لم تكن هولندا يوماً مقصد المهاجرين ومحجتهم. ولكنها لم تقفل الأبواب بوجه الهاربين إليها من الاضطهاد، مثل يهود أسبانيا والبرتغال في عهد محاكم التفتيش. ولطالما كانت بلداً يهاجر أبناؤه الى الخارج، ولا يقصده المهاجرون. فالهولنديون استوطنوا نيويورك وأستراليا، وبعض مدن البرازيل، قبل ان تنتزع قوى أخرى السيطرة على هذه البلدان. واستعمروا أندونيسيا طوال 350 عاماً. وتاريخ الهجرة الى هولندا للعمل والإقامة قريب، ويعود الى 1969 و1973. وفي أثناء المدة القصيرة هذه، وفد عشرات آلاف الأجانب، أكثرهم من المغاربة والأتراك، الى هولندا بموجب عقد عمل، وفي سبيل لم شمل عائلاتهم. وكانت أوضاع المهاجرين غير الشرعيين، تسوّى، من وقت لآخر. وفي خمسينات القرن المنصرم، قدم إلى هولندا عشرات الآلاف من أندونيسيا. ونجحوا في الاندماج في المجتمع المحلي الهولندي. وعندما استقلّت سورينام غويانا الهولندية، سابقاً في 1975، فضّل ربع سكانها المجيء إلى هولندا والعيش في مدنها. ولم يدرك الهولنديون التغيرات الحاصلة في بلدهم فور حصولها، الى أن لاحظوا، منذ نحو عقد، انتشار جماعات سكان أجنبية على أراضيهم، وخصوصاً في المدن الكبرى، أمستردام وروتردام وأوتريخت ولاهاي. وفي تسعينات القرن المنصرم، أفرطت وسائل الإعلام في الكلام على الهجرة. واجتاحت هولندا موجة من المشاعر الشعبوية كادت ان تنجح في حمل بيم فورتوين، السياسي اليميني المتطرف، إلى السلطة. ولكن تمييز المسلمين من بقية المهاجرين، خصوصاً بعد 11 أيلول سبتمبر 2001، كان أبرز تغيير طرأ على المجتمع الهولندي. والهجرة تحتل حيزاً كبيراً في المناقشات العامة. ويدور اهتمام وسائل الإعلام على المهاجرين المتحدرين من أصول إسلامية ومغربية. وتهمل هذه الوسائل تناول قضية المهاجرين البولنديين، ووصول عشرات الآلاف منهم إلى هولندا، على رغم ان ميل هؤلاء المهاجرين الجدد الى السياسات المحافظة قد يؤدي إلى إعادة النظر في تراث"التساهل والانفتاح"بهولندا. ووضعت الحكومة الهولندية شروطاً قاسية تعرقل لم شمل عائلات المهاجرين وتؤخرها. فالنجاح في امتحان الاندماج هو شرط الحصول على تأشيرة الهجرة. فإذا تزوجّت مغربية مغربياً يقيم في روتردام، عليها أن تتعلّم قبل وصولها الى هولندا اللغة الهولندية، وأن تدرس المحطات البارزة في تاريخ هذا البلد ودستوره وتقاليده. وإذا نجحت في الامتحان، تلحق العروس بزوجها. وقصة هجرتي الى هولندا سعيدة. ولقيت حفاوة الاستقبال في هذا البلد. وصلتُ إلى هولندا في 1989، ولم يكن هناك"امتحان دخول"، ولا محاولات وقف الهجرة. وحصلتُ سريعاً على وظيفة في الجامعة، ولم تواجهني مشكلة في الحصول على الإقامة أو تجديدها. ودرجت العادة في هولندا على العيش ضمن جاليات أو مجتمعات متجانسة. وأنا أشجب هذا النهج، وأمحض الأفراد، وليس الجماعات، ثقتي، وارتاب في الجاليات المتراصة الصفوف. وتنتشر في هولندا مدارس ومعاهد إسلامية. وثمة جامعة إسلامية في روتردام. والمؤسسات الطائفية تعوق الاندماج، وقد تفضي إلى وضع يماثل الوضع في بريطانيا، حيث شبان من أصول هندية أو باكستانية يعيشون في عزلة عن بقية البريطانيين، ولا يلتقون أبداً بريطانياً"أبيض"قحاً. وتجيز المادة 23 من الدستور الهولندي، إنشاء مدارسة خاصة بالطوائف والمذاهب. ولقي طلبي تعديلها استنكار جماعات مسيحية تتمسك بمؤسساتها التربوية. فالهولنديون يعلون من شأن المادة 23. فهي أسهمت في وضع حد لحرب المدارس التي دارت قبل نحو قرن، في هولندا. ولكن هذا البند يعوق، اليوم، اندماج بعض الشباب المغربيين والأتراك. وقضايا الهجرة والمهاجرين قد تبعث الاضطراب في أوروبا. فهذه القارة تحتاج إلى مزيد من المهاجرين، في وقت ينخفض فيها عدد السكان. ولكن الشعبويين قد يستغلون المخاوف من ازدياد عدد المهاجرين لترويج سياساتهم المتطرفة. عن فؤاد العروي ، "نوفيل اوبسرفاتور" الفرنسية، 1-7/11/2007