تفتقر المكتبة العربية بوجه عام الى جنس أدبي حميم، هو "أدب المراسلات"، هذا النوع من الكتابة الذي يحمل "رغبة في البوح والمكاشفة والتفكير بصوت مرتفع"، حسب تعبير محمد برادة في تقديمه لرسائله مع محمد شكري التي صدرت أخيراً بعنوان "ورد ورماد" عن "دار المناهل" في المغرب. ولعل ندرة الرسائل المتبادلة بين المبدعين العرب، تندرج في اطار تقاليد غائبة، لم تتعزز على نحو واسع الى اليوم في ثقافتنا العربيّة، وقد يكون سببها نبذ كلّ ما هو ذاتي، لصالح الخطاب الايديولوجي الذي يقمع الأنا، ويبدو مزوّراً بكسر الواو وفتحها. فالرسائل الشخصيّة تكشف، كما يؤكّد كتاب "ورد ورماد"، عن حساسية تخفي في طياتها قلقاً وانفعالات، تضع المبدع امام مرايا داخلية شديدة الوضوح، بوصفها استجابة لنوازع انفعالية صادقة، تمتزج فيها، الأشواق الشخصية والأفكار والأحلام والرؤى من منظور ذاتي بحت. من هنا احجام معظم الأدباء العرب عن ارتياد مثل هذا الحقل الشائك، ذلك ان الرسائل تشبه الوثائق التي تبرز لحظات خاصة، متمردة على قوانين الأدب الصارمة، خصوصاً اذا كانت بين كاتب وكاتبة، كتلك الرسائل المتبادلة بين جبران خليل جبران ومي زيادة، بين غادة السمان وغسان كنفاني... وكلّنا يذكر ردود الفعل الغاضبة التي أثارتها غادة السمان، حين تجرأت على نشر رسائل غسان كنفاني اليها. وقد واجهت الحملة بقولها: "أعرف ان الكتاب مسّ مرة واحدة مجموعة من المحرمات، وكنت أتمنى ان يدور الحوار حول الرسائل من دون رياء بدلاً من ممارسة الارهاب الفكري". وأضافت: "أشعر بالحاجة الى مؤسسة عربية ترعى هذا النمط من الوثائق، لأضع الرسائل الأدبية التي استلمتها في حوزتها، بمأمن من الحريق والنهب والتشطيب على ان تنشر بعد موتي". ونذكر كذلك الرسائل المتبادلة بين محمود درويش وسميح القاسم، التي تشكّل حالة ابداعية نادرة، لا تقل أهمية عن نصوصهما الشعرية. في "ورد ورماد" مكاشفة من نوع آخر، بين مبدعين على طرفي نقيض: الأول ناقد وأكاديمي رصين، والثاني روائي هامشي وفوضوي، وربما كانت الصداقة الحميمة التي نشأت بين الاثنين مدينة بوجودها أصلاً لمثل هذه العلاقة الملتبسة. وتؤرخ الرسائل لحقبة طويلة، امتدت من 1975 الى 1994. وخلال عقدين من الزمن، نتعرف إلى تحولات العلاقة بين المبدعين المغربيين والمناوشات الأدبية والشخصية بينهما. ففي حين تجسد رسائل محمد برادة، عقلانية عالية في النظر الى الحياة والكتابة، تتكشف رسائل محمد شكري عن هباء حياته وتشرده الأبدي في حانات وأزقة طنجة، من دون حساب لقوانين المجتمع وتقاليده الصارمة. في احدى الرسائل المبكرة بينهما، يدعو محمد برادة الى "مغادرة اليومي والمبتذل والكلام المعاد الأجوف"، فيجيبه محمد شكري: "إذا جرفتك مياه طنجة فقلما ينفع مركب النجاة، اما ان تخضعها او تخضعك، انها مثل ساحرة عوليس، أنا تزوجتها وارتحت... صحيح انها تخونني مع عشاقها العابرين، لكنها لن تمسخني". وبسبب إيمان الناقد المغربي المعروف بأصالة موهبة صديقه الروائي، يؤكد باستمرار على أهمية الكتابة، فهي التي "تجعل الحياة أكثر بهاء وأقل رتابة".. فيما يغوص صاحب "الخبز الحافي" في ليل طنجة وقاعها، ليؤكد هو الآخر ان "من لم ينغمس في دم الحياة، لا يحق له ان يتكلم عن الجرح". وتتعزز المفارقة في اختلاف نمط حياة الصديقين، اذ تواجه الفلسفة الوجودية لدى صاحب "لعبة النسيان"، بفوضوية صاحب "زمن الأخطاء".. وتنفلت بعض العبارات عن حلم كل منهما بتبادل موقع الآخر، بحثاً عن حالة مشتهاة في التغيير. كأن محمد برادة في أعماقه، يتمنى ان يتخلى عن جلده ورتابة حياته، للتشرد في شوارع طنجة، بعيداً عن الاطار العقلاني لحياته في الرباط... مثلما يحلم محمد شكري بحياة مستقرة، تنسيه حالة العوز وفقدانه التاريخي للحنان ودفء العائلة. وتكشف الرسائل في جانب كبير منها، الارهاصات الاولى لولادة أعمال محمد شكري، منذ روايته "الخبز الحافي" اثر نشر فصل منها في مجلة "آفاق" التي يرأس تحريرها محمد برادة، ونلاحظ تشجيع برادة الدائم لصديقه، على الالتفات الى الكتابة ونسيان مغامراته المجانية. لكن الصدمات المتتالية التي واجهها محمد شكري بعد منع روايته الاولى في المغرب، واعتذار "دار الآداب" في بيروت عن نشرها، قادته الى الاحباط. وهو يكتب في احدى رسائله: "طلقت الكتابة وتزوجت الحانات"، ولا تخلو رسائله اللاحقة من شكوى ضيق العيش: "الديون تطاردني، لكنني لم أصل بعد الى المحكمة، رغم الشيكات التي دفعتها من دون رصيد". من جهته، يحاول صاحب "مثل صيف لن يتكرر" اقناع صديقه بالعودة الى الكتابة، ومساعدته على نشر أعماله وترجمتها الى لغات أخرى، وتشجيعه على السفر خارج "مستنقعات طنجة". لكنّه لا يجد لدى شكري أذناً صاغية على الدوام، اذ يجد الأخير نفسه، منساقاً الى عالم القاع، رغماً عنه، معتبراً ان "ما لا يحكى هو ما يكتب". ومن هنا أخذت أعماله صيغتها النافرة في المشهد الابداعي العربي، كترجيع لحياة اختبرها جيداً. ولا تخلو رسائل شكري من استشهادات معرفية، خاصة بعد ذيوع شهرته عالمياً، وتعرّفه عن قرب على بول باولز وجان جينيه في طنجة. ويعترف الكاتب بتأثيرهما عليه، وتشجيعهما له على كتابة سيرته الذاتية، مثلما كتب سيرتهما الذاتية في مدينة طنجة. وفي مواجهة اليأس والمرض والافلاس، والشكاوى الدائمة لصاحب "السوق الداخلي"، يحاول محمد برادة، ضخ حقنة من الأمل في حياة صديقه. ونلاحظ عنده اصراراً دائماً على الاستمرار في الكتابة، لأنها "انتصار خفي، يحققه الكاتب ضد عدو لا مرئي". وهي ايضاً حسب احدى الرسائل "فرصة لتحقيق فهم أعمق للذات وللكون وللآخرين". كتاب "ورد ورماد" صورة للتماهي بين الشخصي والابداعي. ورسائله، في المحصلة الأخيرة، تبدو أقرب إلى حوار بين عاقل ومجنون، في مكاشفة عميقة وصادقة مكتوبة "وسط الدوامة بانفعال واندفاع وتلقائية". كما انّها تنطوي على "جراح وانطفاءات لا تخلو من افتتان بالموت"، ومواجهة الروحي بالدنيوي، وتوثيق لزمن أدبي يحاول مقاومة النسيان بلعبة التذكر!