غادر بوريس يلتسن المسرح بأجمل صورة. لم تظهر عليه اعراض المرض او الارهاق وهو يفاجئ شعبه والعالم باذاعة نبأ استقالته المبكرة من شاشة التلفزيون في اليوم الأخير من العام المنصرم. الا انه اسقط دمعة، واعتذر طالباً الصفح من المواطنين كونه لم يبرر آمالهم، كل آمالهم، في حياة افضل. وكان اعتذاره المفاجأة الثانية حتى للعارفين بطباعه وأطواره. والأهم في هذه الحكاية ان يلتسن سحب البساط من تحت اقدام جميع خصومه: الشيوعيين اليساريين والبريماكوفيين المعتدلين والقوميين المتطرفين من كل شاكلة وطراز. ووفر لمرشح الكرملين رئيس الوزراء فلاديمير بوتين فرصة اكيدة مئة في المئة للفوز في الانتخابات الرئاسية موعدها السابق 4/6/2000 ربما من الجولة الاولى. ولم يترك للقوى السياسية الاخرى اي خيار. فباستقالة يلتسن وتولي بوتين مهام رئيس الجمهورية بالوكالة تقلصت الحملة الانتخابية بموجب الدستور، الى النصف، من ستة اشهر الى ثلاثة. وهي بالطبع فترة لا تتسع لأي تحرك دعائي انتخابي، ما يعتبر ضربة موجعة موجهة الى يفغيني بريماكوف تحديداً. فللمرشح الشيوعي لرئاسة الجمهورية غينادي زيوغانوف ناخبوه الذين لا يزيدون ولا ينقصون. وكانوا فشلوا العام 1996 في حمله الى كرسي الرئاسة، وهم فاشلون هذه المرة ايضاً، اللهم الا اذا نسقوا مع بريماكوف. غير ان استقالة يلتسن جاءت لتشطب هذا الاحتمال بالذات، وتجهز عليه في الجنين. فلن يكسب بريماكوف المعركة بعد الآن حتى وان تحالف مع الشيوعيين وثمة من يفترض ان الأكاديمي الشهير قد يسحب ترشيحه، فلم يعد احد يشك في فوز بوتين الساحق بعد نجاحات مؤيديه المذهلة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. والى ذلك قام بوتين فور توليه مهام رئيس الجمهورية بالوكالة بمحاولة لضغط الفترة الانتخابية الجديدة الى اقل من ثلاثة أشهر. فالانتخابات، انطلاقاً من منطق الدستور، يجب ان تجري في 26 آذار مارس المقبل الا ان الدستور يشير الى فترة الثلاثة شهور ولا يحدد لزاماً ان تجري الانتخابات في نهايتها. وأفادت مصادر مطلعة ان بوتين طلب من رئيس المحكمة الدستورية ان يفاتح مجلس الشيوخ في امر تحديد موعد أبكر للانتخابات. وعلى هذا الأساس لا احد يجزم الآن بأن الانتخابات الرئاسية لن تجري قبل الموعد الثاني بكثير. وبذلك يقضي بوتين على آخر أمل في النجاح لدى منافسيه. وليس من قبيل الصدفة ان يقول بعض المحللين ان الانتخابات المقبلة ستكون مجرد استفتاء عام لإقرار "تعيين" بوتين رئيساً للجمهورية. ويشيرون الى ان قرار يلتسن بالاستقالة المبكرة جاء اقرب الى الصفقة بين الرئيس العجوز وخليفته الشاب. فأول مرسوم اصدره بوتين في منصبه الجديد وفر الضمانات اللازمة لرئيس الجمهورية المستقيل، خصوصاً الحصانة القانونية مدى الحياة. وتلك نقطة مصيرية بالنسبة الى يلتسن الذي اتهمته الأكثرية في البرلمان السابق بالخيانة العظمى واعتبرته العام الماضي مجرم حرب بسبب الشيشان، والكثيرون من الشيوعيين المتطرفين مستعدون اليوم لتمزيقه إرباً على جهوده في تقويض الاتحاد السوفياتي. ويبدو ان من بنود الصفقة ان يتعهد بوتين عدم اجراء تعديلات جذرية على التركيبة الحاكمة في الكرملين. وأعلن رئيس الجمهورية بالوكالة ان اية تغييرات لن تطرأ لا على الديوان الرئاسي ولا الوزارة، اللهم الا تنقلات ثانوية قد يتطلبها الموقف. وبالفعل فان دميتري ياكوشكين الناطق الصحافي باسم رئيس الجمهورية نقل الى منصب مساعد مدير الديوان الرئاسي. وتاتيانا دياتشينكو ابنة يلتسن ومستشارته الخاصة أعفيت من منصبها، الا انها تتمتع طبعاً بالكثير من الضمانات التي منحت لرئيس الجمهورية المستقيل وعائلته. ولا يعني عزل تاتيانا القطيعة بين بوتين وعائلة يلتسن، فهو بحاجة اليها حتى الانتخابات الرئاسية على الأقل. وما عدا ذلك اقيل اثنان من موظفي الديوان الرئاسي المقربين الى يلتسن لكن بوتين عينهما مستشارين له. وأكد ياكوشكين انه سيبقى مع ذلك ناطقاً صحافياً باسم الرئيس المستقيل، ذلك ان يلتسن لا ينوي اعتزال السياسة. وأضاف ياكوشكين ان جناحاً في الكرملين سيخصص كمكتب للرئيس يلتسن، وان هيئات ادارية واستشارية وأمنية مختصة ستتألف لتيسير نشاط الرئيس الروسي السابق، ما يعني ان يلتسن سيكون "رئيساً فخرياً" للجمهورية، وذلك من ابداعات آخر زمان في الواقع السياسي الروسي. وكانت جهات عدة أكدت ان يلتسن اتخذ قرار الاستقالة بنفسه من دون ضغوط خارجية كالتي تحدث عادة في حال انقلاب البلاط. ولم تأت الأيام التي أعقبت اعلان الاستقالة بما يتعارض وهذه التأكيدات. فقد جرى تسليم السلطة وتسلمها بهدوء، وكانت ردود فعل الرأي العام الروسي هادئة ايضاً، يطغي عليها الترحيب بخطوة يلتسن الجريئة التي تستحق الاحترام. وتأتي اهمية الحادث من ان تلك هي المرة الاولى في تاريخ روسيا حيث يجري تسليم السلطة من حاكم الى آخر دستورياً وبالشكل الديموقراطي المهذب. فعلى مدى القرون، خصوصاً في العهد الشيوعي، جرت العادة على انتقال السلطة بالغدر والعنف وفي افضل الأحوال بالنسيان المطبق. اما الآن فالجميع يعترفون بالفضل ليلتسن على هذا الأسلوب المتحضر الذي تعودت عليه الأمم المتطورة. وفي ليلة رأس السنة، بعد الفراغ من مراسم الاستقالة التي تمت بحضور البطريرك الروسي ألكسي الثاني وجرى خلالها تسليم حقيبة المفاتيح النووية الى رئيس الجمهورية بالوكالة، استقل هذا الاخير الطائرة الى الشيشان في زيارة تفقدية كانت مقررة من زمان ولم يعمد بوتين الى الغائها او ارجائها بسبب المستجدات الاخيرة. ومهما يكن من امر فقد اعلن بوتين تمسكه بالقيم الليبرالية وفي مقدمها حرية الرأي وحقوق الانسان والملكية الخاصة. والنقطة الاخيرة في منتهى الأهمية بالنسبة الى روسيا، ذلك انها تقطع على الشيوعيين طريق العودة الى الاتحاد السوفياتي البائد. وفي خصوص الشيشان لم يغير بوتين موقفه من الحرب وينوي مواصلتها حتى النهاية على رغم المضاعفات الاخيرة في معركة غروزني وفي القتال الضاري في المنطقة الجبلية. وعلى هذا الصعيد لا يلتفت بوتين كثيراً الى موجة الاحتجاجات العالمية على الحرب الشيشانية. ففي ذهنه مشروع دولة قوية لا بد ان يبنيها جيل جديد من السياسيين الذين يتطلعون الى المستقبل، ومن مقوماتها القضاء على اية حركة انفصالية في البلاد. يقول بوتين ان العالم كله يشهد اليوم توجهاً نحو تقوية السلطة التنفيذية، فهي الأهم في المحصلة الاخيرة. الا ان التجربة العالمية تدلل على ان الخطر الرئيسي على حقوق الانسان وحرياته وعلى الديموقراطية عموماً ينطلق من هذه السلطة بالذات. ولذا فهو يعلق اهمية بالغة على علاقات التعاون بين السلطة التنفيذية والمجتمع المدني وتطوير مؤسسات هذا المجتمع وبناه وتراكيبه لتقييد الاستبداد. ويضيف بوتين ان روسيا بحاجة الى سلطة حكومية متينة، ذلك ان السياسة الاقتصادية والاجتماعية مهما كانت سليمة ورشيدة انما تتلكأ وتتعثر في ظل السلطة الضعيفة. ويستدرك قائلاً ان دعوته الى بناء الدولة القوية لا تعني الدعوة الى النظام التوتاليتاري الاستبدادي. فجميع الأنظمة الاستبدادية وقتية وعابرة، والأنظمة الديموقراطية هي الباقية على رغم عيوبها ونواقصها. ويفهم بوتين السلطة القوية في روسيا على انها الدولة الديموقراطية الاتحادية الفاعلة المبنية على القانون. وفي الميدان الاقتصادي يشير بوتين الى المشاكل العويصة التي تراكمت خلال سنوات الاصلاح، ويؤكد ان الوضع عصيب حقاً. الا انه لا ينصح المجتمع الدولي بالرثاء لروسيا كدولة زائلة. فهي على رغم الصعاب حافظت على قدراتها الذهنية ولم تبدد، كما يقول، عدداً من المعالجات العلمية والتقنية التي لها مستقبل باهر. ثم ان ثروات البلاد الطبيعية لا تزال موجودة فيها. وبالتالي لا يزال امام روسيا مستقبل زاهر. ولا ينكر بوتين ان البلاد بحاجة الى استراتيجية تنموية طويلة الأمد يقول ان حكومته تعكف على صياغتها. ويؤكد بوتين ضرورة توجيه الاقتصاد والحياة الاجتماعية في الأطر اللازمة وبالقسطاس من دون رجعة الى نظام التخطيط الايعازي المقبور. كما ينادي بتطبيق استراتيجية افضل لاصلاحات تناسب الظروف الروسية وتراعي اخطاء الماضي. وهي باعتقاده تستند الى العناصر الآتية: - حفز النمو الاقتصادي وزيادة الاستثمارات وهو يعترف ان روسيا لا تزال عاجزة عن حل المهمة الاخيرة فالاستثمارات في قطاع الانتاج تقلصت الى الخمس خلال التسعينات ويدعو الى سياسة استثمارية تجمع بين ميكانيزم السوق وتدابير الضبط الحكومي وتهيئة ظروف مغرية للاستثمار الاجنبي. - تطبيق سياسة صناعية فاعلة قوامها التكنولوجيات الدقيقة والاستيعاب العلمي وتجاوز اطار المنتجات الخام وتشجيع القدرات التصديرية. - تطبيق سياسة بنيوية رشيدة توفر الفرص للمجموعات الصناعية والمالية الكبرى ولنشاط أرباب العمل الصغار والمتوسطين سواء بسواء. - بناء منظومة مالية سليمة تفعيل الموازنة والاصلاح الضرائبي وتصفية عجز المدفوعات وتقليص التضخم النقدي وحماية سوق المال واصلاح النظام المصرفي. - التضييق على اقتصاد الظل ومكافحة الاجرام الاقتصادي يعترف بوتين ان حصة الاقتصاد غير المشروع في روسيا ثلاثة امثالها في الدول المتطورة. - ضم روسيا الى البنى الاقتصادية العالمية من خلال تشجيع نشاط الشركات الروسية في الاقتصاد الخارجي وانتساب روسيا الى منظمة التجارة العالمية، والوقوف في وجه التمييز الذي تتعرض له روسيا في سوق السلع والخدمات العالمية. - تطبيق سياسة زراعية عصرية تعتمد تدابير السوق في الانتاج الزراعي وفي علاقات الملكية العقارية. وفي برنامج بوتين معالجات جديدة للمشاكل الاجتماعية واصرار على مواصلة خط الكرملين في ميدان السياسة الخارجية. واللافت ان تأكيد بوتين السياسة الاقتصادية في الآونة الاخيرة جاء رداً على خصوم الكرملين الذين يدعون ان مرشحه لرئاسة الجمهورية لا يفقه شيئاً في الاقتصاد وان بوتين سينتهي حالما تضع الحرب الشيشانية اوزارها. غير ان ما ذكرناه هو بعض من الخطوط العريضة لفلسفة الرجل الفولاذي الذي سيحكم روسيا على مدار السنوات الثماني المقبلة في اغلب الظن. وليس في سيرة هذا "القيصر" المغمور الذي ظهر على المسرح قبل شهور شيء خارق للعادة