ينتمي عبد الوهاب البياتي الذي غافله الموت قبل أيّام عند الفجر، وحيداً على كرسيه في دار فارغة إلا من الأطياف، إلى تقليد عريق وراسخ طبع الجزء الأكبر من الثقافة العراقيّة المعاصرة، الممزّقة بين منافي الداخل والخارج. ألم يمت قبله الجواهري في دمشق، كما قضى بلند الحيدري في لندن، والسياب في الكويت...؟ كأن الموت بعيداً عن بغداد، القاسم المشترك بين هؤلاء الشعراء، هو فعل الانتماء الأخير، لشعراء كتبوا كل على طريقته صفحات مشرقة في مسيرة الثقافة العربيّة المعاصرة. لكنّ علاقة ملتبسة ربطت صاحب "أباريق مهشّمة" بالسلطة على الدوام، خلافاً لما أصرّ على تأكيده في السنوات الأخيرة، إذ أعاد كتابة تاريخه واختراع أسطورته، أسوة بشعراء كثيرين غيره : من علاقته بالحزب الشيوعي الذي لعب دوراً حاسماً في تقديمه إلى العالم، حين كان السيّاب بدأ ينحسر في عزلته وجحيم نظرته النقديّة إلى الرفاق، مع العلم أن البياتي لم يترك فرصة إلا وذكّر فيها أنّه لم ينتمِ إلى أي حزب... وصولاً إلى النظام العراقي الذي تعامل مع الشاعر طويلاً كأحد رموزه وأعيانه، قبل أن يضع الأخير بينه وبين السلطة مسافة تطوّرت إلى القطيعة. فالشاعر المشاكس، اللاذع، ليس بالراديكاليّة والنقاء اللذين شاء أن يظهر بهما في الصور الرسميّة. لكن هذا النوع من المفارقات، يلازم معظم رموز النخبة الابداعيّة العربيّة الغارقة في حالة من الفصام القسري، في جيل البياتي ومن تلاه. والوعي "الخوارجي" لدى البياتي، يجد جذوره في بغداد الخمسينات، حيث عاين البؤس وتعلّم الغضب. وفي هذا الرحم الذي احتضن التجارب الطليعيّة، وحيث كانت قصيدة كافية لهزّ وجدان الشعب، خطا البياتي خطواته الأولى في عالم الشعر، ليكون أحد مؤسسي الحداثة الشعرية، أي ما عُرف حينذاك بالشعر الحرّ. حين أصدر مجموعته الأولى "ملائكة وشياطين" 1950 كانت نازك الملائكة قد أصدرت "عاشقة الليل" 1947 و"شظايا ورماد" 1949، وبلند الحيدري "خفقة الطين" 1946، والسيّاب "أزهار ذابلة" 1947... وكانت العاصمة العراقية هي المختبر الحقيقي للشعريّة العربيّة. ثم جاءت مجموعة "أباريق مهشّمة" 1954 التي حيّاها إحسان عبّاس، لتكرّس تجربة ابداعيّة بدأت رومانسيّة، ولم تتخلّ ابداً عن الغنائيّة. وكان البياتي يأسف لكون "الشعر العراقي الحديث حرم من وجود تيار رومانسي محض، ما جعل حركة التجديد تنتقل من الكلاسيكيّة إلى الشعر الحديث". لكنّ لغته راحت تشبه نفسها مع الوقت، وقصيدة التفعيلة تحوّلت "كلاسيكيّة" جديدة، فيما بقي هو يعتبر نفسه شاعراً مجدد أو يدعو إلى نقاء اللغة، وتغليب التجربة على التجريب. آخر ضلوع المربّع الذهبي يرحل اليوم بعد أن غابت نازك الملائكة في عزلة المرض القاهريّة، معيداً إلى الذهن النقاشات التي لا تنتهي حول ريادة الشعر الحديث والتي لم يحسمها البياتي في قصيدته الشهيرة "كتابات على قبر السيّاب". أما الصداقات التي بقي الشاعر يجاهر بها، فهي التي جمعته بشعراء مؤتمر السلم العالمي 1958: أراغون، نيرودا، ناظم حكمت... كما أن الشاعر الذي ترعرع في "باب الشيخ" على خطوتين من ضريح عبد القادر الكيلاني، تماهى مع خلاّنه الصوفيين: ابن عربي، السهروردي، الشيرازي، سعدي... فالشيخ المتوحّد بقي وفياً للطفل الذي لعب ذات يوم مع اترابه بجمجمة أفلتت من حفّار القبور، وتعلّم أن الابداع وحده بوسعه أن يقهر الموت، عبر التصالح معه، وهرب من الواقع إلى "الزمن الشعري" الذي يختصر كلّ الأزمنة... وكان أن تحقّقت أمنيته في أن "يرقد تحت قباب النور".