أبدى بعض الشرعيين قلقهم في ملتقى «الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلة» من أن يكون الملتقى الذي اختتمته «العدل» أخيراً، جاء استجابة لضغط الخارج، أو أن يؤدي إلى تجاوز «النص الشرعي»، لكن وزير العدل محمد العيسى حسم هذا الأمر بشكل قاطع، فرفض الخروج على النص الشرعي أو مخالفة مقصده. تواردت حزمة من الأسئلة إلى الأذهان، بعد أن انتهى ملتقى «الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلة»، على نحو هل ستكون العقوبات البديلة بالفعل بديلًا عن السجن؟، وهل ستحقق المقاصد الشرعية والنظامية؟، ومدى تهذيبها للسلوك، وهل ستكون بديلاً جماعياً للقضاة في الجوانح الصغيرة؟ أم اجتهادات فردية لقضاة من دون غيرهم؟ هذه الأسئلة وغيرها فرضت نفسها أمام خريطة القضاء، خصوصاً أن الملتقى يعتبر منحى جديداً في مسيرتها. بداية الأمر، طمأن وزير العدل الدكتور محمد العيسى الحضور بضرورة احترام النص الشرعي وعدم الخروج عنه فقال: «يجب أن نتحقق عند أخذنا بمفهوم العقوبات البديلة من شروط مهمة تتعلق باحترام النص الشرعي، وعدم الخروج عنه، أو مخالفة مقصده بأي وجه كان، مع ضمان حق المجني عليه، وحق المجتمع، والأخذ بعين الاعتبار حكمة التشريع من التأديب، ولاسيما ما يتعلق بمقصد الزَّجْر والرَّدْع، مَعَ إِعْمال فقه الموازنات وفق قاعدة المصالح والمفاسد، ومن ذلك عدم دخول أرباب الجرائم الكبيرة والخطرة في الخيار البديل». وأوضح العيسى أن الأخذ ببدائل السجن في المخالفات اليسيرة أنفع وأنجع، فالاتجاهات الحديثة لا ترى خيار السجن إلا الملاذ الأخير، وتحديداً في الجرائم الكبرى، وخصوصاً ما يتعلق منها بحماية الأمن الوطني وحماية المجتمع من بذور الفساد وتأثيرها السلبي ومدها السيئ، فالسجن مهما أحيط بالرعاية والعناية فإنه لا يخلو من سلبية الحرمان من التئام شمل الأسرة وفقدان عائلها، فضلاً عن كلفته الباهظة على الدولة، وعدم كفاءة عنصر الردع والزجر فيه، إذ أوضحت الدراسات الاجتماعية ارتداد السجين على مجتمعه بأسوأ من حالته الأولى، ليتحول واقعه إلى الإسقاط على المجتمع والتمرد عليه والرغبة في الانتقام». ونبّه العيسى إلى أنه «ربما يحصلُ الوهمُ لدى غير المختصين في التشريع الجنائي الإسلامي والقانون الوَضْعي، عند سماعه بمصطلح العقوبات البديلة، متصوراً بأنها بدائل للأحكام النصية، وأن الذي حمَل على تجاوزها إنما هو التجاسر على أحكام الشريعة، أو على أحسن الأحوال التطبيق الخاطئ لمفاهيم السياسة الشرعية، أو الإخلال بمفاهيم وضوابط تغيُر الفتاوى والأحكام، بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد، ويزول هذا الوهم الخاطئ إذا عُلم أن العقوبات البديلة لا تنسحب إلا على أبواب التعازير فحسب، وهي مالا نص شرعياً في تقدير عقوبتها، بل مردها إن لم يكن نص نظامي أو مبدأ قضائي إلى اجتهاد القاضي وفق سلطته التقديرية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد، مراعياً في ذلك ما سبق ذكره من ضمانات وشروط استعمال هذه السلطة، مع أهمية استصحاب مقصد إصلاح الجاني وإعادة تأهيله، لحظّ نفسه وأسرته ومجتمعه على ضوء تلك الضمانات والشروط، وثمة تصنيفات وفروقات أخرى تتعلق بالسن والجنس والسوابق، أما مَنْ لم تُجْدِ معه العقوبة البديلة، فمرده إلى العقوبة الأصلية، لتأصل الجرم في نفسه، ودخوله في دائرة الخطر على مجتمعه». فيما تطرق وكيل وزارة العدل الشيخ عبداللطيف الحارثي إلى العقوبات السالبة للحرية، وأكد أنها تواجه معارضةً دائمة من المفكرين منذ القدم، إذ تكاثرت الانتقادات الموجهة لها، نظرًا لما يشوبها من مساوئ، منها: أن العقوبة السالبة للحرية هي في ذاتها عقوبة جسدية، وتعميمها لا يشكّل في الحقيقة تطورًا ملحوظاً في رد فعل المجتمع على الفعل الإجرامي، وأنها تشكل وصمة عار على جبين المحكوم عليه، وأنها تتعدى الجاني بآثارها السلبية إلى عائلته، إلى جانب أنها ليست مناسبة للقيام بالدور التأهيلي المنشود. واستشهد بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أسرى بدر، عندما طلب منهم تعليم أبناء المسلمين الكتابة بدلاً من دفع الفداء المالي، وقياساً على الكفارات، إذ استعملت كعقوبات أصلية في القتل الخطأ على سبيل المثال، فهي بمثابة جزاءات ذات طابع مالي، وقد تكون مصاحبة لعقوبة مقدرة كالدية في القتل الخطأ، وقد تكون مصاحبة لعقوبة غير مقدرة وهي التعزير. وذكر أن العالم اليوم يتجه في أنظمته العدلية في الكثير من دول العالم إلى تطبيق العقوبات البديلة، أو ما يعرف بعقوبة النفع العام لأسباب إنسانية واجتماعية ووطنية واقتصادية، بخاصة في الجرائم والمخالفات التي تقع أول مرة، أو من الفئات العمرية الصغيرة التي تعاني من مشكلات نتيجة ضعف التنشئة وسوء التكّيف الاجتماعي وقلة الوعي، من خلال فتح نافذة نحو المستقبل أمامهم للخروج من دائرة الضياع، وذلك بالتوسع في الأخذ ببدائل العقوبات البدنية والسالبة للحرية، وإعطاء القضاء سلطات أوسع في تطبيق العقوبات البديلة، لتحقيق النفع العام وإصلاح الفرد والمجتمع. وأكد المدير العام للسجون اللواء الدكتور علي الحارثي أن هناك إجماعاً واتفاقاً بخصوص أن العقوبات البديلة ستخفف على السجون الكثير من الأعباء، على نحو ربما وصل إلى 50 في المئة من مجموع السجناء، وإذا أُخذ بها كعقوبات بديلة ووجد الإشراف المحكم على تنفيذها، ستنعكس إيجاباً على خدمة المجتمع واقتصاد الدولة، وستفيد الأسرة نفسها، وبالتالي سنجد أننا نجني ثماراً كبيرة على المستوى العام». وأشار رئيس التفتيش القضائي في مجلس القضاء الأعلى الشيخ ناصر المحيميد إلى أن «التوسع في إصدار العقوبات البديلة لا يعني بأي حال، ثني العقوبات الأصيلة نفسها. ثم إن كثرة أعداد السجناء ومخالطتهم بعضهم لبعض، تكسبهم مهارات إجرامية، يتأثر بها أصحاب الجرائم البسيطة، ومن ثم يتحول الضرر إلى معنوي وأسري، وهناك من يطالب بأن تحقق البديلة مفهوم الردع، وألا يتم تمييعها، كون الهدف منها الإصلاح». واقترح أن يكون سجن القصّر أو النساء في منازلهم، فتوفر لهم غرفة ويشرف على وضعها داخل المنزل من جانب إدارة السجن، لأنها ستكون الأصلح لهم، وتتم متابعتها ومراقبتها إلكترونياً. وحذر القاضي مما يسمى ب«اليوم المفتوح» الذي يُقام عادة في السجون، لأنه فرصة لتعريف السجناء البسطاء بالأكثر جرماً. كما انتقد ما أسماه ب«العقوبات الغليظة» التي تصل إلى حبس الشخص في السجن لفترة طويلة، تجعله عرضة للتدهور والانتقام الشخصي من مجتمعه. وأفاد الرئيس المساعد للمحكمة الجزئية في محافظة جدة الشيخ إبراهيم بن صالح أن الأحكام البديلة لا تزال محدودة التطبيق، وما هو موجود منها يمثل حالات اجتهاد فردي.. لكن أهميتها الشرعية القضائية واضحة، والحاجة للعمل بها قائمة مستقبلاً، بخاصة في ضوء متغيرات اجتماعية عدة، لذا فمن الممكن أن يكون التطبيق مشروعاً وطنياً ضخماً يتم الإعداد والتخطيط لتأسيسه تأسيساً صحيحاً وقويماً له، ومن أهم ما يجب مراعاته أن يكون التطبيق على مراحل، وكذلك الاهتمام بالدراسات والبحوث العلمية من الجهات القضائية والمؤسسات العلمية المتخصصة لكل ما يتصل بالأحكام البديلة: تطبيقها وتنفيذها، والاستفادة من التجارب المحلية والإقليمية والعربية والعالمية في هذا المجال. واعتبر السلامة أن من أهم ما يتطلبه هذا المشروع، تحديد آليات التنفيذ البديلة والمناسبة للمملكة، ومنها مثلاً مرافق خاصة مستقلة أو تابعة لجهات معنية بالتنفيذ، ويمكن أن يكون هذا عملاً وطنياً عاماً تشارك فيه العديد من مؤسسات الدولة والمجتمع، ومن أهم متطلبات التوسع في تطبيق الأحكام البديلة إصدار ما يلزم ذلك من نظم ولوائح وأدلة خاصة بها.