«التعليم» تحدد أنصبة التشكيلات المدرسية في مدارس التعليم العام    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول أمطار بعدد من المناطق ورياح نشطة في الشمال    حبس البول .. 5 آثار أبرزها تكوين حصى الكلى    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    رئيس وزراء اليونان يستقبل العيسى    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    برعاية الملك.. انطلاق مؤتمر مستقبل الطيران في الرياض.. اليوم    جائزة الرعاية القائمة على القيمة ل«فيصل التخصصي»    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    وزير الخارجية يبحث ترتيبات زيارة ولي العهد لباكستان    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    «أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 42 موقعاً حول المملكة    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    الانتخابات بين النزاهة والفساد    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسي والكاتب الجزائري المخضرم يتحدث الى "الوسط". محمد حربي : الجزائر من خرافة الحزب الحاكم الى حقيقة الجيش والدولة
نشر في الحياة يوم 28 - 01 - 2002

محمد حربي المدرس في جامعة باريس من مواليد 1933، اكتشف الفكر الماركسي وهو لا يزال تلميذاً في ثانوية بلدية سكيكدة بواسطة استاذ التاريخ الذي كان من أنصار النزعة التروتسكية. ثم تعمق أكثر بعد انتقاله الى باريس في خريف 1952، واحتكاكه بدانيال جيرات من أقطاب الأممية الرابعة.
التحق حربي بثورة التحرير في خريف 1956 ونشط في لجنة الاعلام والدعاية في اتحادية جبهة التحرير في فرنسا، قبل ان يلتحق بقيادة الثورة حيث عمل أولاً في تونس في وزارة القوات المسلحة التي كان على رأسها آنذاك بلقاسم كريم أحد "التاريخيين الستة"، ثم في القاهرة كوكيل بالنيابة لوزارة الخارجية، وكان قبل ذلك، مثل الحكومة الموقتة لفترة قصيرة في غينيا. وغداة الاستقلال ساهم حربي في تأسيس مجلة "الثورة الافريقية" مع اسماء لامعة مثل جميلة بوحيرد وزوجها جاك فرجيس والكاتب الصحافي جيرار شاليان، ثم التحق بديوان الرئيس أحمد بن بله مع نخبة من المناضلين التروتسكيين العالميين، من أمثال لطف الله سليمان مصر وميشال رابيتس اليونان.
ومن هذا الموقع، عارض انقلاب 19 حزيران 1965 الذي أطاح بالرئيس بن بله، وساهم في تأسيس "منظمة المقاومة الشعبية"، مع عدد من أصدقائه الماركسيين والتقدميين. لكن استخبارات الرئيس هواري بومدين استطاعت بسرعة تفكيك هذه المنظمة واعتقال منشطيها ونفيهم الى أعماق الصحراء الجزائرية. وفي سنة 1970 استغل حربي فرصة وضعه تحت الإقامة الجبرية في سكيكدة، ليفر الى فرنسا حيث قرر الاستقرار والتدريس والتأليف.
من أهم مؤلفات حربي الذي يكتب بالفرنسية: "جبهة التحرير بين السراب والحقيقة"، "أرشيف الثورة الجزائرية"، "حياة أبية" الذي صدر أخيراً في باريس والجزائر، وهو عبارة عن الجزء الأول من مذكراته ويغطي الفترة ما بين 1945 و1962.
قبل فترة زار حربي الجزائر بدعوة من المحافظة السامية للأمازيغية، للمشاركة في ملتقى بعنوان: "المطلب الأمازيغي في الحركة الوطنية". وقد التقيناه وأجرينا معه الحديث الآتي:
ماذا يعني حضوركم في محاكمة الملازم الحبيب اسوايدية صاحب كتاب "الحرب القذرة" في باريس في شباط فبراير المقبل؟
- رأيي بصراحة ان الجزائريين يمكن ان يكسبوا كثيراً بإيجاد ساحة سياسية اكثر ديموقراطية، تسمح لهم بمناقشة مشاكلهم الداخلية في بلادهم.
ولا شك ان غياب مثل هذا المتنفس الداخلي هو الذي دفعهم الى تصدير هذه المشاكل.
وهناك وجه آخر لهذه المشكلة وهو ان الدولة تطلب من مواطنيها عدم تصدير المشاكل الداخلية، لكنها كثيراً ما تبادر بتصدير هذه المشاكل! اننا نراها مثلاً تلاحق مواطنيها بالاعتماد على الخارج، ولا تتحرج من فعل ذلك أحياناً لإجبارهم على الصمت!
ان مثل هذا الوضع يمكن ان يتغير، عندما تكف الدولة عن مثل هذه الممارسات، ويصبح تصور النقاش بين الجزائريين بكيفية اخرى أمراً ممكناً. فالمشكلة إذاً لا تعني قضية اسوايدية مع اللواء المتقاعد خالد نزار وحدها، على سبيل المثال عرفت فرنسا اثناء حرب الجزائر مشكلة ضباط سامين قالوا لدولتهم بصوت عال: "نرفض القيام بما يراد منا ان نفعله في الجزائر"، وقاموا بفتح نقاش حول هذا الموضوع الشائك داخل فرنسا، ولم يخطر على أي منهم ان يحاول تصدير ذلك، لأن النقاش باختصار كان ممكناً في فرنسا.
شاركتم أخيراً في الجزائر في ملتقى "المحافظة السامية للأمازيغية" حول "المطلب الأمازيغي في الحركة الوطنية". هل طرح هذا المطلب فعلاً قبل الاستقلال؟
- هذه المسألة طرحت فعلاً في اطار الحركة الوطنية الاستقلالية خلال الأربعينات من القرن الماضي، لكن قبل ذلك كانت هناك محاولة في اطار الايديولوجية الاستعمارية، استهدفت بعث حركات طائفية محلية وجعلها في المستوى نفسه مع طائفة المستوطنين الفرنسيين، اي اعتبار اعماق الشعب الجزائري وهذه الطائفة الاجنبية في المستوى نفسه، في سياق التأسيس لبناء النظام الاستعماري في الجزائر. وقد أدى ذلك الى ظهور بعض الأطروحات مثل "التعارض بين الشرق والغرب" و"الشرق الهمجي... والغرب المتحضر" فضلاً عن الترويج لصورة "البربري الديموقراطي" و"العربي المتسلط"، واطروحات اخرى تستهدف في مجملها الحط من قيمة الشعب الجزائري كشعب.
هذه الايديولوجية، وجدت طبعاً صدى في أوساط "النخب الجديدة"، سواء في منطقة القبائل أو في عموم الجزائر، لكنها لم تجد صدى كبيراً في أوساط النخبة المثقفة بالعربية، كما لم تؤثر كثيراً في الأوساط الشعبية.
غير ان المسألة البربرية، ما لبثت ان ظهرت ايضاً لدى بعض العناصر الوطنية، ويمكن ان نميز في هذا الصدد بين طرحين:
الطرح الأول ينطلق من فكرة "ان الجزائر متميزة عن بقية البلدان العربية ببعدها البربري، هذا البعد الذي ينبغي أخذه في الاعتبار".
ومثل هذا الطرح، ظهر في صفوف "حزب الشعب الجزائري" الحركة الثورية الاستقلالية خلال الأربعينات من القرن العشرين، وهذا ما ناقشناه في ملتقى "المحافظة السامية للأمازيغية" أخيراً.
الطرح الثاني وهو اكثر خطورة في نظري، ويعبر عن حركة سلفية، تدعو في جوهرها للعودة الى الأصل. أي ينكر أو يضع بين قوسين جزءاً كاملاً من المسار التاريخي. والملاحظ ان عدم اعطاء البعد البربري حقه ضمن أسس الهوية الجزائرية، الى جانب البعد العربي والابعاد الجديدة - أدى الى ظهور تطرف بربري بعد الاستقلال خصوصاً اذا تواصل حسب منطقه الخاص فإنه يشكل خطراً أكيداً على وحدة البلاد.
ويمكن القول باختصار ان ظهور البعد البربري للهوية الجزائرية أمر طبيعي وضروري، شرط ألا يصبح عامل تفكيك وفرقة، ولكن عامل ادماج وانصهار.
ترى ما هي قراءتكم الخاصة لما يجري في منطقة القبائل؟
- من الخطأ في تقديري اعتبار منطقة القبائل كتلة واحدة، فقد سبق أن عانينا كثيراً من وهم الاجماعية على المستوى الوطني، وبالتالي لا ينبغي أن نقع في الوهم نفسه على الصعيد الجهوي، فالمواطنون في منطقة القبائل، أسوة بغيرهم في بقية المناطق، من المفروض أن يعبروا عن اختلاف آرائهم، دفاعاً عن نوعية المصالح الخاصة بكل فئة منهم.
والملاحظ أن مطالب منطقة القبائل انطلقت على أساس لغوي، لكن الظاهرة البارزة في السنوات الأخيرة ان الحركات السياسية المتنافسة في المنطقة شرعت في استغلال هذه المطالب، الأمر الذي جعل البعد الطائفي يقتحم مجال المطالب السياسية والاجتماعية، ولا خلاف على شرعية هذه المطالب عندما تتعلق بالثقافة والعمل والعدالة، على عكس بعض المطالب المتطرفة التي تنكر مثلاً الحاجة إلى الدولة أو إلى الجزائر ككيان موحد.
وما رأيكم في المطالبة باعتماد الامازيغية لغة وطنية ورسمية ثانية؟
- الطابع الوطني للأمازيغية تحصيل حاصل، لأنها موجودة فعلاً في مناطق مختلفة من البلاد. لذا لا ضير في أخذ المطلب اللغوي في الاعتبار وتمكين هذه اللغة - من ناحية الوسائل - من التحول تدريجاً إلى لغة تواصل وتبادل. لكن المهم الآن، في اعتقادي، هو تمكين اللغة العربية أولاً من القيام بدورها كلغة ادماج وانصهار، وهذا هو الأهم والعملي في آن واحد بالنسبة إلى سكان الجزائر.
ولكي تضطلع العربية بهذه الوظيفة الحيوية، لا بد من تحضير جيد. وفي تقديري أن التعريب لم يتم تحضيره بطريقة ناجعة. وأعرف شخصياً تجارب مماثلة في افريقيا كانت أحسن حظاً، مثل تجربة اللغة السواحلية في تنزانيا والصومال التي تمكنت من القضاء على الانكليزية تقريباً، بينما نحن في الجزائر لم نستطع القضاء على الفرنسية، لأن الطرح عندنا خرج عن نطاق الرهان الثقافي، ليكتسي طابع الرهان الاجتماع السياسي، وهنا يكمن أحد أوجه الأشكال في نظري.
وخلاصة القول رداً على سؤالكم: نعم للتفكير في مكانة اللغات في الجزائر، لكن من الخطأ تصور الجزائر كوطن لأكثر من شعب.
وكيف ترون من "مرصدكم" الباريسي التجربة التعددية الجارية في الجزائر منذ 1989؟
- اعتقد بأن تشكيل ساحة سياسية في بلد ما هو مسألة في غاية الجدية. والملاحظ أن جميع البلدان التي خرجت من تجربة الحزب الواحد تعاني صعوبة على هذا الصعيد.
غير أن المهمة في الجزائر تبدو أكثر تعقيداً، لأن غالبية الأحزاب انشئت بقرارات فوقية على أساس الارتباط بالدولة، فلا غرابة إذاً أن تسارع هذه الأحزاب بطرح مشكلة ادماجها في نظام الحكم قبل أن تستكمل عملية تأسيسها!
هناك إذاً خطأ جوهري بالأساس، لأنه من الصعب تكوين ساحة سياسية بأتم المعنى بمثل هذه الأساليب.
ولماذا برأيكم تم اعتماد أحزاب على أساس الدين والجهة، في خرق صارخ لدستور 1989؟
- اعتقد بأن خرق الدستور كان مقصوداً بناء على حسابات مبيتة منذ البداية. وكان من المفروض ألا تعتمد مثل هذه الأحزاب أصلاً، طالما أن موقف الدستور في هذا الشأن سليم تماماً.
وما هي في نظركم "التعددية الموضوعية" الممكنة في الجزائر؟ وما مكانة التيار الإسلامي في هذه التعددية؟
- عرفت الجزائر أثناء فترة الاحتلال ابتداء من عشرينات القرن الماضي، ما يشبه التعددية، على أساس ظهور حركات سياسية وثقافية مثل "حزب الشعب الجزائري" و"الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري" و"جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، فضلاً عن "الحزب الشيوعي الجزائري"، بيد أن تلك التجربة التعددية لم تكن سليمة تماماً لسببين رئيسيين:
أولاً، ان فرنسا كانت تتدخل باستمرار في الحياة السياسية، وكان هذا التدخل عائقاً جوهرياً لتشكيل وساطات سياسية حقيقية.
ثانياً، ان ظاهرة الاحتلال ومطلب الاستقلال المتولد عنها، جعلا الأحزاب تظهر في شكل حركات مقاومة أساساً، أي لم تكن في حقيقة الأمر تعبّر عن مصالح طبقية أو غيرها. فأحزاب ما قبل الاستقلال إذاً مهما كانت انتماءاتها، كانت تجمع في صفوفها مصالح متباينة، وكان من الطبيعي أن يكون مآلها الفشل، نظراً إلى عدم وجود تمايز اجتماعي جدي، يربط بين مناضليها من جهة وبينهم الفئات التي يدعون تمثيلها أو التعبير عنها من جهة ثانية. فتجربة ما قبل الاستقلال إذاً يمكن أن تفيد التاريخ أكثر مما تفيد في تأسيس ساحة سياسية تعددية جديدة.
أما بخصوص مكانة التيار الإسلامي في التجربة التعددية، فلست أرى شخصياً من حرج، في ظهور حركات على غرار أحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا. أي حركات ترى من الضروري الدفاع عن بعض القيم الدينية كتلك المتعلقة بالعائلة أو الميراث وما إلى ذلك.
ويمكن القول في هذا الصدد انه ليس من حقنا أن نجبر الناس على التخلي عن آرائهم، وان كان من واجبنا ان نمنعهم من ادعاء احتكار الحقيقة دون سواهم! وهنا يكمن جوهر الخلاف مع بعض الحركات الإسلامية، فإذا تنازلت هذه الحركات عن مثل هذه الأوهام، فليس هناك ما يبرر حظرها أو رفض اعتمادها، لأنها في هذه الحال تصبح أحزاباً عادية، ولو أنها تحمل قيماً مستمدة من الديّن أو التقاليد.
أشرتم في مذكراتكم التي صدرت أخيراً في كل من باريس والجزائر، إلى أن الجزائر انتقلت خلال النصف الثاني من القرن العشرين من "حال مصالي - الحزب" إلى "حال الجيش - الدولة"، فهل من توضيح لهذه المقولة؟
- التصور العادي لأية حركة تحررية أنها تنطلق من الشعب كمصدر للسيادة الوطنية، ومن الأدوات النضالية التي ينشئها، ومنها طبعاً ما يكتسب طابعاً عسكرياً بالضرورة، على أن يظل خاضعاً للأجهزة المدنية في نشاطه. هذا التصور هو الذي اعتمده "حزب الشعب الجزائري" عندما قرر سنة 1947 تأسيس جناح عسكري باسم "المنظمة الخاصة".
لكن عند اندلاع الثورة التحريرية في مطلع تشرين الثاني نوفمبر 1954 حدث العكس، أي أن الطابع العسكري ما لبث أن طغى على الحركة السياسية، بعدما أصبحت العناصر المسلحة هي جوهر التنظيم الثوري، وأدى ذلك إلى تضاؤل التأثير الشعبي ان لم نقل إلى انعدامه تماماً. ضمن هذه الآفاق ظهرت إمكان تشكيل "الجيش - الدولة". وفي تقديري الخاص أن جبهة التحرير الوطني لم تكن قط ذلك "الحزب - الدولة" كما يزعم بعضهم.
لكن للانصاف، ينبغي أن نوضح أن العسكريين في بعض المراحل اشتركوا فعلاً مع المدنيين في القيادة، كما حدث ذلك قبل 1957 وفي عهد الرئيس بومدين الذي لم تكن مكانته كقائد للجيش لتمنعه من القيام بدور الحكم في مختلف النزاعات، وهو دور شخصي وان كان بواسطة سلطة قائمة على الجيش أساساً.
عرفت مرحلة الثورة التحريرية ظاهرة "ازدواجية القيادة"، ألا ترون أن هذه الظاهرة ما تزال مستمرة من خلال ما يعرف اليوم ب"السلطة الفعلية" في مقابل "السلطة الرسمية"؟
- بالفعل أصبحت "الازدواجية" من خصائص قيادة الثورة ابتداء من صيف 1957، ويمكن اعتبار أن دورة مجلس الثورة التي انعقدت في القاهرة في آب اغسطس بمثابة ايذان عن ظهور "سلطة صورية" هي "لجنة التنسيق والتنفيذ" الثانية من جهة، و"سلطة فعلية" ممثلة في الثلاثي كريم وبن طبال وبوصوف من جهة ثانية.
وشهدت مرحلة الاستقلال بعض محاولات الموازنة بين "الصوري" و"الفعلي"، لكنها فشلت، مما جعل الكفة تميل من جديد لمصلحة "سلطة الظل".
وتبدو هذه السلطة الخفية بحاجة إلى مجموعات ضابطة للاستقرار. ولعل هذا ما يفسر وجود "مجموعة وجدة" في عهد الرئيس بومدين، وعندما جاء الرئيس بن جديد حاول أن يسير على النهج نفسه، غير أن المجموعة التي التفتت حوله لم تكن على الدرجة نفسها من القوة والاستقرار قياساً بسابقتها.
ويمكن القول إن الوضعية على هذا الصعيد أصبحت بعد رحيل بن جديد مأسوية إلى حد بعيد، بمعنى أنه لم تعد هناك سلطة خفية موحدة، بل متعددة الرؤوس والأقطاب.
إن حال الجزائر اليوم شبيه بما كانت عليه في أواخر العهد التركي، فهناك مجموعات عدة نافذة تتفاوض في ما بينها حول كل شيء!
خيّر الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول الجزائر عشية توقيع اتفاقات ايفيان بين حلول ثلاثة: الفرنسة أو الشراكة أو الاستقلال. ترى أين تقف الجزائر اليوم من هذه الحلول الثلاثة؟
- اعتقد أن الجزائر استطاعت في عهد الرئيس بن بله والرئيس بومدين أن تتمتع باستقلالية كبيرة في اتخاذ القرار، لكن ما نلاحظه ان هذه الاستقلالية أخذت تتقلص منذ حوالي 20 سنة، بعدما أصبحت العوامل الدولية طرفاً مهماً في الساحة السياسية الداخلية.
طبعاً عندما نتحدث عن العوامل الدولية، ينبغي أن نعرف بأن جزءاً من النخبة الحاكمة في الجزائر مرتبط بفرنسا أكثر من غيرها، من حيث الآفاق السياسية، خصوصاً ضمن هذه الآفاق يمكن لهذه الفئة من النخبة ان تدافع عن مصالح جزائرية، لكن مصالح جماعات من الأقلية لا مصالح عامة الشعب.
هل توصلتم الى اختراع مفاتيح مناسبة لفهم الواقع الجزائري؟ أم انكم لا تزالون تستخدمون "المفاتيح المستمدة من الأطر التحليلية الخاصة بالمجتمعات الأوروبية" حسب اعترافكم؟
- لا يخفى عليك ان جزءاً مهماً من الثقافة السياسية، بما في ذلك العربية منها، مستعار من الغرب، والإشكال الذي يعترضنا جميعاً لا يكمن في مدى مقدرتنا على تطويع هذه الاستعارات وتوطينها. هذا الإشكال لا يعني الجزائر وحدها، فقد عرفته الصين كما عرفته فيتنام ودول اخرى تبدو اكثر تماسكاً من الجزائر التي عاشت مرحلة تفكيك وتشتيت منظم من جراء الهيمنة الاستعمارية. ولم يعرف العالم المعاصر اكثر من بلدين، تمكنا من توطين الاستعارات الغربية وهما اليابان وتايلندا.
وحركة التوطين هذه جارية اليوم في جميع بلدان العالم الثالث تقريباً، وان كان من السابق لأوانه معرفة كيف ستكون هذه الحركة وما هي النتائج التي ستترتب عليها. ومهما يكن فإن مجتمعاتنا هي الآن بصدد استيعاب العناصر المزروعة فيها، وككل عملية زرع فإنها لا يمكن ان تتم من دون ألم أو معاناة.
لو طلبنا من الاستاذ حربي شيئاً من النقد الذاتي للاختيار الماركسي في الجزائر، خصوصاً وفي العالم العربي عموماً، ترى ماذا يمكن ان يقول؟
- في اعتقادي ان معظم الماركسيين العرب انجذبوا الى الماركسية لأمرين: أولاً: الاعتقاد بأن تقنيات التنمية التي اعتمدت في بعض الأقطار العربية يمكن ان تحقق استقلالية كبيرة تجاه الغرب. وهذا وهم طبعاً.
ثانياً: الاعتقاد بإمكان تحقيق التقدم مع تجنب تعارض المصالح.
ومعنى ذلك باختصار، ان الاشتراكية التي طبقت في بلداننا كانت مجرد استمرار للوطنية. كان ينبغي إذاً ان نعيد النظر في كل هذه الاشياء، لأن الماركسية عندنا - مثلما كانت في الصين - كانت ماركسية نضال ضد الامبريالية، ولم تكن ماركسية صراع اجتماعي حقيقي.
ومن الاخطاء التي ينبغي تسجيلها ايضاً، ان النخبة الماركسية في العالم العربي، كانت تعتقد العلم باعتباره القيمة العليا التي تسمو على كل القيم، ومن البديهي ان هذه النظرة الى الماركسية خاطئة من أساساً.
ذكرتم في مذكراتكم أن جيلكم من اليساريين، كان على أتم الاستعداد للتضحية بالثقافة الوطنية في سبيل الحداثة، فهل ما زلتم على القناعة نفسها؟ وهل "التضحية" بالثقافة الوطنية هي المعبر الاجباري للحداثة؟
- الحداثة تكتسي أكثر من معنى، فإذا أخذناها فقط بمعنى التطور العلمي والتقني بمعزل عن العلاقات الاجتماعية، يمكن ان تؤدي بنا الى خيبات كثيرة. أما إذا أخذناها بمعنى التطور الذي يحمل في طياته بعداً ديموقراطياً، فإنها يمكن ان تساعدنا على التطور البطيء، لكن بخطى ثابتة وأكيدة.
وما رأيكم في ظاهرة العولمة وما تحمل من تحديات لبلد كالجزائر؟
- تحمل العولمة فعلاً تحديات خطيرة، ينبغي إدراك حقيقتها وأبعادها، واعتقد شخصياً، اننا لا نملك الوسائل الملائمة التي تمكننا من الاحتكاك بهذه التحديات ايجابياً، والانتفاع بذلك لدعم اسس استقلاليتنا.
ومن أولى هذه الوسائل، المقدرة على قيادة المجتمع بطرق ديموقراطية لخوض غمار هذه المواجهة، وما تقتضيه من أخذ وعطاء مع المحيط الدولي الجديد. هذا البعد للأسف هو ما تفتقر اليه معظم بلدان العالم الثالث، فنحن عاجزون على التفاوض ندا لند، لأن الأنظمة الحاكمة بكل بساطة لا تتمتع بالدعم الكافي من مجتمعاتها، فهي تعيش في شبه غربة وأحياناً تبني سياستها ضد هذه المجتمعات!
ويعرف الشريك الخارجي ذلك، ومن ثم فهو لا يأخذ هذه الأنظمة مأخذ الجد، الأمر الذي يضعها في مكانة غير مناسبة للتفاوض على مصالح شعوبها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.