لم يصغ أبناء درعا السورية لنصيحة نانسي عجرم بعدم «الشخبطة» على الحائط. عبثاً حاولت نانسي إقناع الاولاد بالاقلاع عما وصفته «أسوأ عادة»، غنت وهددت وتوعدت. لم ينفع. أبى الشياطين إلا أن يمسكوا الالوان ويشخبطوا على جدران الحارة. ماذا كتبوا؟ لا شيء اكثر مما كانوا يشاهدونه يومياً على شاشات التلفزة: «الشعب يريد اسقاط النظام». بهذه البساطة قرر الاولاد إسقاط نظام عمره 42 عاماً فأفصحوا عن نياتهم على الملأ. لم يتآمروا مع الدول الكبرى لإطاحته، ولم ينشئوا تنظيمات سرية للانقلاب عليه من الداخل، ولا حتى حملوا السلاح أو تزنروا بحزام ناسف لقتله. لا شيء من ذلك كله، إلا كلمات خطّوها على حائط. خطأ فادح ارتكبه هؤلاء الشياطين الصغار. لم يعرفوا أن الورطة مع نانسي غيرها مع بشار. فإذا كانت نانسي عبرت عن حيرتها مع حمادة تماماً ماذا يريد. وإذا قلبت نانسي برأسها فكرة منع المشاغب يومين أو ثلاثة من مشاهدة برنامجه التلفزيوني المفضل ولم تحسم أمرها بالعقاب، فإن بشار يقرر وينفذ. قتل بعض الاولاد، وفقأ عيون الآخرين. هكذا، يتأكد من أنهم لن يشاهدوا التلفزيون بعد اليوم، وينام هو قرير العين. خطأ فادح ارتكبه بشار. فالصدمة التي احدثها اعتقال الاولاد في درعا وتعذيبهم أيقظت جرحاً عميقاً عض عليه السوريون طويلاً لكنهم لم يشفوا منه. إنه جرح أصاب كرامتهم وإنسانيتهم، وأعادت حادثة درعا نكأه فهشمت صورة الآباء لدى أبنائهم تهشيماً كاملاً. فجأة ظهروا تجاه نسائهم وأولادهم الآخرين، كأنهم أعجز من أن يدافعوا عن أبنائهم ويحموهم من الأذى، أي أذى، كما يجدر بالآباء فكيف اذا استدعى ذلك مواجهة بطش نظام كامل. خطأ فادح ارتكبه بشار. طعن الرجال في صميم أبوّتهم ورجولتهم فجلب لنفسه ثورة كرامة ليس أدل عليها من تلك الصرخة المدوية: «أنا انسان مو حيوان» التي أطلقها متظاهر اثناء اعتقاله. والواقع أن سورية التي منعت أي شكل من أشكال التعبير عن الرأي، وحصنت البلاد ضد الصحافة الاجنبية وتحولت قلعة منيعة تطرد أي صوت يغرد خارج السرب، استغلت جدرانها أيما استغلال لتعزيز ثقافة الحزب الواحد والقائد الخالد. ففي وقت يعلم الجميع أن «الغرافيتي» ممنوع، كان في امكانك ان تقرأ على جدران وأسوار كثيرة «وحدة حرية اشتراكية» أو «قائدنا إلى الابد حافظ الاسد» أو غير ذلك من الرسوم وأعلام حزب البعث. وبعكس الشائع، حيث يعكس الشعب على الجدران صورته عن الحاكم، رسماً أو كتابة، عمد الحاكم في سورية إلى رسم نفسه وكتابة الشعارات المؤيدة لذاته مستولياً استيلاء كاملاً على الحيز العام وقاطعاً الطريق على أي «شغب» يزعزع تلك الصورة. وحتى مع انطلاق الثورة وانتشار الكتابات الجدارية التي تدعو إلى إسقاط النظام وتسخر من بشار الاسد وعلى رغم كثافة القتل اليومي، لا يزال هناك من يأتي ويمحو الشعارات و «يصححها» ويستبدلها بأخرى مؤيدة ومهددة... كأن صورة النظام الناصعة لا يلوثها إلا بضع خربشات!