مع دخول موسم الأعراس ازداد بشكل ملحوظ إقبال رجال العاصمة على شراء حليب الإبل في فترة العصر، على أمل اقتناص فرصة بضع جرعات منه قبيل الغروب، فيلفت النظر عدد السيارات التي تقف أمام أحواش الإبل، بحثاً عن حليب الإبل. يقول علي العتيبي: «فعلاً يصح أن تطلق عليّ وعلى جميع هؤلاء الموجودين بالقرب من أحواش الإبل عشاق حليبها». وتتأكد مقولة العتيبي بأنه لا تكاد سيارة تغادر حتى تقف أخرى باحثة عن السائل المحبوب نفسه، حتى يرفع العامل يديه معتذراً بأن الحليب لهذا اليوم نفد، فلا يكون أمام الزبون الجديد إلا أن يبحث عن حوش آخر لعله يجد فيه مطلبه. يبدأ العامل المسؤول عن رعاية الناقة الحلوب بنفض الغبار عن الإناء، ويغسله، بينما يدور ابنها حولها محاولاً الوصول إلى ضرعها، والعامل يبعده عنها بقسوة شديدة، كلما حاول الاقتراب، وتسمع شخب الحليب وهو يرنّ في عمق الإناء والرغوة تعتليه، ثم يناوله زبونه إياه، فلا يكون أمامه إلا أن يغوص في الرغوة ويجرع ما تم تقديمه لك كاملاً، حتى يرفع رأسه فرحاً بالإنجاز، وقد حصل على شارب أبيض. ويتردد على أفواه المحافظين على هذه العادة القديمة إيجابياتها بأن حليب الإبل «من المستحضرات المؤكدة للفحولة»، وآخرون يعتبرونه «محركاً للبطن»، ومنهم من يستلذ به بوصفه حلاً طبياً لكثير من الأمراض، وغيرهم يرونه «فرصة للتنزّه والتلذذ بشراب محبوب». ويؤكد أناس من مرتادي أحواش الأغنام أن خلطة بسيطة من العسل، والزنجبيل الطازج، وحليب الإبل كفيلة بإعادة الحيوية إلى العروق الرجولية الضامرة في رجل الجزيرة العربية، مستشهدين بالآية: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت»، وبالحديث النبوي: «الإبل عز لأهلها». وحول الجانب الاقتصادي لهذه الظاهرة، وأن كثيرين من أصحاب الإبل يميلون إلى بيع لبنها، يرى آخرون أنه ليس من الشيم أن يقوم الإنسان ببيع هذا المشروب، إذ يوضح عبدالله المطيري أنه واجب (تقديم حليب الإبل مجاناً)، أو يشربه صاحبه كاملاً، لأن الحليب رمز للإطعام والإحسان للآخرين، وليس استغلاله في التجارة. ويشير عبدالله البقمي إلى أن علاقتهم بالإبل ليست حديثة، بل مقبلة من فجر تاريخ العرب، لافتاً إلى أن الإجازة الصيفية، وقلة الانشغال، أوجدت فرصة في دخول الطابور شبه اليومي لشرب حليب الإبل، «حتى أصبحت أحجز طلبي بالهاتف وأحصل عليه جاهزاً». وعقب1500 عام من الجاهلية، وفي عاصمة من أكثر عواصم الشرق الأوسط تطوراً كالرياض، لا يزال الإنسان العربي وفياًّ ل «الناقة»، التي صحبها في عرض التاريخ بضعة عشر قرناً، ويروق له طعم حليبه الذي يعد من طقوس الاعتراف بمكانته الفريدة، ولهذا فقد تغنى شعراء الجاهلية بوصفها والتغزل في سماتها، وخاضت القبائل الحروب ضد بعضها البعض من أجله، وتستمر الحلقة المتشابهة في الدوران لنجد أنها تكرر نفسها دائماً، ولو بطريقة مختلفة في القرن الحادي والعشرين.