الذهب يستقر مع ضعف الدولار وسط رهانات خفض أسعار الفائدة وتراجع عوائد السندات    النفط يتجه لمكاسب أسبوعية مع آمال خفض "الفائدة" وتصاعد التوترات الجيوسياسية    مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري يشارك في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025    الاتحاد يمدد عقد عبد الرحمن العبود    غوميز يستهدف بديل إيكامبي    اللواء العنزي يشهد حفل تكريم متقاعدي الأفواج الأمنية    ملتقى ميزانية 2026 يختتم أعماله    باستوريلو يضع النقاط على الحروف بشأن صفقات الهلال    هيئة الهلال الاحمر بالباحة تشارك جمعية الاطفال ذوي الاعاقة الاحتفاء باليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة    جمعية التطوع تفوز بالمركز الأول في الجائزة الوطنية للعمل التطوعي    وفد أعضاء لجنة الصداقة البرلمانية السعودية الهندية بمجلس الشورى يلتقي وزير الشؤون البرلمانية وشؤون الأقليات بجمهورية الهند    وزير التعليم يلتقي القيادات بجامعة تبوك    المؤتمر العربي رفيع المستوى يدعو إلى تعزيز حماية الأطفال    المجلس العالمي لمخططي المدن والأقاليم يختتم أعماله    اعلان مواعيد زيارة الروضة الشريفة في المسجد النبوي    التوصل لإنتاج دواء جديد لعلاج مرض باركنسون "الشلل الرعاش"    هيئة الأدب والنشر والترجمة تنظّم مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025    أمين جازان يتفقد مشاريع الدرب والشقيق    كولينا : استخدام (فار) في احتساب الضربات الركنية لن يعطل المباريات    تهامة قحطان تحافظ على موروثها الشعبي    الدفاع المدني يحتفي بيوم التطوع السعودي والعالمي 2025م    أمير تبوك يستقبل معالي وزير التعليم ويدشن ويضع حجر الأساس لمشروعات تعليمية بالمنطقة    جمعية سفراء التراث تحصد درجة "ممتازة " في تقييم الحوكمة لعام 2024    رصد مسيرات بالقرب من مسار رحلة زيلينسكي إلى دبلن    واشنطن تستضيف قرعة كأس العالم 2026 اليوم    وزير التعليم يؤكد استمرار تطوير التعليم في تبوك وتعزيز البنية الرقمية وتهيئة البيئة التعليمية    ب 56 ميدالية .. السعودية تتصدر العالم في بطولة كمال الأجسام    أمير جازان يؤدي واجب العزاء لأحد أفراد الحماية في وفاة شقيقته    في الوقت القاتل .. سوريا تخطف التعادل أمام قطر في كأس العرب 2025    منتدى القطاع غير الربحي الدولي بالرياض.. خارطة طريق لتعزيز الاستدامة والابتكار في القطاع    معركة الرواية: إسرائيل تخوض حربا لمحو التاريخ    مفتي عام المملكة يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة الإذاعة والتلفزيون    السعودية تسجل رقما عالميا في موسوعة غينيس كأكبر عدد من المشاهدين لدروس مباشرة عن التطوع    انطلاق العرض الدولي ال8 لجمال الخيل العربية الأصيلة في ال9 من ديسمبر الجاري بالرياض    قمة البحرين تؤكد تنفيذ رؤية خادم الحرمين لتعزيز العمل الخليجي وتثمن جهود ولي العهد للسلام في السودان    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    مفردات من قلب الجنوب ٣١    أكد معالجة تداعيات محاولة فرض الأحكام العرفية.. رئيس كوريا الجنوبية يعتذر عن الأخطاء تجاه «الشمالية»    1.3 مليار ريال للبنية التحتية والكهربائية ل«قمم السودة»    برعاية خادم الحرمين..التخصصات الصحية تحتفي ب 12,591 خريجا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    مقتل آلاف الأطفال يشعل الغضب الدولي.. العفو الدولية تتهم الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب    سمر متولي تشارك في «كلهم بيحبوا مودي»    معرض يكشف تاريخ «دادان» أمام العالم    الناتو يشعل الجدل ويهدد مسار السلام الأوكراني.. واشنطن وموسكو على حافة تسوية معقدة    آل حمدان يحتفل بزواج أحمد    تعاون سعودي – كيني لمواجهة الأفكار المتطرفة    في ذمة الله    صيني يعيش بولاعة في معدته 35 عاماً    ابتكار علاج صيني للقضاء على فيروس HIV    الكلية البريطانية تكرم الأغا    هرمونات تعزز طاقة المرأة العاملة    افتتاح متحف زايد الوطني في أبوظبي    إقحام أنفسنا معهم انتقاص لذواتنا    لم يكن يعبأ بأن يلاحقه المصورون    الطلاق الصامت.. انفصال بلا أوراق يُربك الأسرة    القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده    أضخم منصة عالمية للاحتفاء بالحرف اليدوية.. «الثقافية» تمثل السعودية بمعرض أرتيجانو آن فييرا    رجل الدولة والعلم والخلق الدكتور محمد العقلاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصدر للقتال والسيستاني للأعتدال النجف مدينة علم وسياسة وعاصمة الحوزات امام خيارات المصير
نشر في الحياة يوم 30 - 08 - 2004

النجف لغة هو المكان الذي لا يعلوه الماء، وللمدينة أسماء أخرى ومنها الغري البناء الجميل الجيد العمارة والمشهد مجمع الخلق ومحتشدهم.
وتاريخياً كانت النجف منتزهاً للساسانيين وحلفائهم المناذرة ومن بعدهم لورثتهم العباسيين. ودينياً هي قبل الاسلام منزل النبي ابراهيم، وفيها مرقد للنبيَين هود وصالح، وقد اعتنق بعض سكانها المسيحية، وتحتضن حتى اليوم آثاراً لأديرة عدة.
ويقال أن المنطقة التي تقوم فيها النجف كانت موئلاً للقبائل العربية النازحة من اليمن وشبه جزيرة العرب. والظاهر أنها كانت تاريخياً تطل على بحر النجف، قبل أن يجف، وكانت لها موانئ تزدحم فيها سفن التجارة.
وفي تاريخ النجف بعد الاسلام محطات رئيسة منها:
1- الفتح الاسلامي في السنة 633 12 ه والذي تم عن طريق المصالحة مع سكان المنطقة بدفع الجزية وبقائهم على مسيحيتهم.
2- إنشاء مسجد الكوفة في العام 637 16ه الذي كان بمثابة وضع حجر أساس لمدينة جديدة هي قاعدة الجيش الاسلامي بقيادة سعد بن ابي وقاص.
3- اتخذها الخليفة الرابع وأول أئمة أهل البيت، علي بن أبي طالب، عاصمة لخلافته في العام 656 36 ه.
ويقال أن الامام علي كان يزور الذكوات البيض عند النجف، التي كانت تعرف آنذاك بظهر الكوفة. ومن المعروف أنه بعد اغتياله اتُخِذَ من هذه الذكوات قبراً له بناء على وصيته لاعتقاد يقول أن فيها قبور عدد من الانبياء. ومن المعروف أن هذا القبر ظل شبه سري غير معروف لعامة الناس حتى العام 786 170ه عندما بنى عليه الخليفة العباسي هارون الرشيد قبة، وذلك لتأكيد الصلة بعلي، واسترضاء الحزب العلوي، خصوصاً فرع الامام الحسين حيث كان أبناء الحسن في ثورة دائمة ضد الحكم العباسي.
لكن المكانة الخاصة التي عليها النجف اليوم تبدأ في تاريخ لاحق فارق بين مرحلتين في تاريخ الامامية الاثني عشرية: مرحلة حضور الأئمة من أهل البيت مباشرة أو عبر سفرائهم، والتي انتهت العام 940 329 ه، حيث بدأ عصر يلعب فيه فقهاء الشيعة دور القيادة النسلية لأتباع مدرسة أهل البيت.
وتاريخ النجف العلمي يبدأ مع هجرة محمد بن الحسن الطوسي 998 1067 388480 ه المعروف لديهم باسم شيخ الطائفة الى النجف بعدما كان متولياً كرسي الكلام في بغداد وذلك إثر اشتداد الخلاف بين فرق المسلمين وحصول اعتداء على منزل الطوسي واحراق كرسي العلم الذي كان يجلس عليه. ويذكر التاريخ أن هجرة الطوسي وقعت في العام 1057 449 ه أي أن عمر مدرسة النجف وحوزتها يقارب الآن الألف سنة وهي بذلك أعرق المدارس الدينية المستمرة حتى اليوم.
وقامت مكانة النجف التاريخية على ثلاثة عناصر:
الأول، وجود قبر الامام علي فيها وما ألحق به من مقبرة وادي السلام، التي هي أضخم مقبرة في العالم ويتوجه اليها الشيعة من مختلف أنحاء العالم لدفن موتاهم فيها.
الثاني، وجود أكبر حوزات العلم عند الشيعة لتخريج العلماء في الدين الاسلامي بشكل عام وبفقه الامام الصادق سادس أئمة أهل البيت بشكل خاص.
وهكذا فإن علماء الدين الامامية متخرجون، في غالبيتهم الساحقة، من حوزات النجف أو على الأقل تلقوا العلم فيها ولو لفترة محدودة من حياتهم العلمية. لذلك يُذكر لبعض الظرفاء قوله عن النجف أنها "تستورد الجثث وتصدر العمائم".
العنصر الثالث في مكانة النجف يتجلى في أنها كانت مكان اقامة أبرز علماء الامامية وذلك بصورة شبه دائمة مع فترات احتلت فيها الحلة ومشهد والكاظمية وسامراء هذه المكانة، وكان ذلك مرتبطاً بإقامة ابرز العلماء الذين كان يطلق عليهم المجتهدون. ومن بينهم يشار الى المجتهد الاكبر الذي حيث يقيم تكون المرجعية، وقد أصبح يطلق عليه منذ أكثر من خمسة عقود اسم المرجع الاعلى. وهو المنصب الذي يحتله، اليوم، الامام علي الحسيني السيستاني.
وهنا لا بد من الاشارة الى أنه منذ تأسيس النجف كان تداخل العامل السياسي بالعوامل الدينية مؤثراً سلبياً على مدينة العلم وعاصمة الحوزات، لذلك كان الميل عند كبار المراجع تجنُّب الخوض في السياسة مع استثناءات كانت تفرضها أحداث معينة ما كان يضفي انطباعاً بأن هذا المرجع مهموم بالسياسة أكثر من غيره ومعظم المراجع مرّت مرجعيتهم بفترة غلب فيها الشأن السياسي على غيره من شؤون المرجعية.
وشهد التاريخ السياسي لمرجعية النجف محطات تعود الى الصراع الصفوي - العثماني الذي كان العراق بكامله ميدانه الارحب وكان مستقبل حوزة النجف نقطة ارتكازه الاولى.
وفي الغالب ما كانت النجف تتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي "وفي خلال العصور التاريخية كان علماء الشيعة فيها يحرصون على تأكيد استقلالهم الديني والسياسي... وأن النجف كانت دوماً تؤكد استقلالها الذاتي..." كما يقول المفكر الباحث الاسلامي عبدالله فهد النفيسي في كتابه: "دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث" ص 47. وهو يرى في المصدر نفسه أنه "في ما يتعلق بتاريخ النجف الحديث فإن استقلالها السياسي توطد بعد مهاجمة سليم باشا لها سنة 1850 بغية إخماد تمرد شيعي نشب في المدينة". ويذهب الى أبعد من ذلك عندما يعترض على استعمال مفردة: تمرد أو عصيان "لأن النجف لم تخضع يوماً - ما لم ترغم على ذلك - لسلطة بغداد المركزية".
والارغام بالقوة هذا بلغ ذروته في عهد النظام العراقي السابق برئاسة صدام حسين الذي شهد صراعاً مريراً مع عدد من مراجع الشيعة، خصوصاً منهم الامام محسن الحكيم والسيد محمد باقر الصدر والامام ابو القاسم الخوئي ثم المرجع الحالي آية الله العظمى السيد علي السيستاني.
لقد مثّل المرجع الأعلى محسن الحكيم. ويذكر الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين أنه وبعض زملائه من مساعدي الحكيم نحتوا لقب المرجع الاعلى كي يضفوا قوة على المنصب في مواجهة استبداد السلطات التي بدأت تتكرس منذ انقلاب 14 تموز يوليو 1958 وبلغ ذروته مع انقلابي 17 و30 تموز 1968 ومجيء البعث بقيادة أحمد حسن البكر وصدام الى السلطة.
المحاولة الأكثر بروزاً في تاريخ النجف الحديث التي اتسمت بنوع من الهجوم الايجابي تمثلت بحركة للمرجع ورفع مطالب واصدار فتوى ومواقف متصلة بالشأن السياسي ومتغيراته، كانت في ظل مرجعية الحكيم الذي دخلت في عهده المرجعية في صراعات مع الرئيسين عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف مع بعض الهدنة في عهد عبدالرحمن ثم مع نظام البكر وصدام. وهنا نلفت الى أن للحكيم الشاب تجربة في العمل السياسي تعود الى الوقوف في وجه القوات البريطانية والمشاركة في ثورة العشرين. بل لعله المرجع الوحيد من معاصريه الذي انتقل الى بغداد ليقود تحركاً شعبياً ويضع لائحة بمطالب سياسية ودينية. ولم يكتف بالتلويح بالتحرك الشعبي بل مارسه عملياً عندما تحول مركز اقامته في بغداد الى قبلة للعراقيين الوافدين من مناطق البلاد المختلفة، وبخاصة الجنوب وعشائره، لتأييد المرجع في مطالبه وحركته.
وإذا كانت السلطة قد تظاهرت بإفساح المجال لحوار مع المرجع حول هذه المطالب فإنها كانت تريد أن تمتحن صلابة التحرك الشعبي. ولكن ما أن هدأ هذا التحرك حتى عادت السلطة الى تشددها. وفي مرحلة لاحقة وجد الامام المرجع نفسه شبه وحيد أمام حملة شعواء من السلطة ودعايات سوداء تطلقها اذاعة بغداد الحكومية ضد أبرز انجال الحكيم ومبعوثه للحوار مع السلطة وهو السيد مهدي الحكيم الذي اغتالته الاستخبارات العراقية أثناء زيارة له الى السودان بعد حوالي عشرين عاماً من فراره من العراق متهماً بالعمالة للشاه وللغرب.
وتكرر الأمر بصورة تكاد تكون طبق الاصل مع السيد باقر الصدر، الذي كانت السلطات تراقب مواقفه، خصوصاً بعد قيام الثورة الاسلامية، واستشعار أوساط اسلامية عراقية بوجود فرصة للتحرك ساهم النظام نفسه في الترويج لها من خلال فتح قنوات للحوار مع السيد باقر الصدر. وعاد الصدر وحيداً حين أُخذ في عتمة ليل ونُفذ فيه وأخته حكم فوري بالاعدام. وكان التحرك والوفود التي حدثت في فترة سابقة وقفة اختبار اتخذت فيها السلطات كل احتياطاتها لمنع كل تحرك.
وبالنسبة الى المرجع الاعلى ابي القاسم الخوئي كان الأمر مختلفاً، فالخوئي الذي ورث مرجعية في حالة هزيمة بعد وفاة السيد الحاكم، اعتمد اسلوب الحياد السلبي في مرحلة والدفاع السلبي في مرحلة لاحقة قبل أن يتحول الى الدفاع الايجابي مع انتفاضة 1991. في الأولى مارسَ دوراً مزدوجاً: رعاية المرجعية الظل الناشئة متمثلة بالسيد باقر الصدر من جهة والمحافظة على استمرارية حوزة العلم النجفي بحماية طلبتها واساتذتها من قرارات التسفير والتهجير ومن حالات التوقيف والاعتقال من جهة ثانية. ومرت على هذه المرجعية ثلاث محطات عصيبة:
قيام الثورة الاسلامية في إيران وما رافقها من تغيير. ولم يكن الخوئي واعياً فقط لاستحالة استنساخ التجربة في العراق، بل كان أيضاً متحفظاً عن حدود نجاحها في ايران نفسها.
وزاد في احتدام الموقف اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية وتزايد الضغوط على المرجعية لإصدار مواقف مؤيدة لبغداد، وهذا ما كان مستحيلاً حدوثه بالدرجة نفسها التي كان فيها من المستحيل الانتقال من تأييد حق إيران في الدفاع عن نفسها إلى حد تأييد دور إيران لتغيير النظام في العراق. وما يترتب على ذلك من انقسامات وتداعيات داخل العراق وفي المنطقة المحيطة، خصوصاً على الشيعة فيها.
ثم جاء غزو الكويت وما ترتب عليه من حرب انتهت باندلاع انتفاضة شملت 14 محافظة عراقية وقيل أكثر، من بينها محافظة النجف ومحافظات الوسط والجنوب الأخرى.
ومنذ اندلاع الانتفاضة تحول دور المرجعية الى محاولة لضبط تطوراتها بمنع فوضى الداخل من جهة ومنع استقلال الخارج من جهة ثانية، والأمران حدثا وسهّلا على النظام استعادة المبادرة وسحق الانتفاضة، ورفعت شعارات على دبابات النظام المهاجمة للنجف تحمل عبارة: "لا شيعة بعد اليوم". الجسر الوحيد الذي امتد لدعم المرجعية أو ما تبقى منها بعد قتل عدد كبير من العلماء وأصحاب الرأي المحيطين بها وهجرة الناجين منهم الى الخارج، تمثل بموقف دولي اتسم بالتذبذب بين المراهنة على اعادة تأهيل النظام والعمل على إضعافه وتغييره، ما امتد لسنوات، تمكّن النظام خلالها من ضرب مرجعية الخوئي الذي كان أول مرجع أعلى يعتقل ويستدعى بالقوة للمثول أمام رأس النظام في بغداد، الذي اكتفى بذلك من دون انزال عقوبة الاعدام به لكي يمارس عليه عملية القتل البطيء، جسدياً بتعقيد وصول الأدوية اللازمة ومنعه من الخروج للمعالجة في الخارج، وعملياً بمتابعة سياسة التضييق على من حوله. وكان الخوئي بعد باقر الصدر المرجع الذي يُشيَّع سراً وتمنع عائلته من اقامة العزاء المتعارف عليه.
في هذه الاثناء بدأ اسم السيستاني، حتى قبل وفاة الخوئي، بالبروز كمرجع أعلى محتمل. ما أدى الى وقوعه في حال حصار أقفلت عليه باب درسه ومركز صلاته وحصرت علاقته بالقليل من الافراد. الأمر الذي قابله تشجيع أطراف أخرى للمرجعية لخلق التناقض بينها في وقت كانت فيه روح التضامن بين علماء الدين تضعف، ولم تتكرر مواقف مثل موقف الخوئي من الحكيم عندما شعر الأول أن نظام بغداد يحاول أن يبرز مرجعيته إزاء مرجعية الحكيم، وكان الحكيم قد امتنع عن زيارة الخوئي اثناء مرضه في بغداد أو حتى ارسال مندوب عنه لذلك قيل ان الخوئي خاف أن تفعل تصرفات النظام بين المرجعين فعلها، لذلك كان أول بيت دخله بعد عودته من المستشفى الى النجف هو بيت السيد الحكيم نفسه إذ أصر على زيارته قبل العودة الى منزله الخاص. في المقابل يذكر أن يوسف النجل الأكبر للحكيم، الذي نُودي به مرجعاً بعد وفاة والده، ذهب بنفسه وعقد البيعة في المرجعية للخوئي، بخلاف رأي كثيرين من اتباع مرجعية والده. وفي فترة ما بعد الخوئي فرض الحصار على السيستاني وتمت تصفية عدد من العلماء بواسطة عمليات اغتيال مدبرة، كان من بينهم الغروي والبروجردي والصدر الثاني.
ودخل الانقسام الى اتباع المرجعيات داخل العراق وخارجها وتمكن النظام من فرض سطوته عليها حتى في مراحل ضعفه الأخيرة.
في المقابل كانت مرجعية السيستاني تمتد خارجياً وتتوسع في إيران كما في العالم العربي والهند وباكستان وأوروبا، الأمر الذي جعل منه المرجع النافذ الكلمة بعد سقوط النظام وأهّله للعب دور كبير في توجيه الاحداث، من فرض الانتخابات كوسيلة وحيدة لكسب شرعية الحكم الجديد، الى عدم اعطاء المشروعية لسلطة الاحتلال، الى دعم عملية انتقال السيادة تدريجياً الى العراقيين ورفض الدخول في مغامرة المقاومة المسلحة، مع حشد الطاقات تمهيداً لعمل سلمي يحسم نتائج الانتخابات ويدفع بقوات الاحتلال الى الخروج، في وقت أصدر فتاوى متتالية لقطع الطريق على سياسات الفوضى والانتقام من أن تعمّ العراق وقد نجح في بداية الامر الى حدود بعيدة.
وساهمت عوامل اقليمية وداخلية في تعقيد عمل المرجعية واعاقة عملية اعادة البناء للعراق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وانفرجت هذه العوامل عن الصراع المسلح الذي دار حول الصحن الحيدري وامتد الى انحاء النجف بل الى انحاء العراق. وبرزت ظاهرة عرفت باسم "التيار الصدري" الذي تعددت معالم حضوره وتباينت وجوهه ومطالبه وعرف تقدماً وتراجعاً، وفي أحيان كثيرة وقع في اطار سياسات لا تخدم اهداف التيار نفسه، كما لا تخدم العراق ومستقبله وتؤدي الى اضعاف المرجعية وتعطيل دورها.
أمام هذا الوضع تقف النجف والعراق والمرجع الاعلى على مفترق طرق بعد العملية التي قادها السيستاني منذ رجوعه من رحلته العلاجية وانطلاقاً من البصرة حيث قاد مسيرة تحرير النجف وربما تحييدها، ما يدفع الى طرح أكثر من تساؤل ستجيب عليه الاحداث، ومنها:
- هل يتوحد الشيعة العراقيون في اطار مرجعية السيستاني أم أن الفوضى المسلحة ستغرق ليس فقط التحرك والمرجعية، بل شيعة العراق انفسهم؟
- هل سيؤدي توحد الشيعة على موقف واحد من السلطة ومن الاحتلال الى اعادة التوازن المختل الى الداخل العراقي وإلى العراق الاقليمي أم سيدفع الامور نحو استقطابات مذهبية توظف اقليمياً؟
- هل ستعود النجف الى انطوائها حماية لنفسها أم أنها ستفرد أجنحة العقل والاجتهاد لتساهم في خلاص العراق؟
ليست مرجعية النجف وحدها في الميزان، اليوم، بل ان الشيعة في تاريخهم ومستقبلهم في هذا الميزان، فهل هم مجرد قوة رفض وحزن أم هم عقل بناء وتفتح؟ هل باجتهادهم سيتقدمون أم بحزنهم سيتكبلون؟ فهكذا هو تاريخهم يتأرجح بين العقل والحزن، بين قوة تقدم وعامل انكفاء، لكن الى متى، خصوصاً أنهم اليوم أمام امتحان لا عذر لهم فيه بأن اضطهاداً واقعاً عليهم وبأن قيداً يقيدهم، فهم من فعل أنفسهم سيكونون أو لا يكونون
النجف: الحوزة والمقبرة
ذكرت احصاءات أجريت في شهر كانون الأول ديسمبر العام 1957 أن مجموع طلبة الحوزة كان 1954 طالباً موزعين كالآتي: 896 ايرانياً و326 عراقياً و324 باكستانياً و270 تيبيتياً و71 هندياً وكشميرياً و47 سورياً ولبنانياً و26 خليجياً.
كان نقل الجنائز الى العراق تجارة رابحة جداً واتخذ بعض الأشخاص من الجنائز عملاً يدر عليهم الارباح وكانت وزارة الاوقاف تفرض رسماً معيناً على عملية الدفن. وفي العام 1914 حصل على هذا الامتياز يهودي بغدادي بعد دفعه رسماً مقداره 13 الف ليرة ذهبية.
وحسب الاحصاءات التي قامت بها الادارة العثمانية العامة عام 1912 -1913 بلغ عدد المدفونين في النجف ومن خارجها 7558.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.