رئيس حزب الأصالة عندما دعا صراحة إلى خفض سقوف الحرية الشخصية، خصوصاً على صعيد لباس المرأة، عندما قال: «لسنا في فرنسا كي يرتدي كل شخص ما يحلو له» . تسهل هنا إدانة التيار السلفي، ولكنها إدانة غير مفيدة وربما غير عادلة، فهذا التيار لم يكن قبل أشهر مندمجاً في أي عملية سياسية، ولم يكشف أي استعداد لذلك، كما أن تلك الأفكار الصادرة عنه هي أفكاره المعروفة عنه، والتي طالما عبر عنها ودعا إليها قبل ذلك، بمعنى أنه لم يخن معتقداته، ولم يخدع الآخرين رغم كل المآخذ على ذلك الخطاب. وفي المقابل، فإن النقد الأهم لا بد أن ينصرف إلى جماعة الإخوان، التي تبدو عاجزة حتى الآن عن تمييز موقفها عن ذلك التيار، والقطع الواضح معه ومع توجهاته، من اجل طمأنة الجماعة الوطنية والمجتمع المصري، وليس فقط القوى المدنية والعلمانية، بل إنها تنفرد بالهجوم المنظم على الصحافة القومية بغية السيطرة عليها من خلال التحكم بتعيين رؤساء تحريرها عبر مجلس الشورى، الذي كان يملك هذه الصحف وفق دستور 1971، فيما لم ينص الإعلان الدستوري الأصلي أو المكمل، على أي دور للمجلس الراهن فى ملكيتها أو إدارتها. والمؤكد هو أن أمر تلك الملكية، وكذلك بقاء مجلس الشورى نفسه، فضلاً عن طبيعته ودوره، أمور سوف يحسمها الدستور الجديد بعد أشهر قلائل، فما هو سر الاستعجال في التدخل في عمل هذه الصحف الآن؟ ولماذا لا يؤجل هذا التدخل لصالح معالجة متكاملة لأوضاعها، وتصحيح أنماط ملكيتها وإدارتها فى الوقت المناسب وبعد صدور الدستور واتضاح الرؤية؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعاً من تصفية الحسابات السياسية القديمة؟ سعى الإخوان إبان الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، وتحت ضغط المرشح المنافس، إلى بلورة خطاب توافقي يدعو الى عودة الاصطفاف مع القوى المدنية. ونجحوا عبر الإعمال المتكرر للنزعة الانتهازية والمنهج الاستحواذي المعروف عنهم، في الحصول على الموقع الكبير، بعد أن كانوا قد حصلوا على الأكثرية في البرلمان المنحل أو المعطل على الأقل، ما يعني أنهم صاروا اصحاب السلطة الوحيدة المنتخبة في البلاد، وهذا يفرض عليهم أن يبذلوا جهوداً مضاعفة للحفاظ على هذا الموقع ولو من باب النفعية، كى يظل بمثابة فرصة لهم، وإلا استحال خطراً مؤكداً عليهم يعجل في إفشالهم سياسياً، خصوصاً إذا ما حاولوا عبر هذا الموقع، وباستخدام أدواته المتعددة، من اختراق بنى الدولة الحديثة بغرض أسلمتها ثقافياً، و «أخونتها» سياسياً، على نحو يغير طبيعتها الوطنية جوهرياً، خصوصاً مؤسسات كالقضاء والشرطة والجيش، على غرار محاولتهم السيطرة على الصحافة القومية. إن سلوك الإخوان هذا الطريق الوعر قد يدفع بالقوى العديدة المنتمية الى التيار الليبرالي والقلقة على الدولة المدنية إلى تحدي سلطتهم الشرعية، بإحياء شرعية ثورية، تستهدف الحفاظ على الهوية الثقافية لمصر، التي لم يُبرز الإخوان حرصاً كبيراً عليها أو يسْعَوْا لطمأنة الآخرين بصددها. من هنا، قد تتكتل تلك القوى تحت لافتات عريضة لا تزيد عناوينها عن تحدي هيمنتها والتيار الديني. كما يدفع، في المقابل، نحو خضوع الإخوان أنفسهم لتوجهات التيار السلفي الأكثر محافظة داخل هذا التيار، كلما ابتعدوا عن القوى المدنية وانفصلوا عن التيار الليبرالي، واحتاجوا بالتالي إلى ظهير في معاركهم العشوائية معه، فالمعروف في علم السياسة أن الأكثر تطرفاً هو الأكثر تحكماً وإن لم يكن الأجدر حكماً. ومن ثم، فإن تحالف الإخوان مع التيار السلفي سيدفعهم نحو واحد من أمرين: إما محاولة لجم جموحه وإعادته إلى الموقع الوسط، وعندها سوف تُستهلك طاقاتهم السياسية في محاولة إطفاء الحرائق التي يشعلها السلفيون ثقافياً وسياسياً، بدلاً من الانشغال بمهمة إعادة بناء الوطن، وكذلك في محاولة الدفاع عن أنفسهم أمام أنصارهم ضد اتهام السلفيين لهم بأنهم يفرّطون بالإسلام، ويطمسون تقاليده نفاقاً للنخبة (العلمانية) وللغرب، وإما الخضوع لمنطقه والمزايدة عليه، والانطلاق من ثم في اتجاهات محافظة أكثر تعجّل في وتيرة الاستقطاب الثقافي الجاري، وفي الصدام مع القوى المدنية. وفي الحالتين، سوف تتقلص فرصة الإخوان في قيادة هادئة سلسة لمصر، وتتراجع قدرتهم على الدفع بها نحو النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، مما يسبب فشل تجربتهم سريعاً. قد لا تكون المشكلة العملية في فشل الإخوان وضياع فرصة تاريخية عليهم، ولكن في ضياع الكثير من الوقت على مصر، مع ما يعنيه ذلك من خسائر مؤكدة في الموارد، وخسائر محتملة في الأرواح. * كاتب مصري