السعودية تحصد لقبها الثاني في كأس العالم للرياضات الإلكترونية    ارتفاع الأسهم الأمريكية في ختام التعاملات    النصر يعلن تعاقده مع المدافع مارتينيز لموسم واحد    السفير الصيني: 52 شركة صينية تشارك في معرض الصقور    جامعة الباحة تعلن استحداث القبول للدراسات العليا    موجز    مرحلة جديدة من الإبادة الجماعية.. إدانات دولية واسعة لقرار إسرائيل    الطريق إلى شرق أوسط مزدهر    الاحتلال يمضي في خططه للسيطرة على غزة.. السعودية تدين وترفض إمعان إسرائيل في الجرائم ضد الفلسطينيين    إيران تضبط 20 مشتبهاً بالتجسس لصالح الموساد    القيادة تعزّي رئيس غانا في وفاة وزير الدفاع ووزير البيئة ومسؤولين إثر حادث تحطم مروحية عسكرية    33.6 مليار ريال قيمة مشاريع المملكة في يوليو    أخضر ناشئي اليد يتأهل لثمن نهائي بطولة العالم    بعد ضم مدافع برشلونة.. النصر يسعى لحسم صفقة كومان    يوتيوبر مغربي يحصل على حقوق نقل دوري روشن    نجاح استمطار السحب لأول مرة في الرياض    آل طارش والعبدلي يزفون سامي    الشمراني عريساً    «المنافذ الجمركية»: تسجيل 1626 حالة ضبط خلال أسبوع    دعم إعادة التمويل العقاري    عزنا بطبعنا    العصرانية وحركة العصر الجديد    «التواصل» السلاح السري للأندية    فدوى عابد تنتهي من «برشامة» وتدخل «السلم والتعبان»    مدل بيست تختتم حفلات الصيف في جدة والرياض    ممرضة مزيفة تعالج 4000 مريض دون ترخيص    هيئة الصحة تستهدف وقايتهم من مخاطر السقوط.. 4 منشآت صديقة لكبار السن مع خطة للتوسع    «موانئ» تحقق ارتفاعًا بنسبة 12.01% في مُناولة الحاويات خلال يوليو 2025    أسعار النفط تحت وطأة شائعات السلام وحرب التعريفات    الغاز الطبيعي يشهد تحولات عالمية    المملكة تعزّي لبنان في وفاة وإصابة عددٍ من أفراد الجيش    الفرنسي"إينزو ميلوت"أهلاوياً ل 3 مواسم    ألتمان وماسك يشعلان سباق الذكاء الاصطناعي    الخليج يدعم صفوفه بالعمري    القبض على يمني وإثيوبي في جازان لترويجهما (9) كجم "حشيش"    مساعدات المملكة.. نبعٌ لا ينضب    خطيب المسجد الحرام: تعاونوا على مرضاة الله فهي غاية السعادة    إمام المسجد النبوي: الأمن من الخوف سكينة تغمر الحياة    فيصل بن فرحان يتحرك دبلوماسياً لوقف الانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني    ستة قتلى من الجيش اللبناني جرّاء انفجار ذخائر من مخلفات إسرائيلية    قرص يومي لإنقاص الوزن    إكرام الضيف خلق أصيل    تحت رعاية الملك.. انطلاق التصفيات النهائية لمسابقة الملك عبدالعزيز الدولية لحفظ القرآن    النفط الجديد من أجسادنا    المملكة تعزي لبنان إثر وفاة وإصابة عدد من عناصر الجيش    تهنئة سنغافورة بذكرى اليوم الوطني    سفير اليابان يزور المزاد الدولي لمزارع إنتاج الصقور 2025    تحذيير من استمرار الأمطار الرعدية على مناطق عدة    محافظ خميس مشيط يتفقد مركز الرعايه الصحية بالصناعية القديمة    فريق النجوم التطوعي ينفذ مبادرة صناعة الصابون لنزيلات دار رعاية الفتيات بجازان    المملكة ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة الدرب    أمير جازان يستقبل سفير جمهورية مالطا لدى المملكة    البدير في ماليزيا لتعزيز رسالة التسامح والاعتدال    محافظ تيماء يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة تبوك    نائب أمير الرياض يؤدي الصلاة على والدة جواهر بنت مساعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أفلام هزت السينما وصنعت تاريخها . اورسون ويلز يحقق "المواطن كين": أصمتوا ... العبقري يشتغل 4
نشر في الحياة يوم 30 - 08 - 2004

هي عشرة أفلام، وثمة كثير غيرها أيضاً، لكن هذه العشرة أقواها، أحدثت ثورة حقيقية في فن السينما. أتت لتتكامل مع ثورات سابقة، ممهدة لثورات لاحقة. لم تكن الأنجح ولا الأفضل في تاريخ الفن السابع، لكنها بالتأكيد كانت الأفلام التي غيّرت وأسست، ودفع بعضها الثمن باهظاً. هنا "المواطن كين" بعد "التعصب" و"الدارعة بوتمكين" و"ذهب مع الريح".
"صمت من فضلكم... هناك عبقري يشتغل!"، بهذه العبارة بدأت صحيفة "موشن بكتشر هيرالد" يوم 31 تموز يوليو 1940، مقالاً عن البدء في تصوير المشاهد الأولى لفيلم "المواطن كين". والعبقري الذي تحدث عنه المقال هو بالطبع أورسون ويلز الذي سيملأ دنيا السينما ويشغل ناسها طويلاً بعد ذلك. لكن المدهش في الأمر ان ويلز، كان في ذلك الوقت لا يزال يخوض تجربته السينمائية الجدية الأولى. صحيح انه كان وصل الى هوليوود قبل عام، من ذلك اليوم، لكنه لم يتمكن من تحقيق أي فيلم قبل "المواطن كين". ومع هذا كانت شركة "إر. كي. او راديو" وقّعت معه أعظم عقد شهدته هوليوود حتى ذلك الحين مع أي مخرج كان. فعلام استندت الشركة لولوج تلك المغامرة ولم يكن وويلز قد تجاوز الخامسة والعشرين؟ ومن ذا الذي أقنع الشركة بأن ويلز قادر على ان يحقق واحداً من أعظم الأفلام في تاريخ السينما؟ وكيف لم ينبهها أحد، الى ان الفيلم سيوقع الشركة في خسارة مالية ضخمة، ناهيك بالمشكلات القضائية والفضائح؟
أسئلة سيظل من الصعب الاجابة عنها. فقط يمكن القول ان أورسون ويلز كان بنى لنفسه شهرة ومكانة، في المسرح ثم في الاذاعة، حيث تمكن بعبقريته من اثارة أميركا كلها عبر برنامج اذاعي تمثيلي اقتبسه من رواية "حرب العوالم" لاتش. جي. ويلز، وبدأه كأنه نشرة أخبار حقيقية معلناً غزو أهل المريخ الارض. وصدقت أميركا كلها ذلك من الدقائق الأولى ليحسب الرعب في خانة عبقرية ذلك الفتى الذي سيصبح منذ ذلك الحين جزءاً أساسياً من ثقافة أميركا والعالم، سينمائياً وتلفزيونياً وكاتباً وساحراً وساخراً، لكن من دون ان يجد بعد "خبطة" "المواطن كين" من يموّل له أي فيلم من أفلامه في طول أميركا وعرضها. في أميركا نفسها التي لطالما افتخرت خلال الحقبة التالية بأن "ذلك الابن من أبنائها حقّق أفلاماً يدرج بعضها بين أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما". أما "المواطن كين" نفسه، فإنه غالباً ما يحتل المركز الأول، أو ينافس عليه أفلاماً مثل "الدارعة بوتمكين" و"الهجمة على الذهب" قبل ان يدخل "عراب" كوبولا الساحة ويتغلب على الجميع. لكن هذه حكاية أخرى.
مشكلة قضائية
نحن هنا، إذاً، في صدد "المواطن كين" الفيلم الذي بدأ به ويلز مساره الهوليوودي، وكان لا يزال في سن لا يعطى أصحابها عادة سوى موقع المتمرن. واللافت ان ويلز، حين قرر خوض ذلك المشروع في نهاية الأمر، فضّله على مشاريع أخرى كان من شأن شركة "راديو" ان توافق عليها، مثل اقتباس "في قلب الظلمات" عن جوزف كونراد، أو "الضاحك حاملاً سكيناً" أو حتى "دون كيشوت" أو أي عمل لشكسبير. لكن وسط ارتباك في الاختيار قفز مشروع "المواطن كين" فجأة الى الواجهة ولم تعترض الشركة. وهكذا جمع ويلز آخر شهر تموز يوليو 1940 عدداً كبيراً من الصحافيين مصوراً أمامهم المشاهد الأولى من الفيلم، ليخلد بعد ذلك الى تكتم دام 15 أسبوعاً هي مدة تصوير بقية المشاهد، اذ صار كل شيء سراً غامضاً. وسنعرف بعد قليل لماذا. المهم هنا ان ويلز الذي كان أمضى الشهور الهوليوودية السابقة يتجول بين الاستوديوات ويطلع على دقائق الحرفة السينمائية ويسأل بفضول عن كل شيء وعن كل تفصيل، سيتبين لاحقاً انه لم يكن يضيع وقته سدى: كان يحضر نفسه، ليس فقط لصنع فيلم يثير ضجة اجتماعية - سيقول لاحقاً انه لم يتعمدها أبداً - بسبب ما رآه أحد أعمدة الصحافة ويليام هيرست، في ذلك الحين، من ان الفيلم يحاول المساس به، من خلال شخصية كين التي تكاد تشبهه تماماً، بل لتحقيق فيلم يحمل تجديدات ثورية في اللغة السينمائية وفي استخدام الكاميرا وفن التوليف، الى درجة ان "المواطن كين" اعتبر رابع ثورة حقيقية في فن السينما، بعد ثورة يلياس ثم غريفيث ثم ايزنشتاين. وهذا الأمر لا مراء فيه، حتى وإن كان الأوروبيون هم الذين سيركزون عليه لاحقاً، طالما ان الأميركيين انشغلوا فور الاعلان عن قرب عرض الفيلم، بالدعوى التي أقامها هيرست عليه وعلى صاحبه وعلى الشركة التي أنتجته.
شكسبيرية ويلز
طبعاً ستهدأ ثورة هيرست لاحقاً، وسيتبين ان ويلز لم يتعمد تصوير قصة حياة ملك الصحافة، بقدر ما استعار ملامح تلك الحياة ليتحدث عن نفسه هو، أو عما كان يحب ان يكون، خصوصاً أن شخصية كين ليست أبداً على مثل تلك السلبية التي اعتقدت. والحقيقة ان أفلام ويلز التالية، ستصور دائماً شخصيات من ذلك الطراز: كبيرة، عملاقة، غالباً ما صنعت نفسها بنفسها لتعيش، كمكافأة لها على ذلك، كل غرابة الحياة وأحلامها: نقول هذا ونفكر طبعاً بالسيد اركادين، وفالستاف والمفتش كوينلن. وكلها شخصيات لها سمات شكسبيرية أكيدة لعبها ويلز بنفسه: بناها انطلاقاً من أنماط أدبية أو تاريخية، ثم ألبسها ملامحه ورغباته الخاصة. والحال ان هذا بدا واضحاً - لاحقاً - بالنسبة الى كين، لكن توضيحه استغرق شهوراً كانت الفضيحة فيها قد عمّت ولم يعد في امكان هيرست التراجع عن هجومه على الفيلم ومحاربته له بما له من امكانات صحافية واجتماعية وتأثير، ما حطم مسار أورسون ويلز الهوليوودي منذ البداية. ولنذكر هنا ان ويلز كان من الغيظ والاستغراب ازاء موقف هيرست، الى درجة انه ذات يوم من ذلك الحين، هدّد بأن يحقق فيلماً عن حياة هيرست حقاً مضيفاً: "وسيدرك هذا الرجل يوماً انه في الحقيقة أقل عظمة ورومانطيقية من كين بكثير...".
والحقيقة ان كين في الفيلم، شخص رومانطيقي عاطفي، كما كان ويلز نفسه طوال حياته. وشخص مرتبط بطفولته ارتباط ويلز بها. وشخص صنع نفسه بنفسه على الطريقة التي بها كانت مسيرة ويلز. وهذا ما يجعلنا نميل أكثر الى اعتبار "المواطن كين" سيرة متخيلة - ماضياً وحاضراً ومستقبلاً - لويلز، حتى وإن كانت باولين كيل، احدى أكبر نقاد السينما في أميركا، وضعت كتاباً عن الفيلم، يُعظمه ولكن يؤكد في الوقت نفسه ان ويلز هو مخرج الفيلم لا أكثر: صنعه انطلاقاً من سيناريو كتبه هرمان مانكفيتش. وقد يكون هذا صحيحاً. بل ثمة أيضاً جون هاوسمان، رفيق ويلز في عمله المسرحي وفي مسرح "مركوري"، الذي شارك في كتابة السيناريو، غير ان هذا لا ينفي مسؤولية ويلز التامة عن الفيلم، وارتباطه التام بحياته الخاصة... وحياته المتخيلة.
فعمّ يتحدث "المواطن كين" بعد هذا كله؟
البطل ميتاً منذ البداية
عن "المواطن كين" تماماً، وبكل بساطة. ولكن من خلال تحقيق يقوم به صحافي يدعى تومبسون غايته معرفة مغزى الكلمات الأخيرة التي يتفوه بها كين قبل ان يموت. ذلك ان الفيلم يبدأ بموت بطله. وكان هذا الأمر أيضاً جديداً على السينما الأميركية في ذلك الحين، حيث ان ويلز استخدم في الفيلم أسلوب التراجع الزمني، الى درجة أصبح الفيلم معها في النهاية أشبه بلعبة كلمات متقاطعة. فإذا مات كين وهو عملاق صحافة مرموق، تلفظ بكلمات بدت غامضة ومنها كلمة "روزباد" التي حيّرت الجميع، وبدت في نهاية الأمر وكأنها الكلمة المفتاح، التي بها يمكن تفسير ما كان يبدو غامضاً من حياة ذلك الرجل. وتومبسون يقوم بتحقيقه ويجمع الشهادات عن تاريخ كين، بحيث يشكل المجموع قصة حياته، التي لو أخذت في شكلها الخطي، في فيلم عادي لما أنتجت شيئاً استثنائياً. ولكنها هنا أمام كاميرا ويلز وعبقرية لغته السينمائية، اتخذت مساراً آخر، وصارت أشبه بالحياة والحلم الممزوجين معاً في تشعباتهما. وفي النهاية، لن يكتشف تومبسون أبداً سر كلمة "روزباد"، غير ان المتفرج سيكتشف ذلك السر، اذ في لقطة رائعة في الفيلم عند نهايته يرى المشاهد زلاقة ثلج للأطفال حفر عليها اسم "روزباد". ويدرك المشاهد كيف ان كين انما تلفظ في نهاية حياته وقبل ان يغمض عينيه باسم تلك الزلاقة التي هي رمز طفولته التي ظلّ طوال حياته يبحث عنها من دون ان يجدها. بالنسبة الى كين - وبالنسبة الى ويلز أيضاً - ما نبحث عنه طوال حياتنا ونفتقده ونعجز دائماً عن العثور عليه انما هو طفولتنا، التي كنا أصلاً عجلنا في رغبة الخروج منها لندخل عالم الكبار. ونحن نعرف طبعاً ان الطفولة كبراءة ولعب وتلاعب، تسيطر تماماً على كل شخصيات أفلام ويلز. ومن هنا لن يدهشنا أبداً ان نرى في "المواطن كين" قبل أي شيء آخر فيلماً عن الطفولة، عن البراءة المفقودة.
ومن أجل الوصول الى تلك الفكرة جنى ويلز كل ذلك الفيلم، وغاص في تفاصيل حياة تلك الشخصية التي تبدو طوال لحظات الفيلم نقيضاً لما تمليه سمات الطفولة. ولعل هنا يكمن جوهر هذا الفيلم. ولنذكر هنا للمناسبة ان واحداً من المشاريع التي كان ويلز يخطط لتحقيقها، فيلم عن طفولة هتلر، كما انه حين بدأ يكتب سيناريو انطلاقاً من رواية كونراد "في قلب الظلمات" كان يريد ان يخصص جزءاً من مشاهد الفيلم للتحدث عن طفولة كورتز، المتمرد الذي أنشأ لنفسه مملكة وسط أدغال أفريقيا حكمها بالحديد والنار لعب الدور مارلون براندو لاحقاً في فيلم "القيامة الآن" الذي بناه كوبولا انطلاقاً من رواية كونراد نفسها.
الذات عبر الآخرين
في الشكل الذي بنى عليه ويلز سيناريو "المواطن كين" ثم الفيلم يجد الصحافي جوزف كوتون نفسه يستجوب خمسة أشخاص من الذين عرفوا كين جيداً، فأحبه بعضهم وكرهه بعضهم الآخر. ولقد راح كل من هؤلاء يروي للصحافي حكاية عن كين. وبدت كل حكاية مختلفة عن الأخرى، بل متناقضة معها، بحيث انه بدا في النهاية ان من المستحيل حقاً معرفة حكاية حياة كين. وبالنسبة الى ويلز، فإن هذا الاستنتاج ينطبق على كل حقيقة وعلى كل حياة، ولنترك ويلز يتحدث بنفسه عن الشخصية: "بالنسبة الى البعض، لم يحب كين في حياته سوى أمه. وبالنسبة الى البعض الآخر، هو لم يحب سوى صحافته... وبعضهم قال انه لم يحب سوى زوجته الثانية سوزان مغنية الأوبرا التي أنفق الملايين كي يبني لها دار أوبرا في شيكاغو، ما ذكر طبعاً بعلاقة ويليام هيرست بالممثلة ماريون دايفيس...... بينما رأى آخرون انه في الحقيقة لم يحب سوى نفسه. والحقيقة محيرة: فلربما أحب كين كل هؤلاء معاً. ولربما لم يحب في حياته شيئاً أو أحداً. وللجمهور وحده ان يحكم على هذا". طالما ان الصحافي - والفيلم بالتالي - لا يمكنه الا ان يقدم صورة الرجل كما رواها الآخرون. وهنا نعطي الكلام مرة ثانية لويلز: "ان ما يراه الجمهور هو ان كيف كان في الوقت نفسه أنانياً ونزيهاً، مثالياً ونصاباً، رجلاً كبيراً وشخصاً تافهاً. وكل حكم هنا انما يرتبط بمن يطلقه... أما كين فإنه لا يشاهد أبداً عبر عين مؤلف موضوعي. أما بالنسبة اليّ، فإن هدفي من الفيلم ليس حل المعضلة، بقدر ما هو طرحها كسؤال".
والحقيقة هي ان أهم ما يمكننا ان نقوله عن "المواطن كين" اليوم، بعد نحو ثلثي قرن من انجازه، هو انه لا يزال سؤالاً كبيراً تتفرع عنه عشرات الأسئلة. بل لعله أول فيلم عن فرد حقيقي في تاريخ السينما. وأول فيلم عن الحياة نفسها كما يجدر بالسينما ان تقدمها. فهل ننطلق من هذا لنقول انه كان أيضاً وخصوصاً، أول فيلم عن الانسان بكل غموضه وتقلباته، وهل ننطلق أيضاً من هنا لنقول انه أيضاً. فيلم عن أسئلة ويلز نفسه عن ذاته وعن أعماقه وعن تلك الأمور التي يريدها من الحياة ويسعى اليها؟
بالتأكيد، لكن هذا سرعان ما يقودنا الى لعبة الكلمات المتقاطعة من جديد: فماذا هنا؟ فيلم عن الطفولة؟ عن الفرد؟ عن الصحافة؟ عن الأنانية؟ عن الحلم الأميركي؟ فيلم رومانطيقي؟ عن قوة الحب؟ عن العصامية؟ شيء من كل هذا... وربما كل هذا معاً، في الوقت نفسه الذي ينتصب هذا الفيلم كمرآة تجابه كل واحد منا، مرآة لا تأبه بخلفية الصورة، بل تسعى الى المستحيل: ان تظهر ما في داخلنا. ولكن هل نحن نعرف حقاً ما في داخلنا؟ ان هذا السؤال الضمني والمقلق هو، في يقيننا، ما أرعب المتفرجين في مجال تعاطيهم مع "المواطن كين" وجعلهم يستنكفون عن مشاهدته، لأن الأسئلة حين تكون غامضة ومقلقة الى هذا الحد تصبح عبئاً على من يرصد، وتعطيه رغبة في الانفصال عما يشاهد، من الصعب على "المواطن كين" ان يحققها له.
سحر الفن / سر الحياة
وفي يقيننا ان هذا الاستنتاج - الافتراضي الى حد ما - هو "روزباد" الحقيقية في لعبة التعاطي مع "المواطن كين" والمفتاح الضمني لعظمته وفشله في آن معاً. وتماماً كما ان الصحافي تومبسون غرق خلال تحقيقه حول حياة كين في كم من الحقائق أعماه عن مشاهدة الحقيقة الصغيرة النهائية: حقيقة ما تعنيه كلمة "روزباد"، حدث للذين تعاطوا مع فيلم "المواطن كين" ان غرقوا في ما قيل عن تجديدات الفيلم التقنية والفنية، وتحت وابل غموض أو بشاعة قصر "كزانادو" الذي بناه كين لنفسه مذكراً بقصور كوبلاي خان، وتحت تأثير المحاكمة التي دارت حول الفيلم، ولم يخسرها ويلز حقوقياً في نهاية الأمر، الى درجة انهم تجاهلوا دائماً رؤية الجوهر الفلسفي والفكري لعمل أخاذ حُلّل دائماً وفُسّر انطلاقاً من عمق حقل التصوير، واللقطة / المشهد، وبنية الأسقف وقدرة الكاميرا على مشاهدتها مع الأرضية مع خلفية الصورة في الوقت نفسه... كما أثار الاعجاب دائماً بفضل بنائه انطلاقاً من لعبة الكلمات المتقاطعة، والتقاطع بين الحكايات والشهادات، بحيث غُيب دائماً ما هو أساس فيلم: صعوبة دنوه من الحياة، ككناية عن صعوبة الدنو من الحياة نفسها. وإذا كان غموض الحياة يعطي الحياة سحرها وقدرتها على اسعادنا وارعابنا في الوقت نفسه، فإن صعوبة الدنو من جوهر "المواطن كين" واستبدال ذلك بالدنو من تجديداته السينمائية والفنية الرائعة، هي ما يعطي الفيلم سحره وقدرته على اسعادنا وارعابنا في الوقت نفسه
أورسون ويلز
يعتبر أورسون ويلز من أعظم السينمائيين في تاريخ السينما العالمية، ومع هذا فإن أياً من أفلامه لم يحقق نجاحاً جماهيرياً حين عرض. بل ان معظمها هوجم حتى من جانب النقاد الذين كانوا يعودون دائماً للاعتراف بتلك الأفلام كقمم في مسار الفن السابع. وأعمال ويلز كانت، على أية حال، متفاوتة القيمة. فهو لم يحقق دائماً تحفاً كبيرة، حتى وإن كانت شكسبيرياته تعتبر الأفضل. "عطيل" الذي قدم في مهرجان "كان" 1952 باسم المغرب، حيث صور وفاز بالسعفة الذهبية و"فالستاف" و"ماكبث".
ولد أورسون ويلز العام 1915، ورحل عن عالمنا في العام 1985، تاركاً عشرات المشاريع التي كان يحلم بتحقيقها، اضافة الى ذكريات شخصيته الغنية والساحرة، الى جانب أفلامه الكبيرة مثل: "المواطن كين" و"آل آمبرسون الرائعون" و"كل هذا حقيقي" و"الغريب" و"سيدة من شانغهاي" و"لمسة الشر" وخصوصاً "المحاكمة" عن رواية فرانز كافكا.
كان ويلز اضافة الى هذا ممثلاً عملاقاً مرموقاً، أعار ملامحه، وأحياناً صوته الفخم فقط، لأفلام أخرجها آخرون، في الولايات المتحدة. وفي أوروبا حيث عاش معظم حياته بعدما ضاقت به السبل في موطنه أميركا. وتزوج ثلاث مرات، كانت ثانيتها من ريتا هايوارث التي أدارها في بعض أجمل أدوار حياتها، لكنها لم تحتمل شخصيته المهيمنة وذكاءه المرعب، فرحلت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.