عوائد مستدامة    وزير الطاقة: موثوقية تحالف أوبك+ ترسم استقرار الأسواق    شركات طيران تعلق رحلاتها بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران    المملكة تجدد دعوتها لوقف إطلاق النار في غزة    إنتر ميلان ينجو بصعوبة من فخ أوراوا    الزعيم في الخطوة الأهم أمام سالزبورغ    الأخضر يواجه ترينداد وتوباغو ب«أكثر من فرصة»    رينارد: نتطلع لتحقيق هدفنا    جامعة الأمير محمد بن فهد تحقق إنجازاً عالمياً بدخولها في قائمة أفضل 100 جامعة متميزة في العالم في تصنيف التايمز للتأثير    ثمانية أعوام مباركة    «إسرائيل» تقصف موقعاً نووياً في أصفهان للمرة الثانية    مصانع لإنتاج أسمدة عضوية من مخلفات النخيل    انطلاق فعاليات منتدى الصناعة السعودي    75% من الغرف الفندقية بمكة المكرمة    تحت رعاية الملك.. نائب أمير الرياض يحضر تكريم الفائزين بجائزة الملك عبدالعزيز للجودة    سبات الإجازة وتحدي الاختبارات    ضبط 12066 مخالفًا للإقامة والعمل خلال أسبوع    أمير جازان يبحث المشروعات التنموية والسياحية في فرسان    أمير الشرقية: تسجيل مدينة الخُبر أعلى قفزة عالمية في قابلية العيش تجسيد لدعم القيادة    خطيب المسجد الحرام: محاسبة النفس ديدن الأيقاظ ونهج الراشدين    إمام المسجد النبوي:لا تنشغلوا بالدنيا الفانية عن الآخرة الباقية    حفنة تراب.. دواء أنقذ زراعة الأعضاء    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة ينقذ حياة "سبعيني" عانى من انسداد تام بالأمعاء    إنزاغي يكشف عن 3 غيابات في الهلال أمام سالزبورغ    28 متحدثًا ومشاركًا يثرون المؤتمر العلمي الثاني لمكافحة المخدرات في جازان    بعثة حج الجمعيات الأهلية المصرية : نشكر السعودية علي ما وفرته لراحة ضيوف الرحمن من المصريين وتيسير مهمتنا    توزيع هدية خادم الحرمين على الحجاج المغادرين عبر منفذ عرعر    دورتموند يتغلب بصعوبة على صن داونز في مونديال الأندي ة    نائب أمير الشرقية يعزي العطيشان    وزير الخارجية: ندين الاعتداءات الإسرائيلية السافرة تجاه إيران    مباحثات برلمانية سعودية فرنسية    موسى محرق.. رحيل إعلامي ترك أثرًا لا يُنسى    الدبلوماسية السعودية حكمة وثبات موقف    هل تموت الكلمات؟    لا يفوتك هذا المقال    الصبّان: نُعد دراسة استراتيجية لتطوير الموسم المقبل بمشاركة خبراء التايكوندو    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على صاحب السمو الأمير مشعل بن عبدالله بن فهد بن فيصل بن فرحان آل سعود    الجبهة الداخلية    احتفل دون إيذاء    دبلوماسية الطاولة العائلية    استغلال أوقات الفراغ في مراكز الأحياء    "التخصصي" يستعرض ريادته في التقنية الحيوية بمؤتمر Bio الدولي    أمطار وزخات برد على جازان وعسير وتحذيرات من الغبار بالشرقية والرياض    الأنيميا المنجلية.. ألم يولد مع الإنسان ومسؤولية العالم تتجدد    بنفيكا يقسو على أوكلاند سيتي بسداسية في كأس العالم للأندية 2025    المنهاج التعليمية تتفاعل مع قصة الطفلة زارعة الكبد اليمنية ديانا عبدالله    أرامكو السعودية تدشن المركز الإقليمي للتنمية المستدامة للثروة السمكية في جزيرة أبوعلي    جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ضمن أفضل 100 جامعة عالميًا    مدير تعليم جازان يكرم "افتراضيًا" الطلبة المتفوقين دراسيًا والمتميزين في الأنشطة المدرسية    أمانة تبوك تنهي المرحلة الأولى من تطوير طريق الملك فيصل    أمير منطقة جازان ونائبه يزوران شيخ شمل محافظة جزر فرسان    أمير منطقة جازان يتفقد مكتب الضمان الاجتماعي بمحافظة جزر فرسان    تسمية إحدى حدائق الرياض باسم عبدالله النعيم    لن نستسلم وسنعاقب تل أبيب.. خامنئي: أي هجوم أمريكي عواقبه لا يمكن إصلاحها    دعوات لتسريع تطبيق حل الدولتين.. إدانة دولية متصاعدة لانتهاكات الاحتلال في غزة    الإطاحة بمروجي مادة الأفيون المخدر في تبوك    يوليو المقبل.. إلزام المنشآت الغذائية بالكشف عن مكونات الوجبات    ميكروبات المطاعم تقاوم العلاج بالمضادات الحيوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائل موتسارت: إيصال شيء الى أيّ كان في كلّ لحظة
نشر في الحياة يوم 05 - 12 - 2011

لم يعش موتسارت سوى خمسة وثلاثين عاماً. ومع هذا نعرف أنه ألف من الموسيقى، بين أوبرات ومقطوعات وسيمفونيات وقداسات وغيرها، ما يحتاج أي عبقري آخر الى أن يعيش سبعين عاماً لكي يؤلف ما يماثلها، كمّا على الأقل... ولندع جانباً هنا، مسألة العبقرية وروعة التأليف. فهل هذا كل شيء؟ أبداً... بالتأكيد. ذلك ان موتسارت لو عاش أكثر، وكان له من زمن يتأمل فيه أحواله وأحوال العالم، بعيداً من ولعه بالموسيقى، لكان من شأنه أن يبدع في مجالات أخرى، أعمالاً كانت ستخلّد بدورها. ومن هذه المجالات، الكتابة. ففي الكتابة أيضاً كان صاحب «الناي المسحور» و «خطف في السراي» موهوباً أيضاً. طبعاً نعرف أنه لم يخلّف روايات أو دراسات تؤكّد هذا. ونعرف ان بعض الكتابات التي حوّلها الى أعمال غنائية موسيقية تبدت متوسطة في نهاية الأمر، ونعرف أيضاً أن مزاجه في اختيار بعض نصوص الآخرين ليحوّلها أعمالاً مسرحية - موسيقية من إبداعه، كان عجولاً غير مدقق، ما أوقعه مرات في ورطات فنية مؤسفة (كما الحال مع أوبرا «مدير المسرح»)، غير ان علينا، للتيقن من موهبة موتسارت في عالم الكتابة، أن نبحث في مكان آخر.
واضح ان كثراً من الذين عرفوا موتسارت في حياته، أو عرفوا عنه شيئاً خلال تلك الحياة، كانوا يعرفون أنه كان يكثر من كتابة الرسائل. غير ان ما من أحد كان يتصور أن يوماً ما سيأتي ليكتشف فيه في مدينة فيينا عاصمة النمسا، عند نهاية القرن التاسع عشر، أكثر من ثلاثة آلاف رسالة مكتوبة بخط موتسارت. كان من اكتشف تلك الرسائل يدعى هنري دي كورزون، الذي كان يفخر قبل ذلك بأنه يملك نحو دزينتين من رسائل بعث بها موتسارت الى أبيه... لكنه منذ حقق ذلك الاكتشاف، صارت الرسائل الأولى مزحة... فعنده الآن كل هذه المئات من الرسائل. أمر مذهل بالطبع. خصوصاً أن الخبراء، اذ دخلوا على الخط، أكدوا في شكل قاطع ان الرسائل حقيقية لا لبس في الأمر ولا غموض. وهكذا صار ثمة كنز في عالم الفن والكتابة، اسمه رسائل موتسارت أضيف الى رسائل أخرى شهيرة في هذا العالم، لعل أبرزها رسائل فنسان فان غوغ.
ولكن اذا كانت رسائل فان غوغ اتسمت بكونها تصور العالم الداخلي للفنان وحالاته الروحية خالقة صورة خلفية لما يتسع في لوحاته من ذاتية وحزن ويأس وبعض لحظات أمل، فإن الجوهر في رسائل موتسارت يختلف كلياً، لأن رسائله تشبه شخصيته تماماً، كما ان رسائل فان غوغ تشبه شخصية صاحبها. ومن هنا نحن أمام الرسائل الموتسارتية في حضرة عالم من السخرية واللؤم وفرح الاكتشاف ووصف الآخرين والحديث عن البلدان والمجتمعات... وأيضاً في حضرة أصفى أنواع فن النميمة. ذلك أن موتسارت كان يوجه تلك الرسائل، أكثر الأحيان، الى اثنين من غلاة المتواطئين معه: أبيه وأخته. ونعرف طبعاً كم أن علاقة الفنان الشاب بهذين كانت كبيرة. بيد أن هذا ليس كل شيء. فالواقع ان قراءتنا الرسائل ستكشف لنا أيضاً كم ان موتسارت كان مبدعاً في النقد الموسيقي. فهو اذا كان - لعفوية كتابته الموسيقية وجنون عبقريته في تأليفها - يستنكف عن تفسير ما يؤلف، في رسائله، حين يؤلف، فإنه لا يتوانى في الوقت نفسه عن كتابة صفحات وصفحات عن موسيقى الآخرين التي يقيّض له أن يستمع اليها خلال جولاته وسفراته. ومن نافل القول ان موتسارت كان يكثر من كتابة رسائله، خصوصاً حين يكون على سفر. وهو طبعاً كان على سفر دائم، أوّلاً مع أبيه (وخلال تلك الحقبة كان يوجه معظم رسائله الى أخته) وبعد ذلك من دون أبيه (فإذا به يوجّه الى هذا الأب الجزء الأكبر من تلك الرسائل). اذاً، إن نحن نقبنا في الرسائل الثلاثة آلاف عما يخص الموسيقى فيها... وخصوصاً الموسيقى التي عاصر موتسارت تقديمها للمرة الأولى، سنجد أنفسنا أمام سجل هائل من النقد الموسيقي. ولكن أيضاً من النقد الاجتماعي والأدبي والأخلاقي... وأحياناً السياسي.
ذلك ان موتسارت كان نهماً الى المعرفة... ونهماً الى ان يقول رأيه في كل معرفة. كان - وهو أمر تشير موسيقاه اليه في كل وضوح - يريد أن يوصل شيئاً ما، الى شخص ما، في كل لحظة... ولذا كان يكتب، ما جعل من كتابته، أيضاً، صورة ناطقة حية للمجتمعات التي راح يتجول فيها ويرصد أحوالها. وهكذا، مثلاً، اذا كنا نريد أن «نتفرج» على صورة لأربعة مجتمعات، على الأقل، زارها موتسارت وتجول فيها عند الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وهي النمسوية والانكليزية والايطالية والفرنسية، قد يكون من الأفضل لنا، أن نترك دراسات المفكرين المعمقة جانباً وأن نقرأ رسائل موتسارت... فهي مباشرة، ومن دون توابل... تصف الأحداث والنساء والرجال كما هم في حياتهم، في أفكارهم، في تطلعاتهم، علماً أن الرسالة الأولى من هذا النوع تحمل تاريخاً محدداً هو عام 1770، عامذاك كان موتسارت في الرابعة عشرة من عمره... وكان يقوم بجولة موسيقية في ايطاليا... وخلال السنوات التالية كتب مئات الرسائل، كان بعضها يحمل اشارات واضحة الى ظروف تأليفه بعض أعماله، ومنها «الجنيناتية الحسناء». ثم ينصرف «كاتبنا» بعد ذلك الى ربط هذا العمل بالمجتمع متناسياً ذاته تماماً. وفي عام 1773، ثمة مجموعة رسائل يمكننا أن نصفها بأنها باريسية، ذلك ان موتسارت وصف فيها المجتمع الباريسي وصفاً أخاذاً، ولا سيما حين يتحدث عن بلاط فرساي والحفلات التي أقامها هناك علية القوم تكريماً له... والتي «كانت مملوءة بالمتحذلقين الذين لا يفقهون شيئاً مما يقولون... وخصوصاً حين يحدثونني عن الموسيقى وكل واحد منهم يريد أن يوهمني أنه عالم علامة». وهنا في هذه الرسائل يصدر موتسارت حكماً صارماً ساخراً على معظم ما سمعه من موسيقى فرنسية، وخصوصاً تلك التي تقدم في «المعبد الملكي» على أساس أنها موسيقى «روحية» من دون «ان يكون فيها من الروح أي قسط» وفق تعبيره. والطريف هنا هو أن حسّ السخرية والمرح الذي طبع المجموعة الأولى من رسائله الباريسية، سرعان ما غاب حين قام برحلة ثانية الى فرنسا وبعث منها بمجموعة جديدة من الرسائل. لماذا؟ لأن القوم في الرحلة الثانية لم يبالوا به كما في الرحلة الأولى. من هنا امتلأت رسائله هذه المرة بالمرارة والشكوى... خصوصاً أنه وجد الناس هناك منهمكين في تتبع تفاصيل المنافسة بين الموسيقيين غلوك وبيسيني... وراحوا، حين يرون مبدعنا الشاب، يمطرونه بأسئلة حولهما! وبعد رسائل الرحلة الباريسية الثانية هناك رسائل من ميونيخ ثم من براغ... وهكذا. في النهاية نجدنا أمام رسائل وأدب رحلات... ونصوص في النقد وفي «دراسة» المجتمعات. ثم بين الحين والآخر تخدمنا الرسائل لفهم أعمال موتسارت وظروف كتابتها، ولو في أشكال مواربة.
وفي هذا المعنى، من الواضح أن مجمل رسائل موتسارت... وربما يتجاوز عددها، العدد الذي عثر عليه على أية حال، يمكن أن تشكل جزءاً أساسياً من سيرة الفنان نفسه. ونعرف، طبعاً، أن كثراً من الذين كتبوا سيرة موتسارت، وجدوا في الرسائل مصدراً فائق الأهمية ولا غنى عنه. ولا سيما، حين كان يحلو لموتسارت أن يشرح لأبيه، مثلاً، خلفية كتابة هذا العمل أو ذاك من أعماله، أو يردّ على أبيه حين يسأله تبريراً لهذه الموسيقى هنا، أو تلك هناك. وبهذا يكون وولفغانع أماديوس موتسارت، قد وفر على الباحثين، الكثير من التدقيق للإحاطة بجوانب حياته القصيرة (1756 - 1791) وبجوانب عمله الغزير (مئات الأعمال خلال السنوات القليلة التي عاشها)... ولكن، طبعاً من دون أن تجيب تلك الرسائل عن أية أسئلة، سعت وتسعى دائماً لمعرفة كل الأسرار المجتمعة في عبقرية موتسارت أو ابداعاته، أو حيويته، وخصوصاً بموته المبكر، الذي لا يزال سراً غامضاً، الى يومنا هذا.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.