بين حين وآخر، يتفجر في الفضاء السياسي اللبناني جسم غريب، لا يدخل في الاصطفافات السياسية المعتادة وإن كان غير قادر على تجاوزها. فمن مسألة الأجور إلى انهيار مبنى سكني في بيروت إلى فضيحة الكهرباء في باقي لبنان، تطل المسألة الاجتماعية على الساحة السياسية، لتخلّ بها قبل أن تعود السياسة وتروّضها وتعيد إدراج ما تبقى منها في الخنادق المألوفة. بهذا المعنى، فعلاقة المسألة الاجتماعية بالسياسة في لبنان علاقة ملتبسة. فمن جهة، هي علاقة سلبية، حيث تلعب السياسة، وبالأخصّ الطائفية، دور السد المنيع أمام طرح المسألة الاجتماعية. ولكن من جهة أخرى، تبدو هذه العلاقة نوعاً من الأيديولوجية، تمثل المسألة الاجتماعية فيها حقيقة النظام السياسي، أي المشترك المخفي تحت الاختلاف الظاهري. ويمكن أيضاً اعتبار هذه العلاقة زمنية، تشكّل فيها المسألة الاجتماعية المقدمة للنزاعات الطائفية، كما يتبين من تسلسل ثورة 1858 ومجازر 1860 أو التظاهرات المطلبية في السبعينات من القرن الماضي والحواجز الطائفية التي تلتها. لقد حاول الكثير كسر هذا الالتباس النظري من خلال تثبيت طرف من المعادلة، أو الحفاظ عليهما في توازن هش. لكن تبدو الصعوبة الأساسية أمام تلك المحاولات في عدم التمثيل السياسي لهذه المسألة. فمهما حاولنا الخروج من هذا الالتباس، لا مفر من الاعتراف بأنه لا يوجد طرف يُعرّف نفسه انطلاقاً من هذا المنظار (مهما حاول يساريو النظام السوري أن يقنعونا به). وفي ظل هذا الغياب، تتحول المسألة الاجتماعية إمّا إلى غريزة ما دون سياسية، أقرب إلى غضب أخلاقوي مما هي إلى موقف سياسي، أو إلى حقيقة ما فوق سياسية، تجلس إلى جانب فلسطين والبيئة والعروبة والمرأة في مأوى القضايا التي أصبحت قيد الموت السياسي. تظهر عملية ترحيل المسألة الاجتماعية إلى عالم ما دون أو ما فوق السياسة في طريقة التعاطي مع مأساة انهيار مبنى في بيروت. فقد كثُر الكلام عن لجان وهمية وموازنات مستقبلية وخطط عمل قيد الدرس، ووقف مشروع بناء الدولة كسد أمام المحاسبة المؤجلة ريثما تنتهي عملية البناء هذه. وفي وجه عملية الترحيل إلى عالم ما فوق السياسة، قامت صور القديسين وخطابات المآسي وصرخات الاستنكار لكي تعيد إنزال الفاجعة إلى عالم ما دون السياسة. وفي الحالتين، غاب الجانب السياسي المتعلق بالمسؤوليات والمحاسبة والسياسات الإعمارية والصراع الكامن بين مصالح متناقضة. كما تظهر عملية الترحيل في تحويل هذه المسألة إلى مضيعة وقت وتلخيصها في محاولات للتذاكي على الخصم. ففي لحظات التوتر السياسي، يلتجئ بعض السياسيين، الهاربين من صعوبة أخذ الموقف، إمّا إلى عالم ما فوق السياسة (للمثقفين منهم)، أو إلى عالم ما دون السياسة (للشعبيين منهم)، حيث تؤمّن المسألة الاجتماعية محطة آمنة لتمرير العاصفة السياسية. أما البعض الآخر، فيحاول إعادة إدخال هذه المسألة من باب التذاكي السياسي، على ما حاول إنجازه يساريو التيار الوطني الحر، موهمين أنفسهم بأنهم قادرون على التلاعب على الحليف والخصم في آن. ولكن بعدما تُرك الغطاء اليساري لكي يمرح بعض الوقت بغية «زكزكة» الخصم، عادت المصالح وأعادت «الوزير المشاكس» إلى رشده وإلى حقيقة من يمثل. هكذا يبدو أن طرح المسألة الاجتماعية مستحيل في لبنان. فالاتكال على أحد الأطراف السياسية غير مجد في ظل مصالح الأطراف الاقتصادية والسياسية، وهي مصالح تمنع أي إصلاح فعلي. أما خيار الاستقلال عن القوى السياسية، فيطرح مسألة الدولة والوعي السياسي والسلاح والطائفية، مُدخلاً المسألة الاجتماعية في دوامة إصلاحات تؤجلها إلى أبد الآبدين. بهذا المعنى، فإن المسألة تلك مستحيلة التمثيل في الفضاء السياسي اللبناني، وتبقى، كحقيقة مؤجلة أو غريزة مقموعة، خارج السياسة. في هذا الوضع وفي وجه مأساة كانهيار مبنى على رأس سكانه، يجد المرء نفسه أمام احتمال من إثنين: إمّا الانضمام إلى كورس الباحثين عن الدولة المفقودة، أو الانزلاق إلى شعبويات أخلاقوية، وهما خياران لا يجديان في السياسة، وإن كان الثاني يؤمّن بعض التنفيس للغضب الناجم عن تلك المأساة. ويبدو في تلك اللحظات كم هو كبير الفراغ الذي أحدثه رحيل «الصراع الطبقي» كمفهوم سياسي، مفهومٍ يعقلن هذه المشاعر ويسيّسها. وفي ظل هذا الغياب، انشطر هذا الموقف وتحول بُعده العقلاني إلى كلام فارغ عن الدولة وتدهور بُعده المشاعري إلى شعبوية عالمثالثية أو طائفية أو نوع من «المسْكنة» المؤامرتية. وهنا الكلام ليس على الصراع الطبقي كتحديث للغرائز أو تأهيل للصراعات الأهلية، ولكن الصراع الطبقي كجسر بين المسألة الاجتماعية وانقساماتها من جهة وبناء الدولة وتوحيدها من جهة أخرى. أي الصراع الطبقي كما عرّفه يوماً المفكر الراحل ياسين الحافظ، عندما كتب: «الصراع الطبقي، بمعناه السياسي الواسع... ليس مجرد وسيلة لإنصاف الكتلة الشعبية وإنقاذها من الحرمان وانتزاعها من وجود سياسي هامشي، بل هو أكثر من ذلك وأعمق... إنه الحركة التي تساهم أكبر إسهام في إعطاء المجتمع العربي ديناميته، عقلانيته، اتّساقه واندماجه. بكلمة: إنه «الشر» الذي يفرز الخير والسعادة، إنه «التمزق» الذي يولّد الاندماج، إنه المستقبل الذي يتمخض في رحم الحاضر». وربّما كان الخروج من معضلة تمثيل المسألة الاجتماعية سياسياً يكمن في الاعتراف بهذا «التمزق» والتمسك به على رغم استحالته السياسية الراهنة. وإن كان لا جدوى من موقف كهذا على الصعيد السياسي، فهو على الأقل يسمح بتخيل اليوم الذي يمكن فيه ربط الصراعات الاجتماعية بمشروع بناء الدولة، بما يقدّم للأول بُعداً مستقبلياً وللثاني محتوى سياسياً. وفي انتظار هذا اليوم، من الأجدى البحث عن المسؤول عن انهيار المبنى بدل البحث عن الدولة، كخطوة نحو «التمزق» البنّاء، بدل الوفاق الهادم لبيوت الفقراء.