تدشين نظام اعتماد الأنظمة الرقمية الصحية    فريق قانوني عربي لملاحقة إسرائيل أمام القضاء الدولي    المملكة تُرحب بإعلان حكومة سوريا بشأن الاعتراف بجمهورية كوسوفا    أمير منطقة تبوك يستقبل مدير الأحوال المدنية بالمنطقة    سوريا تعلن الاعتراف بكوسوفو بعد اجتماع ثلاثي في الرياض    «إنفيديا» تتجاوز 5 تريليونات دولار بفضل الطلب على الذكاء الاصطناعي    الفالح ينوه بالخدمات المقدمة للشركات العائلية في المملكة    الرميان:"الصندوق "يستهدف الوصول ألى تريليون دولار من الأصول بنهاية العام    حضور ولي العهد جلسة الرئيس الشرع امتداد للدعم السعودي لسوريا    "رهاني على شعبي" إجابة للشرع يتفاعل معها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان    إكسبو الرياض 2030 يدعو العالم ليكون جزءا من الحدث العالمي    العميد في مطب عاصمي جديد    أمير منطقة جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة    أمير منطقة الرياض يستقبل مدير عام قناة الإخبارية    نائب أمير الشرقية يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الإمام عبدالعزيز بن محمد الملكية    أمير جازان ونائبه يقدمان واجب العزاء للدكتور حسن الحازمي في وفاة نجله    الأفواج الأمنية بجازان تقبض على مخالف لنظام أمن الحدود لتهريبه 84 كيلو جرامًا من نبات القات المخدر    ترمب ينتقد رئيس البنك المركزي مجددًا في تأخيره خفض الفائدة    مدير تعليم الشرقية وأمين "موهبة" يطلعون على مشاريع "معرض إبداع الشرقية 2026"    المنكوتة والمعيني ينثران قصائدهم في سماء جدة    القيادة تهنئ رئيس الجمهورية التركية بذكرى يوم الجمهورية لبلاده    عطارد يزين الليلة سماء السعودية    العويران: نصف الرياضيين يعزفون عن الزواج.. "يبحثون عن الحرية بعيدًا عن المسؤوليات"    روائع الأوركسترا السعودية تعود إلى الرياض في نوفمبر    ارتفاع الوفيات المرتبطة بالحرارة عالميا 23٪ منذ التسعينيات    أوكرانيا تستهدف موسكو بمسيرات لليلة الثالثة    رئيس وزراء جمهورية باكستان الإسلامية يغادر الرياض وفي مقدمة مودعيه نائب أمير المنطقة    الاتحاد يقصي النصر من كأس خادم الحرمين الشريفين    غضب من مقارنته بكونسيساو.. خيسوس: رحلة الهند سبب الخسارة    أشادت بدعم السعودية للبرنامج الإصلاحي.. فلسطين تطالب «حماس» بتوضيح موقفها من السلاح    مزايا الأمن السيبراني بالعالم الرقمي    أكد أن الاتفاق مع باكستان امتداد لترسيخ العلاقات الأخوية.. مجلس الوزراء: مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار يدفع نحو التنمية والازدهار    بدء التقديم على برنامج ابتعاث لتدريس اللغة الصينية    التعلم وأزمة المعايير الجاهزة    أطلقها نائب وزير البيئة لدعم الابتكار.. 10 آلاف مصدر علمي بمنصة «نبراس»    الاحتلال يشن غارة جوية على الضفة الغربية    إدانة دولية لقتل المدنيين.. مجلس السيادة السوداني: سقوط الفاشر لا يعني النهاية    الإعلام السياحي على مجهر «ملتقى المبدعين»    «من أول وجديد» 15 حلقة    تحاكي الواقع وتقيس الكفاءة والدقة.. مسابقات بطولة العالم لرياضة الإطفاء والإنقاذ.. إثارة وتشويق    تبوك تستعد للأمطار بفرضيات لمخاطر السيول    المناطيد تكشف أسرار العلا    سعود بن بندر يطلع على أعمال "آفاق"    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالمحمدية في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضخماً من البنكرياس ويعيد بناء الوريد البابي    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي يُجري الفحوصات الطبية للملاكمين المشاركين بنزالات موسم الرياض    منتديات نوعية ترسم ملامح مستقبل الصحة العالمية    الهلال يكسب الأخدود ويبلغ ربع نهائي كأس الملك    صحة المرأة بين الوعي والموروثات الثقافية    فترة الإنذار يالضمان الاجتماعي    فيصل المحمدي من بيت امتلأ بالصور إلى قلب يسكنه التصوير    ولادة توأم من بويضات متجمدة    العلماء يحذرون من الموز في العصائر    54 مليون قاصد للحرمين خلال شهر    مفتي عام المملكة يستقبل وزير الشؤون الإسلامية    نائب أمير جازان يستقبل المستشار الشرعي بفرع الإفتاء بالمنطقة    أمير منطقة تبوك يستقبل مدير شرطة المنطقة    كباشي: شكراً صحيفة «البلاد»    أثنى على جهود آل الشيخ.. المفتي: الملك وولي العهد يدعمان جهاز الإفتاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"عصافير النيل" جعلته ينغمس في الرواية ويلامس أسرارها . شخصياته ليست بدائل منه وهو لا يتحدّث بلسانها إبراهيم أصلان : التجربة الحية ليس لها ند سوى اللغة
نشر في الحياة يوم 15 - 03 - 1999

يعتبر إبراهيم أصلان أن الكتابة مهما تميّزت، تبقى فقيرة بالنسبة إلى التجربة الحيّة. وفي مناسبة صدور روايته الجديدة "عصافير النيل" عن "دار الآداب"، ننشر هذا الحوار مع الأديب الذي يغرّد خارج سربه، والذي يعتبر علامة على حدة في جيله وفي الرواية المصريّة والعربيّة. تعلّم أصلان الكتابة في مدرسة الحياة، ويواصل تعلّم الحياة من خلال الكتابة، معتبراً أنّه لا يكتب تجربته، بل يكتب انطلاقاً من تلك التجربة. ويتوقّف صاحب "مالك الحزين" عند القطيعة بين ابداعات جيله وميراث نجيب محفوظ، مؤكّداً أنّه لا يسعى إلى نقل أي رسالة.
إحتفت الاوساط الثقافية في مصر برواية إبراهيم أصلان الجديدة "عصافير النيل" الصادرة حديثاً عن "دار الآداب" البيروتية. وأعلن سينمائيون عن رغبتهم في نقلها الى الشاشة، كما حدث مع رواية سابقة لأصلان هي "مالك الحزين" التي تحوّلت فيلماً سينمائيّاً بعنوان "الكيت كات" يحمل توقيع المخرج داوود عبد السيد."عصافير النيل" رواية عن الزمن، يسرد فيها أصلان حكاياته الصغيرة التي تعكس زمن التحولات، وزحف الشخصيات الى المدينة بحثا عن مكان في العالم الجديد... مع ما سيرافق ذلك الزحف من اختلال في توازن المكان. وفي عمله الجديد يصل هذا الأديب الذي يقف على حدة بين رموز جيل الستينات في الرواية المصرية، الى الحد الاقصى من التكثيف. وتبدو الكتابة لديه تلقائية، مسكونة بهاجس إخفاء الصنعة والاختباء خلف نسيج روائي محايد ظاهرياً، يتشكّل من حكايات عادية عن شخصيات عابرة.
قصدت "الوسط" إبراهيم أصلان وحاورته:
نشرت اجزاء من "عصافير النيل" في الصحافة باعتبارها قصصاً منفصلة...
- كلّ عمل جديد أتلمّس ملامحه الأولى في العمل السابق عليه، وبمجرد انتهائي من العمل أعود لأعيش اللحظة المغايرة التي صادفتني، وأجدني مدفوعاً لاختبارها بشكل ما. هكذا بزغت ملامح "مالك الحزين" الأولى من قصص "بحيرة المساء"، إذ تبلورت لديّ نبرة او لهجة مغايرة، او طبقة من طبقات الحكي. وانتهيت من "مالك الحزين" في العام 1981 ونشرتها في العام 1983، ومنذ ذلك الحين تلمّست حالة رواية "عصافير النيل". كانت رؤية غائمة وشعرت بحاجة إلى لملمة اطرافها. وعندما تتغير النبرة تتغير طريقة الاستجابة. بدأت في محاولة اختبار هذه اللهجة او النبرة الجديدة، وكتبت ونشرت مشاهد كاملة من رواية "عصافير النيل" في الثمانينات في مجلة "الدوحة" القطرية بالتحديد، وتعامل معها القراء باعتبارها قصصاً قائمة بذاتها، ولكنني لم اكن اقصد كتابة مجموعة قصص بهذا الشكل، بل لملمة حالات علّني اتعرف عليها واقيم منها بناء شبه متكامل. ولأنها حالات تتوزع على مراحل زمنية وامكنة مختلفة، بدأت اواجه بشكل جدي مشكلات في كتابة الرواية نفسها.
القراء والنقاد يتعاملون معك بشكل عام ككاتب قصّة أساساً...
- كتبت "مالك الحزين" لأنني كنت اريد الحصول على منحة تفرغ من وزارة الثقافة المصرية. وعندما تمّ ذلك العام 1973، اكتشفت أن عليّ كتابة رواية كي يكون حصولي على المنحة قانونياً الأمر بات مختلفاً اليوم. فقلت لا بأس، سأنظر في المشاهد التي كتبتها، وأحاول أن أصوغها في رواية، وهكذا كان. وفي "عصافير النيل" عشت التجربة نفسها، إذ كتبت مشاهد، ثم فرضت نفسها شخصية محوريّة بفعل تراكم تجاربها، فتصورت ان من الممكن استنطاقها. وعندما بدأت في تجميع المشاهد، واجهت مشكلة الزمن، وهي مشكلة الفنون بامتياز. والرواية أساساً قائمة على إشكاليّة زمنية، تترجم الى إشكالية سردية. بدأت اختبر هذه المشكلة وأنا اكتب "وردية ليل"، فوجدت ان من الممكن لتجربة أن تنمو من دون ان تكون محكومة بحركة الزمن نفسه... هكذا تحطم هذا الزمن تمامآً، وخضعت عملية نمو العمل للبناء الدرامي نفسه بدلاً من الترتيب الزمني.
أي أنّك تعتبر نفسك كاتب قصّة قصيرة أساساً؟ ماذا عن تجربة "وردية ليل"؟
- أهمية التجربة بالنسبة إلى الكاتب ليست في ان يكتبها بل في ان يكتب بها. ما فعلته في "وردية ليل" يتوافق مع طبيعة مزاجي في الكتابة. فعندما اكتب عادة، أحرص على الاهتداء إلى أدوات تعبير مؤهلة لاحتواء الاشياء التي تصعب كتابتها. لذا لجأت الى "وردية ليل" باعتبارها مشروعاً، وأنا لدي مشاريع تراودني دائماً ثم تمضي. في "وردية ليل" وجدت حلاً للمشكلة. فالمشاهد فيها تبدو منفصلة، مع أنّني كتبت كلاً منها ليكون فاصلاً بين ما سبقه وما سيليه. اي ان المساحات الزمنية الغائبة هي أساس الكتابة، والرباط داخلي أكثر منه زمنياً.
أعطتني "وردية ليل" إحساساً بحل المشكلة الزمنية. وفي ضوء النتائج التي توصلت اليها مع ذاك العمل، أعدت العمل على استكمال الملامح المبعثرة في "عصافير النيل". وبدأت انغمس في الموضوع، لأجد نفسي في مواجهة عالم اكثر تعدداً وغنى. ازدادت علاقتي بالرواية حميمية، بعدما بدأت اتعرف عليها من خلال الاشتباك المستمر مع مادة العمل... وهذه الامكانات التي اكتشفتها ولدت لديّ طموحات لم تكن واردة في السابق. ليست الرواية كما يتصوّر بعض كتابنا مجرد نصّ اكبر من القصة القصيرة. الرواية ايقاع، قالب سردي ودرامي قادر على الانصات للعالم والغوص فيه. الرواية تتلمس ملامح حقيقية لبشر معيّنين، في مكان وزمان محددين. تصوّر طابعاً روحياً لأفراد وجماعات، وتعبّر عن علاقات جوهرية في ما بينهم وبين العالم الماضي. ولكنني ابقى كاتباً للقصة القصيرة قبل كلّ شيء. وقد يكون تمسكي هذا عائداً لاسباب نفسية، فقد عرفت على الساحة الثقافيّة ككاتب قصة قصيرة.
كيف اشتغلت على الرواية، وما الدروس التي استخلصتها من تلك التجربة؟
- ليست لدي رسالة أريد ان اقولها، لكنني أسعى الى مفهوم ومعنى ورسالة. "عصافير النيل" كانت في ذهني رواية طول الوقت، ومجاورة المَشاهد فيها تمت على أساس احساسي المبهم ب "إطار" جمالي محتمل، يكاد يكون عضوياً. احساس قوي إنّما غير متحقق، رافقني سنوات وأنا أعمل على المشروع، وليس لدي أي ثقة في امكان اتمام الرواية، باستثناء لحظات نادرة من الثقة. ولعلّ الشكل الذي تصوّرته، هو الذي دفعني إلى الاصرار على إتمام المشروع. ومع مواصلة العمل أصبح المونتاج أساساً ومحوراً. عندما انتهيت من "عصافير النيل" احسست انني صرت أعرف ما هي الرواية. كنت في معركة حقيقية، وخرجت منها بدروس ملموسة. فكما تعرف علاقة المبدع بالنصّ لا تكون نظريّة، بل من خلال الشغل. أنا احترم النظريات التي تدور حول الكتابة واستمتع بها، لكن الافكار الوحيدة التي تستحق الاهتمام عندي هي التي استطيع ملامستها اثناء الكتابة. هذه الأفكار هي "في" الكتابة لا "حول" الكتابة.
"عصافير النيل" عن عالم يتصدّع، من خلال سيرة شارع يشيخ في منطقة امبابة. إنّها راوية موت وغياب وحنين...
- لا يسعني الإدعاء أنني قصدت الاشارة المباشرة إلى عالم ينهار من حولي خارج الرواية، أو أن هذه الرواية لها علاقة مباشرة بتجربة موت حقيقية. أنا لا استطيع تخليص الموتى من الاحياء في نسيجنا الاجتماعي، وعلى الرغم من جلال الموت فهو شيء عادي لا يكف عن الحدوث، ضمن دورة الافول والبزوغ. في كتابتي احاول ان افهم، فأنا لست قاصداً قول شيء بقدر ما أقصد تلمسه. وبهذا المعنى قد يكون النص فاضحاً لاحساس لاواع لديّ بالتصدّع والانهيار. ولكن علاقتي بالدنيا ليست علاقة من يعتبر انها خربت نهائياً وتهدمت. الكتابة وسيلتي لتكوين معرفة أكثر دقّة بي وبالدنيا من حولي، وسيلتي لان اعرف ما هو حقيقي وجوهري. تماماً كما يحمل النجار أو الحداد أو الفلاح امكانيّة معرفيّة عبر ادواته وخاماته. وفي ضوء هذه الخبرة تتشكّل علاقته بالله والناس من حوله، بالماضي والمستقبل...
هل أنت دقيق حين تدّعي أنّك لا تكتب حياتك بل تكتب بها؟
- أعرف انني اكتب بحياتي وبتجربتي، وفي الوقت نفسه اعتمد على الكثير من خبرتي المعيشة، ولكنني قصدت الاحساس الذي نكتب به. كلنا نعرف ان فان غوغ عاش قدرا من العذابات الروحية، لدرجة انه تخلص من حياته الموجعة. وعندما نطالع اعماله فأي من لوحاته تناول تفصيلاً ما من هذه العذابات بشكل مباشر؟ سنجد انفسنا في مواجهة كراسي من القش، حجرة، حقول للقمح وزوج من الاحذية العتيقة... ما الذي اعطى لتلك الاعمال كل هذه القيمة؟ انّها رسمت بطاقة روحية رهيبة.
تدور مشاهد "عصافير النيل" في شارع سكنتَه في امبابه، وابطالها يعملون في مهن انت امتهنتها سواء في البريد أو المواصلات، واسم الجد نفسه هو اسم جدك، "والبهي" شهرة جدك... لقد اقتربت، اكثر من اعمال سابقة، من حياتك نفسها.
- نعم. ولكن لم يحدث ان كنت نموذجاً لهم، أو كانوا بدائل منّي. لم أنطق باسمهم، ولا هم تحدثوا بلساني. هذه هي القضية! توجد مادة حقيقية، وانا لا استطيع الكتابة إلا إذا اتكأت على شيء لمحته، ولو اتكأت على كتف شخص غائب على إيماءة. فهذا يعينني على تنشيط مخيلتي. سكنت في شارع فضل الله عثمان فترة من حياتي ولكنني غيرت في الكتابة من موقعه الجغرافي، خلافاً ل "مالك الحزين" حيث استطاعت باحثة من جامعة المنيا أعدت ماجستيراً عن تلك الرواية ان تصل الى بيتي انطلاقاً من الرواية، كما وصلت الى مكان شغلي عن طريق الرواية ايضاً. فقد كانت الجغرافيا في "مالك الحزين" دقيقة جداً.
بعض الكتّاب ذاكرتهم أدبيّة، مستمدّة من قراءاتهم. أنت قارئ جيّد، لكنّ كتابتك لا تعتمد الا على خبرتك الحياتيّة...
- لا أتعمد شيئاً، انا مدفوع بطبيعة تكويني. ليتني أعرف الاستفادة من الكتب التي قرأتها، لو كان الأمر كذلك لاصدرت ربّما عشرات الأعمال. انا لا اتعمد شيئاً. وقيمة أي تجربة في ما تثيره داخلك. أنا حاولت معايشة تجربة الموت، واعتقدت لمدة 24 ساعة انني ميت. ووجدت نفسي أمام أسئلة من نوع: من سيأخذ القلم الذي أكتب به؟ لم اكتب هذه التجربة لكنّها مستني، فاللحظات التي نعيشها بعمق ليس لها ند سوى اللغة. الخبرة شيء، وتناول التجربة كموضوع فني شيء آخر. في "عصافير النيل" كان اعتمادي على المخيلة مضاعفاً، بالقياس إلى شغلي السابق بما فيه "مالك الحزين" و"وردية ليل". وعندما استلهم شخصاً لا يكون هو نفسه، لأنك لا تستطيع ان تأخذ احداً من الشارع وتضعه في كتاب، لأنك بذلك تحوله الى جثة. فالشخصية في عمل روائي لا تحيا إلا عبر نموها داخل إطار محدد.
هل تعتبر سيرتك مصدر امتياز أدبي؟
- مررت بعشرات المدارس والمهن، ولا اعتبر هذا امتيازاً، لانني عشت وسط أناس ليس لديهم أي خيار. انا الابن الاكبر لاثنى عشر أخا وأختا، ثم مات خمسة اشقاء في الطريق. كان والدنا موظفاً بسيطاً، وعائلتنا رغم فقرها تعتز بكرامتها. عشنا في مكان محدود وبدخل محدود. انا لا اعتبر هذا مسألة مخجلة، ولا اعتبرها مادة تباه. ليس فخراً لأي كاتب انه مر بحياة قاسية، لست سوى فرد بين ملايين تعيش هذه الحياة القاسية.
ما الفارق بين حارتك في "عصافير النيل" وحارة نجيب محفوظ؟
- نجيب محفوظ ينتمي الى جيل لم يكن بوسع أفراده أن يبدأوا كتاباتهم من مجرد احساس. كان من الضروري وجود مفهوم محدد او رسالة، وكان لا بد للشخصيات أن تحمل مدلولات معينة. انا انتمي الى جيل ليس مؤهلاً، ولا مهيئاً، لتبني رؤية شاملة للأشياء، أو امتلاك يقين لا بدّ من توصيله.
هل انتهى الأدب الذي يحمل رسالة؟
- لا أقول إنه انتهى. أكتفي بملاحظة التباين بين كتابة وأخرى، كتابة تهدف الى توصيل شيء، وتقوم على التراكيب الذهنيّة والبراهين، وكتابة لا تسعى الى شيء من خارجها انطلاقاً من كون الحقيقة الفنية لا تحتاج الى برهان، والعمل الابداعي غاية بحدّ ذاته. تلك النظرة الأدبيّة تستتبع انقلاباً كاملاً في علاقة الكاتب بالدنيا، وفي طبيعة استخدامه أدواته.
كتبتَ عن الموظفين الصغار وسكان امبابة، فهل تعتقد أن مقولة "الجماعة المغمورة" التي أطلقها فرانك أوكونور في كتابه "الصوت المنفرد" في الستينات ما زالت قابلة للتحقيق؟
- أنا لا أختار جماعة إنما أجد نفسي مهتماً ببيئة. لم يكن ممكناً ان اضع شارع فضل الله عثمان هذا في منطقة اخرى غير امبابة. فالارتباط بالمكان ليس مسألة جوهرية. المكان، بالنسبة إلي، هو على المستوى الفني أحد العناصر الاساسية التي تضع حدوداً للتجربة. فأنا أعتمد على أطياف وعلاقات صغيرة ودرجات لون وظل ونور، ولا بد ان استعين باطار ولو كان افتراضياً. كما ان قيمة المكان في احتضانه الذاكرة المشتركة لمجموعة من البشر: درجات السلم التي تأثرت بأقدام أجيال، قواعد النوافذ التي تشي بالاتكاء، جدران البيوت التي نعرف منها كم كبرنا، الوجوه التي تحمل القلق أو الدهشة أو الطمأنينة، الأدوار السفلى في البيوت التي كانت مرتفعة وأصبحت الآن عند ركبتنا. لا اقول إنني صاحب عالم، ولكن عالمي الفني أنمو فيه وينمو فيّ.
الانتخابات قبل ثورة تموز يوليو، الجنرال الانكليزي، الثورة وعبد الناصر ومحاولة اغتياله في المنشية... هل روايتك تلمس السياسة فقط من دون أي رغبة بالتوغل فيها؟
- أجل هذا الجانب لم يشغلني أكثر من ذلك، والسياسة ليست بالضرورة المستوى السطحي، ولا تقتصر على الشعارات. وبالنسبة إلى محمود عبد اللطيف الذي دين بمحاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية في الاسكندرية، فأنا كنت أراه كل يوم في دكانه وأنا في طريقي إلى العمل، وكنت اراه وهو يقرأ. صورته في ذهني كما هي. صحيح انّه كان في شارع آخر، لكنني كما قلت رسمت جغرافية مختلفة، وأخذت اسم شارع فضل الله عثمان لأنه اعجبني، حتى أنني كنت سأسمي به الرواية.
لماذا "عصافير النيل" إذاً؟
- علاقتي بالنيل أكثر من حميمة، إنّها كيانيّة. كنا نسكن في حارة خلف النهر، وكنت اسبح فيه نهاراً وليلاً، وكان الناس يحذّرون أبي من ان الندّاهة سوف تأخذني. وأتذكر أنني كنت أقف ساعات اصطاد في النهر ومن خلال هذه العلاقة عرفت انني صبور. وكنت أتمنى ان يكون لي كتاب يرد اسم النيل في عنوانه.
ماذا عن الجنس في الرواية؟
- الجنس اكثر من السياسة في "عصافير النيل" لأنه حقيقة، بينما السياسية زائفة... بل قل إن السياسة جميلة ولكن السياسيين زائفون. ولكن قد تكون طبيعة الشخصيات هي التي أملت ذلك.
ألا تزال تعيش الحياة نفسها؟ الصعلكة، المقاهي، حرافيش امبابة وعلاقتك بالنيل...؟ ام ان خروجك على المعاش من الوظيفة، وتقدم السن، بدّلا بعض الامور؟
- دنياي تكبر معي وهذا لا يزعجني. ولكنني حريص على استمرار علاقتي بحياتي، لا أريد القول بمصادر تجربتي. ولكن المشكلة في وقتي الذي ضاق، ومع تقدم الزمن اصبحت مشغولاً اكثر، وزادت التزاماتي التي قد لا تكون مهمة ولكنها ضرورية. أنا بطبيعتي لا أنام إلا في بيتي - حتى في تلك الايام التي كنت أمضي فيها الليل كله أتجول في شوارع امبابة وحواريها واسمع بأذني من يقول عني "هذا الرجل لا ينام ابداً". كما لا أبقى في مكان لمدة طويلة، إلا اذا كان فيه كتب. وأيام زواجي الاول كانت زيارتنا للاقارب تزعجني جداً، فلا امكث طويلاً. واذا لم انم في بيتنا فليكن في فندق. أحب الفنادق كثيراً، وإذا نمت استيقظ مبكراً وأهبط إلى المطعم، في تلك اللحظات التي يبدأ فيها العاملون والعاملات يومهم. ويكون المطعم يتنفس حياة جديدة وأنا وحدي، فأجلس وأدخن، واستمتع بالفندق الفخم وما يطل عليه من مناظر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.