السوق السعودي يترقب مسار السيولة    توطين سلاسل الإمداد    تصوير مذنبين لامعين في سماء صحراء الإمارات العربيه المتحدة    ملخص الخبر: "وزارة الداخلية تحتفي بمرور 100 عام على تأسيس الدفاع المدني"    جامعة الإمام عبد الرحمن تبرم مذكرة تفاهم مع جمعية "اعتدال" لحفظ النعمة        طبيب سعودي يحقق جائزة التميز في زراعة الكبد    ولي العهد يعزي هاتفيًا رئيس وزراء الكويت في وفاة الشيخ علي الصباح    آل الشيخ: معرفة أسماء الله الحسنى تزيد الإيمان وتملأ القلب طمأنينة    في يومٍ واحد.. عسير تحتفي بإنجازٍ مزدوج لخدمة الإنسان    رئيس الخلود: لا نتوقف عن العمل من أجل سوق الانتقالات الشتوية    وزارة الرياضة تحقق مستهدفات جديدة في نسب ممارسة النشاط البدني لعام 2025    الفتح يطلق حملة جماهيرية لمواجهة الاتفاق امتدادًا لشعار "الحساوي فتحاوي"    السديس: أمتنا أحوج ما تكون لهدايات القرآن في زمن الفتن    الديوان الملكي: وفاة صاحبة السمو الأميرة هيفاء بنت تركي بن محمد بن سعود الكبير آل سعود    منظمة الصحة العالمية تجلي 41 طفلا من قطاع غزة    أنظمة الدفاع الجوي الروسية تسقط 3 مسيرات متجهة إلى موسكو    الرئيس الموريتاني يصل جدة لأداء مناسك العمرة    مسابقة "كأس فرسان علم السموم العرب" تنطلق اليوم    رابطةُ العالم الإسلامي تُشيد بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية    جمعية توعية الشباب تعزز مهارات التعامل التربوي مع الأبناء    تدشين فعالية اليوم العالمي للصحة النفسية في الخبر    مطار الملك سلمان الدولي يوقّع شراكة استراتيجية مع منتدى TOURISE 2025 لدعم السياحة المستدامة    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    الوداد المغربي يتعاقد مع الجناح زياش    المنتخب السعودي يُتوّج بلقب كأس العرب للهجن بنسخته الثانية    صقّار يطرح أول شاهين في حياته ويبيعه ب(193) ألف ريال    انعقاد مجلس الأعمال السعودي الأسترالي النيوزلندي السعودي    تنقل زواره لتجربة سينمائية عبر رحلة تفاعلية مكتملة    «سلمان للإغاثة» يوزّع (213) سلة غذائية في مخيم لواء باباجان في أفغانستان    انتهاء التقديم على «منصة التوازن العقاري» للراغبين بأراضي سكنية في الرياض    ميندي: ضغط المباريات ليس عذراً    الأهلي يتغلّب على النجمة بهدف البريكان ويحتل المركز الرابع في دوري روشن للمحترفين    فرع الشؤون الإسلامية بجازان يفعّل أكتوبر الوردي بمبادرة صحية توعوية    163 ألف ريال لصقرين في مزاد نادي الصقور السعودي 2025    بيان عربي إسلامي: ضم الضفة انتهاك صارخ للقانون الدولي    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان أهالي فرسان    أمير منطقة تبوك يواسي أسرة القايم    59.1% من سكان السعودية يمارسون النشاط البدني أسبوعيا    الأمين العام للأمم المتحدة يأمل أن تلتزم بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية    بروكسل تعد القاهرة بمساعدات بقيمة 4 مليارات يورو خلال أول قمة أوروبية – مصرية    لشيخ الدكتور صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان مفتيًا عامًا للمملكة العربية السعودية ورئيسًا لهيئة كبار العلماء ورئيسًا عامًا للرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بمرتبة وزير    نائب أمير نجران يتسلم تقريرًا عن مشاريع الأمانة    محافظ الطائف يلتقي مدير الدفاع المدني اللواء القحطاني    تكليف العنزي مديراً للإعلام ومتحدثاً لوزارة الشؤون الإسلامية    جذب شركات واستثمارات أجنبية واعدة..القويز: 1.2 تريليون أصول مدارة في السوق السعودية    برنامج ثقافي سعودي- فرنسي يمتد حتى 2030.. 50 مليون يورو لدعم مشروع «مركز بومبيدو»    آل حلوّل والضليمي يزفون داؤود    المملكة توقع اتفاقية دولية للإنذار المبكر من العواصف    أكد رسوخ الوفاء والمبادرات الإنسانية.. محافظ الأحساء يكرم مواطناً تبرع بكليته لوالده    القيادة تعزي أمير الكويت في وفاة علي الصباح    أمر ملكي بتعيين الفوزان مفتياً عاماً للمملكة    أجريت إنفاذاً لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. نجاح عملية عيب خلقي في القلب لطفلة فلسطينية    بالونات مجهولة تثير مخاوف الأمريكيين    الاستثمار في رأس المال البشري.. البيز: 339 سعودياً يدرسون الأمن السيبراني في أمريكا    معقم الأيدي «الإيثانول» يسبب السرطان    نادي الساحل يكرم حملة التطعيم    التراث يحفّز الاستثمار ويقود ازدهار المتاحف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسئلة المستقبل تحاصر البيت البيروتي العريق . لبنان : زعامة آل سلام من أبو علي الى تمام
نشر في الحياة يوم 18 - 09 - 2000

وحدهم الذين يعرفون تمام سلام، أدركوا، حين فاجأ المجتمع اللبناني باستقالته من رئاسة جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية، ومن عضوية مجلس أمنائها، ان الرجل لا يناور، ولا يحاول ان يلتف على هزيمته الانتخابية. يومها قال كثيرون ان تمام سلام يستقيل لكي يجتمع الناس من حوله ويطالبوه بعدم الاستقالة والتراجع عنها، فيعود عند ذلك وقد حقق اجماعاً من حوله، يعوّض ما حصل يوم انتخابات نواب مدينة بيروت. لكن اليومين التاليين للاستقالة أكدا ان تمام سلام كان جاداً فيها، وأنه حقاً يريد الابتعاد عن مركز يعتبر انه كلفه الكثير: منصب رئيس أهم جمعية تربوية في لبنان وربما في العالم العربي أيضاً، وحجته في ذلك انه بات يشعر انه أصبح عبئاً على الجمعية، وأن الجمعية أصبحت عبئاً عليه. والسبب في هذا هو أن العمل من خلال جمعية المقاصد بات مطلوباً منه ألا يكون عملاً سياسياً بعد الآن. مع ان الفصل بين السياسي والتربوي في مثل هذه الظروف شبه مستحيل.
فهل معنى هذا أن تمام سلام تخلى عن العمل التربوي لكي يتفرغ للعمل السياسي؟
ليس من السهل الآن الإجابة على هذا السؤال. وبالتحديد لأن الذين يعرفون تمام سلام عن قرب يمكنهم ان يفترضوا ان تصوره للعمل السياسي والعمل العام، يتناقض كثيراً مع ما هو متاح في لبنان في الظروف الحاضرة. ولعل تجربة سليل عائلة سلام العريقة سياسياً، طوال سنوات أربع قضاها في المجلس النيابي، ممثلاً مدينة بيروت، كشفت له عن هذا الواقع بحيث ان الرجل، حتى حين كان يمارس مهامه النيابية ويطرح أسئلته ويساجل ويعترض، بهدوئه المعتاد، كان لا شك يسائل نفسه عما يفعله في الندوة البرلمانية، بل عما يمكن لأي شخص ان يفعله وسط مناخ يجعل كل شيء مرسوماً سلفاً، وبمقادير لا تترك مجالاً لأي اجتهاد.
حجم الخسارة
ليس معنى هذا، بالطبع، ان تمام سلام كان غائباً عن هذه الحقيقة حين رشح نفسه عن مدينة بيروت وانتخب في العام 1996، ولا حين وجد نفسه مرشحاً طبيعياً في دورة هذه السنة. بل يمكن القول ان تمام سلام كان يعلم تماماً انه سيخسر مقعده هذه السنة حين فشل التقارب بينه وبين رفيق الحريري، وحين أصر الأخير، أمام انفراط التحالف مع تمام سلام، على تشكيل لائحة مغلقة حتى وإن كانت تضم "مجهولين" لا يمكن لأي منهم ان ينال بضع مئات من الأصوات لو لم يكن اسمه وارداً في لائحة الحريري الثلاثية. بل ان تمام سلام، الذي "أخذ" محمد البرجاوي - ممثل "حزب الله" عن المقعد الشيعي - على لائحته لم تكن تخامره آمال كبيرة، كان يعرف ان التسويات والكواليس ستضم البرجاوي في نهاية الأمر الى احدى لوائح الحريري، وأن ذاك سيحرمه أصوات الشيعة التي كان يمكن ان تفيده لو ظل البرجاوي خارجاً عن لائحة الحريري.
بالنسبة الى تمام، كان كل شيء واضحاً، لكنه آثر المجازفة حتى النهاية لكيلا يقال انه "هرب" من المعركة. ومن هنا ما لاحظه كثيرون خلال الأسبوعين الأخيرين قبل انتخابات بيروت، انه لم يقم بأية حملة انتخابية جدية. اكتفى ببضع صور علقت لدى مناصرين حقيقيين له، وببضعة اجتماعات وتصريحات. كان يتصرف وكأنه يعرف سلفاً كيف ستكون النتيجة في مجابهة "بولدوزر" انتخابات حقيقي.
غير ان ما لم يحسب تمام سلام له حساباً كان حجم الخسارة نفسها، وواقع أنه لم ينل سوى 3 آلاف صوت سنّي، هو الذي كان يجب ان ينال عشرة أضعاف ذلك، تقليدياً على الأقل.
بالنسبة الى المراقبين المحايدين، كان واضحاً ان المجتمع السنّي في بيروت "غدر" بتمام سلام. وكان هذا الأمر كافياً لبعث المرارة في نفس رجل برز في الساحة السياسية والاجتماعية في بيروت منذ ربع قرن، في البداية كوريث لأسرة تمارس زعامة شعبية حقيقية في بيروت منذ بدايات القرن العشرين، ولكن بعد ذلك - واذ اكتشفه الناس تدريجياً -، كسياسي هادئ ومتزن له مواقفه واستقلاله الشخصي. والحقيقة ان تمام سلام تمكن من فرض حضوره، من دون ان ينسى ولو للحظة انه ابن صائب سلام، أحد أكبر الزعماء اللبنانيين نفوذاً وحضوراً خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وأحد صانعي الاستقلال. وهو في هذا يماثل حال وليد جنبلاط الذي على رغم كونه ابن كمال جنبلاط، تمكن بسرعة من فرض حضوره وتشكيل كينونته السياسية. ولكن، اذا كان وليد جنبلاط قد تعلم كيف يخوض اللعبة السياسية ومناوراتها ما أوصله الى انتصار حقيقي، فإن تمام سلام رأى دائماً ان طبعه السياسي الواضح والمباشر والهادئ - المهدئ، لا يتناسب مع لعبة قد يجيد اتقانها لكنه يفضل الا يغوص فيها.
ومهما يكن فإن السؤال الذي طرح غداة اعلان تمام سلام استقالته المقاصدية، انطلاقاً من هزيمته الانتخابية، كان: هل معنى ذلك ان الرجل سيعتزل السياسة؟ وتنبع أهمية هذا السؤال من ثلاثة عناصر:
أولها، أن تمام سلام، كنائب أو من دون أن يكون نائباً، يعتبر مرشحاً أساسياً لرئاسة أية حكومة مقبلة، أو على الأقل لشغل منصب وزير.
ثانيهما، انه في الوقت الذي يتحتم فيه على الرئيس سليم الحص ان يبتعد عن السياسة بسبب احتراقه كرئيس للحكومة ثم كمرشح للنيابة عن مدينة بيروت، تبدو زعامات هذه الأخيرة وقد انفرطت بحيث لا يبقى منها سوى تمام سلام، باعتبار أن رفيق الحريري ابن صيدا وان زعامته الطبيعية يجب أن تكون هناك.
والثالث، ان تمام سلام هو الوحيد، حتى الآن، الذي يمكنه أن يؤمن استمرارية زعامة آل سلام التي أسسها جده سليم أبو علي سلام، في بدايات القرن، وواصلها أبوه الرئيس الراحل صائب سلام، منذ ما قبل الاستقلال، وآلت اليه منذ اللحظة التي أحس فيها هذا الأخير بالتعب وبأن السياسة في لبنان تغيرت، فما كان منه إلا أن سلّم "الأمانة" الى نجله الأكبر. والأمانة كانت مزدوجة: رئاسة جمعية المقاصد، وزعامة السنة في بيروت.
والآن، إذا كان ابتعاد تمام سلام عن رئاسة المقاصد يعني اعتزاله العمل السياسي، فمعنى ذلك واحد من اثنين: إما ان تنهي زعامة آل سلام نفسها، وإما أن يطلع من بين الجيل الثالث من يتسلم راية الزعامة. ولكن هل هناك حقاً، بين شبان آل سلام من يمكنه تحمل مثل هذه المسؤولية؟
من السابق لأوانه الآن الاجابة على هذا السؤال، خصوصاً أن تمام سلام لم يعلن اعتزال السياسة بعد. غير ان الذين يعرفونه يتوقعون منه ابتعاداً بالتدريج عن حلبة العمل السياسي، وذلك مرة أخرى لأن تمام سلام يرى في اللعبة السياسية اللبنانية الحالية ما يتناقض مع مبادئه وتطلعاته. والقريبون منه يعرفون انه كان قد سبق له أن فاتح والده، في جنيف، بامكانية اعتزاله السياسة والعمل العام وربما امكانية السفر للعيش خارج لبنان. فإذا كان تمام سلام قد تسلم رئاسة جمعية المقاصد، أوائل الثمانينات بعدما تنحى صائب سلام عن الرئاسة مسنداً المهمات الصعبة الى نجله وممهداً بذلك لدخول هذا الأخير معترك السياسة، فإن رئيس الحكومة السابق، كان يعتبر الأمر بديهياً، أولاً بسبب تقدمه في السن، وثانياً بسبب طبعه المشاكس وسط ظروف تحتاج الى قدر من الليونة والديبلوماسية لا يمكنه أن يمارسه.
كان صائب سلام يرى أن الأزمان الراهنة لا تناسبه للعمل السياسي فاختار المنفى الطوعي حيث عاش في جنيف معظم سنواته الأخيرة خصوصاً بعدما اطمأن الى وراثة تمام سلام له. ولعل أشد ما كان يغضب صائب سلام وهو في منفاه، ما كان يصله من أن نجله تمام يرغب حقاً في الابتعاد. بل ان تمام طلب من أبيه اكثر من مرة أن يعفيه من العمل السياسي ويستبدله بأخيه فيصل، لكن صائب بك كان يصر على بقاء تمام. وجاء غياب فيصل سلام في حادث سير مروع ومؤلم قبل سنوات، ليحرم تمام من حجته، إذ بالنظر الى أن الشقيق الثالث عمرو آثر ومنذ البداية الابتعاد عن السياسة، لم يبق سوى تمام، راضياً أو مكرهاً.
بولدوزر
من هنا، حين بدأت المعركة الانتخابية الأخيرة، وأدرك تمام باكراً ان "بولدوزر" الحريري قادر على جرف أي شيء، كان يمكنه ان يقاطع الانتخابات - وهو ما سبق أن فعله وإن لأسباب أخرى في انتخابات العام 1992 -، لو فعل لكان من الواضح انه انما يبتعد عن الانتخابات حتى يقترب من السياسة. أما مواصلته المعركة على رغم معرفته المسبقة بنتائجها، واحساسه أن ثمة افخاخاً تطبق عليه، فليس لها سوى معنى واحد: الانتحار السياسي.
ولكن ما هي علاقة "المقاصد" بهذا كله؟
الاجابة تستدعي العودة أجيالاً عدة الى الوراء لمعرفة كيف تطورت العلاقة بين زعامة آل سلام وحضور جمعية "المقاصد".
فلئن كان سليم علي سلام، مؤسس الزعامة السلامية في بيروت، قد خاض المعترك السياسي من خلال دوره في حركات التحرر من العثمانيين عبر مشاركته الزعامات اللبنانية منذ اوائل هذا القرن، العمل في سبيل استعادة العرب استقلالهم ثم استعادة لبنان وجهه العربي، وكان من أقرب المقربين في لبنان من الأمير فيصل بن الحسين، فإن هذا الزعيم لم يكن يومها في حاجة الى جمعية المقاصد لكي يؤسس مكانته، بل كان في حاجة اليها فقط لدعم المجتمع الاسلامي في بيروت وغيرها. وسليم سلام حين توجه الى سراي بعبدا لرفع العلم العربي مع شكري باشا الأيوبي، مندوب الأمير فيصل، كان في ذلك يؤسس لتلك الزعامة انطلاقاً من عمل وطني قومي بحت. وهنا لا بد من أن نذكر ان اسم سليم سلام كان وارداً في قائمة الزعامات والشخصيات التي أعدمها جمال باشا، في العام 1916 بتهمة التعامل مع دول أجنبية فرنسا ضد الدولة العثمانية، غير ان وثيقة تم العثور عليها في مكاتب القنصلية الفرنسية في بيروت، جعلت سليم سلام ينفد من الاعدام، إذ ان الوثيقة كانت تقريراً بعث به القنصل الفرنسي الى حكومته يقول فيه ان سليم سلام، على رغم عمله الوطني والقومي ودفاعه عن العروبة، رفض التعاون مع الفرنسيين. هذه الوثيقة انقذت يومها رأس سليم سلام، لكنها أعطته في الوقت نفسه مكانته وزخمه القومي، ما جعله من أكبر زعماء بيروت. ولقد كان سليم سلام شخصية كبيرة وتصفه ابنته المرحومة عنبرة سلام الخالدي على الشكل التالي: "كان أبي طويل القامة، حنطي اللون ذا لحية مشذبة، أنيق الملبس، وله شخصية قوية ومحترمة، ومقام مرموق عند أهله وأصدقائه من جميع الطوائف، وله كلمة مسموعة في أحداث البلد، بل في كل ما يتعلق بالبلاد العربية في الدولة العثمانية. فهو في الصف الأول بين التجار في بلده، وفي القلب من المؤسسات الخيرية والاجتماعية، وفي أوائل العاملين في السياسة العربية، وقد شغل مناصب عامة في أيام الحكم العثماني مثل رئاسة بلدية بيروت وعضوية مجلس ادارة الولاية الذي كان أشبه بمجلس الوزراء ويرأسه والي بيروت، وعضوية المحكمة التجارية تحت رئاسة تركي تعينه الدولة. ثم تسلم رئاسة جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية، كما انتخب من قبل أهالي بيروت لتمثيلهم في مجلس النواب ... في العاصمة العثمانية".
دور صائب سلام
في الوقت الذي كان فيه سليم سلام يخوض العمل السياسي أيام الدولة العثمانية، ثم بعد انفراط هذه الدولة، كان حريصاً على أن يجعل من ابنه صائب مختاراً إياه من بين ثمانية من ابنائه الذكور وريثاً سياسياً له. ومن هنا كان يصحبه في جولاته ولقاءاته. وبعد ذلك حين رحل سليم سلام، كان من الطبيعي ان يخلفه صائب، في السياسة كما في العمل الاجتماعي. ولكن صائب، بسبب الظروف الجديدة واستقلال البلاد وما تلا ذلك، تمكن بسرعة من أن يثبت لنفسه حضوراً فاق حضور أبيه. وجعله من أكبر زعماء بيروت طوال أكثر من نصف قرن.
بدأ صائب سلام حياته السياسية الفعلية في العام 1936، بعدما كان يعيش في ظل ابيه، وكان من أول نشاطاته وهو في الحادية والثلاثين من عمره، أن قاد الحملة الانتخابية لعمر بيهم ورياض الصلح. وفي العام 1943 انتخب نائباً عن بيروت للمرة الأولى، وظل يشغل مقعده النيابي حتى العام 1992، مع سقوطه تزويراً في دورة واحدة هي دورة العام 1957، في عهد الرئيس كميل شمعون الذي ناصبه العداء بعد تحالف. أما أول حكومة ألفها صائب سلام فكانت تلك التي كلفه بتأليفها الرئيس بشارة الخوري في أيلول سبتمبر 1952، ولكنه استقال بعد أربعة أيام طالباً من بشارة الخوري أن يستقيل بدوره، فلما لم يفعل الخوري هذا، شارك سلام بنشاط في الحركة التي اسقطته وأتت بكميل شمعون رئيساً مكانه، في زمن كان شمعون لا يزال يعتبر "فتى العروبة الأغر" وكان قد سبق لصائب سلام أن شكل حكومة ظل إثر اعتقال الفرنسيين الزعامات اللبنانية، كانت تتألف منه ومن هنري فرعون وغبريال المر وأحمد الأسعد وحميد فرنجية وكمال جنبلاط. ومنذ تلك اللحظة صار صائب سلام من أبطال الاستقلال حيث ان اجتماعات الزعامات الغاضبة على الفرنسيين كانت تتم في بيته. وكان هو من أوائل الموقعين على رسمة العلم اللبناني.
وخلال السنوات العشر التالية عرف صائب سلام كيف يثبت اقدامه سياسياً، وكيف يصبح ذا شخصية مستقلة تماماً عن ارث أبيه السياسي، ولقد سلّم له اخوته بالزعامة، باستثناء مالك سلام الذي سيناصبه العداء لاحقاً، خصوصاً أنه كان متزوجاً من شقيقة الزعيم الطرابلسي رشيد كرامي الذي كان المنافس التقليدي والأخطر لصائب سلام على الزعامة الاسلامية في لبنان.
لقد بلغت شعبية صائب سلام وزعامته الأوج حين سقط في انتخابات العام 1957، وسجن في مستشفى البربير التي نقل اليها إثر اصابته بجرح لدى اصطدامه وهو على رأس تظاهرة، بقوات الأمن. يومها أضرب سلام عن الطعام لمدة 5 أيام انتهت بالافراج عنه ليخرج زعيماً كبيراً ويشكل مع المرحوم حميد فرنجية "جبهة الاتحاد الوطني" التي قادت ثورة 1958 لاسقاط كميل شمعون. ولئن كان صائب سلام قد خرج من تلك الثورة منتصراً متقارباً مع التيار الناصري ومعتبراً من قبل الشارع البيروتي حليفاً للرئيس عبدالناصر، فإن الأمور عادت وتشابكت حين توافق عبدالناصر والاميركيون على مجيء فؤاد شهاب رئيساً للبلاد. ولم يكن صائب سلام ليستسيغ حكم العسكر، كما انه - وكما سيعترف لاحقاً - لم يكن في حياته أي ود لفؤاد شهاب. وهكذا في الوقت الذي كانت فيه زعامته الشعبية تترسخ، كان جزء منه بدأ الانفصال عن ماضيه الحديث. وفي تلك الاثناء أتت رئاسته للمقاصد، في العام 1958، كنوع من التعويض. وهكذا عاد الارتباط من جديد بين الزعامة السلامية وجمعية المقاصد.
في ذلك الحين كانت هذه الجمعية قد أضحت الرديف الأساسي للمجتمع المسلم في لبنان وبيروت، وكان ترؤس الجمعية يعني تمثيل ذلك المجتمع بشكل قاطع. ومن هنا كانت تلك المعارك العنيفة التي خاضها الحكم الشهابي ضد صائب سلام في محاولات بائسة لإزاحته عن "المقاصد"، لكن صائب سلام، واذا كان جزء من المجتمع السني في بيروت قد شارك الشهابية معركته ضد صائب سلام، ما كان من شأنه أن يحرم المقاصد من أي عون مادي، فإن صائب سلام، الخارج قهراً من الناصرية، عبأ الكثير من القوى والدول العربية الأخرى من أجل مد "المقاصد" بما تحتاجه. وهو تمكن بذلك من أن ينقذ المقاصد... وزعامته في الوقت نفسه.
ولقد عرفت جمعية المقاصد في عهد صائب سلام، بين 1958 و1982، ازدهاراً كبيراً، إذ توسعت نشاطاتها وزادت ممتلكاتها، وازداد عدد طلابها وموظفي ادارتها، بحيث صارت مجتمعاً قائماً بذاته.
وفي الوقت الذي كان صائب سلام يبني المقاصد من جديد، ويؤكد زعامته السياسية، عبر مشاركته في الندوة النيابية وعبر تشكيله حكومات عدة، لا سيما في عهد سليمان فرنجية، أحد أقرب أصدقائه في عالم السياسة اللبنانية، كان يفكر بإرثه السياسي. وكما سبق لوالده أن فعل من قبله حين اختاره ورباه سياسياً، اختار هو نجله تمام لخلافته، فأعده لذلك الى درجة أن مذكرات صائب سلام غير المنشورة بعد تفرد حيزاً كبيراً لنشاطات تمام وتطوره السياسي، كما تركز على تمايز كبير في بعض تفاصيل الموقف السياسي بينه وبين أبيه. وواضح من مذكرات صائب سلام، انه كان معجباً أشد الاعجاب بتمايز نجله عنه، معتبراً ذلك دليلاً على امكانية تحمله المسؤولية من بعده. وكان صائب سلام، بخبرته، يعرف أن المسؤولية كبيرة، لا سيما منذ السبعينات، حين اندلعت الحرب اللبنانية، وتغيرت مقاييس العمل السياسي وقيمه، واختلف سلام مع سليمان فرنجية، وبدأت بالنسبة اليه فترة من الانحسار السياسي.
في تلك الآونة بالذات بدأ صائب سلام يعد تمام للعب دوره المقبل، واستجاب الابن لذلك الاعداد على رغم ادراكه ان العمل السياسي في المرحلة المقبلة لن يكون أقل من السير في الرمال المتحركة.
الزعامة أمام الحرب
وبالنسبة الى صائب سلام كانت فترة الجولات الأولى من الحرب فترة انحسار سياسي وعبور للصحراء، وكان أشد ما يؤلمه في ذلك أنه مضطر الى الانكفاء تحت وقع ضوضاء الشارع، هو الذي أوصل العمل السياسي الى ذروة نقائه وتألقه، في العام 1970، حين ألف واحدة من أفضل الحكومات في تاريخ لبنان: حكومة الشباب المنفتحة على تيارات عدة والساعية الى بناء وطن حقيقي. غير أن تلك التجربة فشلت تحت وطأة الاستعداد للحرب.
عبور الصحراء السياسي، انتهى بالنسبة الى صائب سلام في أوائل الثمانينات، حيث صارت الحرب عبئاً على أصحابها وعلى طوائفها فالتفت الجميع يبحث عن خشبة خلاص، فإذا بتلك الخشبة تحمل اسماً هو صائب سلام. ويتذكر الجميع كيف ان الظروف الجديدة والهزيمة الجماعية أمام بعبع الطوائف كما أمام الهجمة الاسرائيلية وقذارات الحرب، جعلت صائب سلام يعود الى الواجهة من جديد، فأصبح بيته بيت الزعامة السلامية العريقة مركز التحرك لدرء الأخطار. وكان من الطبيعي أن يختار صائب سلام تلك اللحظة لكي يبدأ بتسليم ابنه تمام، الزعامة السياسية والزعامة الاجتماعية. وهكذا فعل ما لم يفعله أي زعيم عربي من قبله: تنحى عن رئاسة جمعية المقاصد، ودعا الى انتخاب مجلس أمناء جديد برئاسة تمام سلام. و"انتقلت الأمانة بهدوء" بحسب تعبير الصحف في تلك الفترة. ثم ما لبثت الظروف أن أرغمت صائب سلام على السفر الى سويسرا، بعيداً عن صخب الحرب وقذاراتها. ولقد أتاح هذا لتمام سلام أن يتعامل مباشرة مع شارع بيروتي وجد فيه ممثلاً حقيقياً له.
تمام سلام السياسي
قضى تمام سلام عشرين عاماً في رئاسة جمعية المقاصد. لكنه كان منذ طفولته يعيش حياة الجمعية وتطورها. وكان يتعلم دروس الزعامة والرئاسة، فضلاً عن حكايات جده أبو علي الذي حين رأى ان الأوضاع تتطلب ابتعاده عن رئاسة الجمعية، ابتعد من دون تردد وسلمها الى الشيخ مصطفى نجا مكتفياً بمنصب نائب الرئيس، عائداً الى العمل السياسي البحت. وكذلك علمه تنحي أبيه عن الرئاسة لمصلحة جيل شاب درساً آخر.
لقد كانت أحلام تمام سلام المقاصدية كبيرة: كان يحلم ببناء جامعة، وانشاء مصرف، كما كان يحلم بعشرات المشاريع والمؤسسات المقاصدية. وكان يعرف أن هذا النوع من العمل الحديث هو الزعامة الحقيقية، ولكنه كان يعرف في الوقت نفسه أن الظروف غير مهيأة لذلك. وكان يدرك ان ثمة حصاراً مالياً كبيراً، سيزداد من حول المقاصد. لكنه مع ذلك حاول. غير انه من الناحية السياسية آثر، في العام 1992، أن يكون منسجماً مع نفسه فقاطع الانتخابات... ويقيناً انه دفع غالياً ثمن ذلك. وهو إذ فاز بالمقعد النيابي في انتخابات العام 1996، لم يكن راضياً تماماً عن طريقة فوزه. ومن هنا كان اتجاهه الأول في انتخابات العام 2000 ألا يرشح نفسه. وهو حين انتهى به الأمر الى ترشيح نفسه، ترشح منطلقاً من مبدأ التوافق، لكن الضغوط التي أحاطت به والأفخاخ التي أطبقت عليه كانت من القوة بحيث أدرك بسرعة أنه ممنوع من الفوز.
ولقد كان الحصار المالي المضروب حول جمعية المقاصد، أحد أكبر الأسلحة التي استخدمت ضد تمام سلام: فتراكمت الديون في السنوات الخمس الأخيرة لتصل الى عشرات ملايين الدولارات، واضطر تمام سلام الى صرف موظفين واغلاق مؤسسات. وكان من الطبيعي ان هذا كله لن يساهم في شعبيته.
وحين أسفرت الانتخابات عن تلك النتيجة المعروفة، كان من الطبيعي لتمام سلام أن يستخلص الدروس، وأن يعتبر ان ثمة من يرى في رئاسته للجمعية المقاصدية حجة لتدمير الجمعية ومحاصرتها اقتصادياً. فماذا يفعل؟
بكل بساطة، يفعل كما فعل أبوه وجده من قبله: يبتعد مسلماً الأمانة لغيره، لعل في ذلك انقاذاً للجمعية. ومن هنا كانت استقالته في زمن تجرف فيه القدرة المالية كل شيء. وينطلق من جديد السؤال: هل يمكن لزعامة تمام سلام أن تستمر خارج اطار موقعه المقاصدي؟
ان الإجابة على هذا السؤال تحمل في طياتها الاجابة على السؤال المتعلق بمستقبل زعامة آل سلام نفسها. وهنا لا بد أن نذكر بأن السنوات الأخيرة، وهذا العام بالذات، شهدت نكبات عدة حلت بالعائلة، فمن مقتل فيصل سلام النجل الثاني لصائب سلام، الى موت صائب سلام نفسه مفتتحاً سلسلة قضت على بقية من تبقى من أشقائه الذكور، الى فشل تمام سلام الانتخابي، لم تعرف هذه العائلة العريقة سوى الخضات وكل هذا يجعل تمام سلام أمام مفترق طرق حقيقي:
فهو إذا ما الحق ابتعاده عن "المقاصد" باعتزال العمل السياسي، يجازف بأن ينهي بذلك الزعامة السلامية، ذلك ان أياً من أقاربه أو أبناء عمومته لا يتمتع بمكانته، حتى وان كان هناك على الأقل سلاميان يخوضان الحقل العام منذ سنوات: الكاتب اليساري السابق نواف سلام، والمهندس عاصم سلام الذي يعتبر من أشرس خصوم الرئيس الحريري عمرانياً.
أما إذا ظل يخوض العمل السياسي بعيداً عن موقعه المقاصدي، فإنه يحتاج الى أكثر من معجزة، ليعيد ترتيب أوراقه في شارع متقلب كالشارع السنّي البيروتي. وذلك بكل بساطة لأن السنوات التي شهدت صعود تمام سلام السياسي،تختلف كلياً عن مرحلة ابيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.