تفعيل خدمة "فعيل" للاتصال المرئي للإفتاء بجامع الميقات    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات 2025    أمير الرياض ونائبه يهنئان الهلال لتحقيقه كأس خادم الحرمين والدوري والسوبر    فيصل بن فرحان يؤكد لبلينكن دعم المملكة وقف إطلاق النار في غزة    المملكة تدين محاولة إسرائيل تصنيف «أونروا» إرهابية    حجاج الأردن وفلسطين يشيدون بالخدمات المقدمة بمنفذ حالة عمار    روبوتات تلعب كرة القدم!    فرنسا تستعد لاحتفالات إنزال النورماندي    التصميم وتجربة المستخدم    مقاطع ريلز التجريبية أحدث ميزات «إنستغرام»    لهو الحيتان يهدد السفن في المحيط الأطلسي أرجعت دراسة ل "اللجنة الدولية لصيد الحيتان"، سبب    «الصهيونية المسيحية» و«الصهيونية اليهودية».. !    سفاح النساء «المتسلسل» في التجمع !    «تراث معماري»    تكريم «السعودي الأول» بجائزة «الممارسات البيئية والحوكمة»    تعاون صناعي وتعديني مع هولندا    ريال مدريد يتوج بلقب دوري أبطال أوروبا للمرة 15 في تاريخه    توجه ولي العهد بكأس الملك بعد ثنائية الدوري والسوبر.. الهلال ينهي الموسم باحتكار البطولات المحلية    آرسنال يقطع الطريق على أندية روشن    الإسباني" هييرو" مديراً رياضياً للنصر    الاتحاد يتوّج بكأس المملكة لكرة الطائرة الشاطئية    اعتباراً من اليوم.. بدء تطبيق عقوبة مخالفي الأنظمة والتعليمات لمن يتم ضبطهم دون تصريح حج    الدفاع المدني يواصل الإشراف الوقائي في المسجد النبوي    إحباط تهريب 6,5 ملايين حبة كبتاغون في إرسالية "إطارات كبيرة"    «المدينة المنورة» صديقة للتوحد    بعضها أغلق أبوابه.. وأخرى تقاوم.. تكاليف التشغيل تشل حركة الصوالين الفنية    اطلاق النسخة الثالثة من برنامج "أيام الفيلم الوثائقي"    البرامج    قصة القرن 21 بلغات العالم    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    قيصرية الكتاب: قلب الرياض ينبض بالثقافة    تعزيز العلاقات الاقتصادية مع ايطاليا    "أسبلة المؤسس" شهود عصر على إطفاء ظمأ قوافل الحجيج منذ 83 عاماً    توزيع 31 ألف كتيب لإرشاد الحجاج بمنفذ البطحاء    فرز وترميز أمتعة الحجاج في مطارات بلدانهم.. الإنسانية السعودية في الحج.. ضيوف الرحمن في طمأنينة ويسر    تركيا: تكاثر ضحايا هجمات الكلاب الشاردة    إصدار 99 مليون وصفة طبية إلكترونية    ورشة عن سلامة المختبرات الطبية في الحج    الليزر لحماية المجوهرات من التزييف    توصيات شوريَّة للإعلان عن مجالات بحوث تعزيز الصحة النفسية    شرطة الرياض تقبض على مقيمَين لترويجهما «الشبو»    ثروتنا الحيوانية والنباتية    النفط يستقر قبيل الاجتماع ويسجل خسارةً أسبوعيةً    نجوم «MBC TALENT» ينجحون في مهرجان الخليج..    بلد آمن ورب كريم    ضبط (5) مقيمين بالرياض إثر مشاجرة جماعية في مكان عام لخلاف بينهم    مشروع الطاقة الشمسية في المركز الميداني التوعوي بالأبواء    شراكة بين المملكة و"علي بابا" لتسويق التمور    متنزه جدر بالباحة.. قبلة عشاق الطبيعة والسياحة    ترحيل 13 ألف مخالف و37 ألفاً تحت "الإجراءات"    "نزاهة": توقيف 112 متهماً بقضايا فساد في 6 وزارات    بَدْء المرحلة الثانية لتوثيق عقود التشغيل والصيانة إلكترونياً    جامعة الطائف ترتقي 300 مرتبة بتصنيف RUR    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"لم يستعر أصابع غيره" ولا يزال وفياً لأحلام التغيير . معتبراً جائزة الدولة التقديرية تتويجاً لتجربة جيل الستينات . بهاء طاهر : كثيرون سقطوا في الطريق وعنادي أنقذني
نشر في الحياة يوم 28 - 09 - 1998

"جيلنا تعرّض منذ بدء مسيرته لقدر كبير من الصد والرفض. وأتوقع أن يكون حصولي على الجائزة التقديرية منعطفاً ونقطة تحوّل في مسار أدب الستينات"، بهذه الكلمات علّق بهاء طاهر على فوزه بجائزة الدولة التقديريّة، وهي أرفع تكريم للابداع في مصر. وأكّد صاحب "الحبّ في المنفى" تعاطفه مع الجيل الجديد الذي يشقّ طريقه الأدبي بصعوبة بالغة، قبل أن يتساءل "بعيداً عن أي تواضع كاذب": لماذا معظم قرائي من الشباب؟ هنا حوار شامل مع الكاتب الذي آمن بعد الثورة أن بوسع الأدب أن يكون وسيلة لتغيير المجتمع.
بهاء طاهر من أبرز رموز الجيل الستيني الذي جاء بعد يحيى حقي ونجيب محفوظ ويوسف أدريس. وهو يحظى بإجماع نقدي ندر أن حقّقه أقرانه وزملاؤه، وتلقى أعماله القصصية "الخطوبة"، "بالأمس حلمت بك"، "أنا الملك جئت"، والروائية "شرق النخيل"، "قالت ضحى"، "خالتي صفية والدير" و"الحب في المنفى" إقبال القراء، حسبما تشير طبعاتها المتكررة. وإذا كان بعض النقاد يعتبر أن أدب بهاء طاهر يتميز ببساطة مدهشة تذكّر بتجربة يحيى حقي الأدبيّة، فالكاتب نفسه يعتبر أن تلك البساطة جاءت انعكاساً لمنطلقات الفكر الجديد الذي طرحته ثورة تموز يوليو 1952. إذ ان تخليص اللغة من كل غموض، كان أحد أهم مشاغله، ومشاغل أبناء جيله الأدبيّة.
قصدنا بهاء طاهر في مناسبة حصوله على جائزة الدولة التقديريّة في مصر، فوجدناه يعمل على رواية "لا تدور أحداثها في الصعيد" كما قال لنا. وحدّثَنا هذا الكاتب المقلّ، عن مشاغله الأدبيّة والسياسيّة، وعن تجربته وتجربة جيله... عشيّة صدور مجموعته القصصيّة الجديدة "ذهبت إلى شلال" عن "الهيئة العامة لقصور الثقافة".
ما هو الصدى الذي تركته في نفسك جائزة الدولة التقديرية؟
- هذه الجائزة أرفع تقدير أدبي في مصر، وهي أسعد حدث بالنسبة إلى أي كاتب. ثم انها تتحلى بميزة تناسبني تماماً، إذ انها الجائزة الوحيدة التي لا ترشح نفسك لها، بل ترشحك لها جهة مستقلة أنا رشحتني أكاديمية الفنون.
والجائزة تفتح الطريق أمام جيل كامل في الأدب المصري، هو جيل الستينات الذي عانى حتّى الآن من التجاهل والاحباط والاهمال. في بداية حياتنا الأدبيّة، كان نشر قصة قصيرة يتطلّب معجزة، ومجالات النشر كانت محدودة جدّاً: عند يحيى حقي في "المجلة"، أو عند عبد الفتاح الجمل في جريدة "المساء"، أو في البرنامج الثاني الذي كانت تبثّه الاذاعة المصرية. ولأني كنت موظفاً في الاذاعة، لم أكن أسمح لنفسي بإذاعة أي قصة لي عبر برنامجها هذا. جيلنا تعرّض منذ بدء مسيرته لقدر كبير من الصد والرفض. وأتوقع أن يكون حصولي على الجائزة التقديرية، منعطفاً ونقطة تحوّل في مسار أدب الستينات، بحيث يكتسب جيلنا شرعيّته أخيراً، وتفتح الطريق أمام رموزه الآخرين، وكثير منهم أهل بالحفاوة والتكريم. وعسى الذين يأتون بعدي يغنمون تقديراً مادياً أفضل من الذي حصلت عليه.
هل الصعوبات التي اعترضت جيل الستينات كانت تنحصر في ضيق مجالات النشر؟ أم أنّكم عانيتم من عقبات أهمّ مثل وجود أسماء راسخة مسيطرة على الحياة الثقافية المصرية؟
- لا بأس من وجود أسماء راسخة وأخرى جديدة. كنت مسؤولاً عن الثقافة في البرنامج الثاني في الاذاعة المصرية، وكنا نعطي للراسخين والأدباء الذين ثبتت مكانتهم حصّة كبيرة من الاهتمام في "البرنامج الثقافي" سواء عبر التعريف بأعمالهم أو نقدها أو تقديم دراسات عنها. وكنا في الوقت نفسه نفتح الباب على مصراعيه أمام الكتاب الجدد. وأستطيع أن أجزم لك أن معظم الكتاب الذين يكتبون الآن، ظهروا وانتشروا في بداياتهم من خلال تلك البرامج التي كنا نقدمها في الستينات والسبعينات، ونولي فيها اهتماماً خاصاً بالمواهب الجديدة والأسماء التي لم تخض مجال النشر. كان المعيار الوحيد عندنا هو الجودة، ولم نكن نجد أيّ مانع من تقديم كاتب جديد إلى جانب كاتب راسخ .
لكن المؤسّسات التي كانت راسخة في ذلك الحين كالملحق الأدبي في جريدة "الاهرام"، والصفحات الأدبية القليلة في الصحف اليومية أو المجلات الأسبوعية، مثل مؤسسة المجلس الأعلى للآداب والفنون التي كانت تشرف على سلسلة "الكتاب الذهبي" وكان رئيسها يوسف السباعي، لم تكن على الإطلاق تعطي فرصة للجيل الجديد. وعندما قرر الملحق الأدبي في جريدة "الاهرام" - وكان يعتبر وقتئذ قمة مرجعيّة في هذا المجال - نشر قصة قصيرة لأحد أبناء جيلنا، ولن أذكر اسمه، صدرت القصة من دون اسم كاتبها. فكتب يحيى حقي يطالب "الاهرام" بالاعتذار من الكاتب وإعادة نشر القصة باسمه، أو على الأقل الاشارة إلى أن القصة المنشورة هي لفلان الذي سقط اسمه سهواً. فرد المسؤولون عن الثقافة في الجريدة بأن "الاهرام" لا تعتذر، وطويت المسألة عند هذا الحد. وكانت حسب علمي المرة الأولى والأخيرة التي نشرت فيها "الأهرام" في الستينات قصة لأحد أبناء جيلنا، وليتها لم تنشرها.
هل كانت الأسماء المكرّسة، مثل نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف أدريس، عقبة أمام جيلكم؟
- لا أعتبر أن هؤلاء الكتاب كانوا عقبة، ولا أحمّلهم أية مسؤولية عما واجهنا. المسؤولية كلّها كانت تقع على عاتق جهات النشر. نجيب محفوظ، في ندوته الاسبوعية، استقبل الكتاب الجدد. وكان يوسف أدريس أول من قدمني في مجلة "الكاتب" إذ كتب صفحة أعتز بها كمقدمة لقصة "المظاهرة" التي أعدت نشرها في مجموعتي القصصية الأولى "الخطوبة" 1972. ومما قاله ادريس: "هذا كاتب لا يستعير أصابع غيره، هذا كاتب بهائي طاهري".
الأدباء الكبار لم يقوموا بإعاقتنا على الإطلاق، وإنما فرحوا بنا. يحيى حقي هو أبونا جميعاً، كان بعضنا إذا التقاه في الشارع يقبّل يده. وأؤكد لك أنه لولا يحيى حقي وعبد الفتاح الجمل لما كان لجيل الستينات أن ينشر ولما كان له أن يظهر. لذلك فإن ليحيى حقي في نفسي مكانة عظمى كأب وانسان، ناهيك عن إعجابي به ككاتب هو صاحب لغة فريدة في الأدب العربي. ومما أسعدني غاية السعادة أنه قرأ مقالي الأخير عنه وكان راضياً عنه تمام الرضا قبيل وفاته مباشرة، كما أبلغني بذلك المرحوم فؤاد دوارة . المقال منشور في كتاب "أبناء رفاعة".
يرى بعض النقاد أنك تنتمي إلى تيار في الكتابة منحدر من يحىى حقي...
- إن صحّ ذلك، فهو يشرفني جداً. ما يجمع بيني وبين حقي أن كلينا مُقل في الكتابة. أنا أحاسب نفسي حساباً عسيراً قبل أن أغامر بنشر أبسط نصّ.
هل هذا سبب قلّة أعمالك، أم انّه انشغالك بكسب الرزق؟
- بعض الكتاب ينشر لمجرّد البقاء على الساحة، فلا يفعل سوى تكرار نفسه. أنا أحاسب نفسي وأضع خطوطاً، إن لم يكن ما أنشره جديداً بالنسبة إلي على الأقل، في حكمي وتقديري، لا أنشره. وكان هذا دأب يحيى حقي أيضاً، فتعلمنا منه.
أما الوظيفة فعامل آخر، له دوره أيضاً في شحّ الانتاج. كما أن هناك أسباباً أخرى. في بداية حياتي الأدبية كنتُ أفتقر إلى الحماسة، فما الذي يدفعني إلى الكتابة ولديّ أعمال غير منشورة لا أعرف وسيلة لنشرها؟ ثم جاءت نكسة ال 1967 باحباطاتها، فقتلت فينا الرغبة في الكتابة والقراءة. أما عهد أنور السادات، فلم يبقَ كاتب إلا وعانى فيه، وواجه الفصل من العمل أو السجن أو النفي. كان حظي أفضل من سواي يومذاك، اذ اكتفوا بإبعادي عن العمل! هكذا هدرتُ السنوات التي يفترض أنها أهم مراحل العطاء وأخصبها. وعندما سافرت الى أوروبا منتصف السبعينات كمترجم في الأمم المتحدة، كان هذا العمل أشبه بالأشغال الشاقة، فاستنزف كل طاقة وجهد. وقد بقيت عامين من دون أن أكتب حرفاً وأحداً...
قصة "بالأمس حلمت بك" تعبّر بشكل ما عن هذه الحالة، إذ يسيطر على أجوائها الروتين والأيام المتكررة، والثلج في كل مكان...
- القصة التي ذكرت تعكس بالفعل، في أحد جوانبها، ذلك الجو الفظيع الذي عشته. لم أجرؤ على قرار ترك العمل، بسبب مسؤولياتي تجاه أسرتي وأولادي. والعودة إلى مصر كانت صعبة، إذ لم أكن من المرغوب فيهم هنا، بعد أن أبعدت عن العمل في الاذاعة، ومنعت من النشر، ومنع ذكر اسمي، شأني في ذلك شأن قائمة طويلة من الكتاب، منذ منتصف السبعينات. إلى أن غامر لويس جريس سنة 1983، فنشر رواية "شرق النخيل" مسلسلة في مجلة "صباح الخير" التي كان يرأس تحريرها.
وجدت نفسي مهدداً بالموت ككاتب، ولم يكن لديّ الخيار. كنت أعود من عملي القاتل إلى البيت لكي أكتب. وأقرب من يستطيع أن يحدثك عن تلك الحالة جميل عطية ابراهيم، لا لأنه خاض هذا النوع من العمل فقط، وإنما لأنه كان يأتيني ويرى أكداس الأوراق التي عليّ أن أترجمها يومياً قبل أن أذهب إلى البيت للشروع في الكتابة. كانت الكتابة بالنسبة إليّ موتاً حقيقياً، فضلاً عن أنني كنت ميتاً معنوياً. وتعكس قصة "بالأمس حلمت بك" ذلك الجو الضاغط مع أنّني لم أضمّنها أبداً إعترافات شخصية.
الآن فقط أستطيع أن أقول إنني فخور بما قمت به، لأنني شهدت خلال عملي في اليونسكو باريس أو اليونيدو فيينا أو في الأمم المتحدة جنيف ونيويورك مواهب كثيرة من مصر والعالم العربي، دمرها بالكامل هذا النوع من العمل. في بداياتي كنت مولعاً بالترجمة، وعرّبت خلال سنوات الدراسة مسرحيات يونانية وقصص لجون شتاينيك ومسرحيات ليوجين أونيل. أما أن يعمل الأديب مترجماً محترفاً، فهذه هي الوصفة المضمونة لكي ينتهي. لو استسلمت حينذاك، لكان كلّ ما تركته للمكتبة العربية مجموعة "الخطوبة" وقصصاً قليلة متناثرة من "بالأمس حلمت بك" و"أنا الملك جئت". لكني بذلت جهداً خرافياً، ولعلّ عنادي الصعيدي هو الذي ساعدني على رفع التحدّي.
وهل كان عملك في الاذاعة يناسبك كأديب؟
- كان عملي في الاذاعة نعمة ونقمة. نعمة لأنني من خلاله استطعت أن أدخل في عمق الحياة الثقافية. وأن ألتقي زملاء كثيرين ممن أصبحوا فيما بعد أصدقاء العمر، مثل إدوار الخراط وصبري حافظ ومحمد البساطي. وأتاح لي عملي هناك، أن أقبل أكثر فأكثر على القراءة، وأنا قارىء نهم بطبيعتي. هكذا اكتشفت كل أبناء جيلي وكل التيارات الموجودة في العالم.
لكن العمل كان شاقاً. وكنت بسببه متحفظاً في عرض أعمالي على الناشرين، مخافة أن يأتي من يظن أنني أستغل نفوذي لترويج أدبي، أو أن تلوّثني شبهة تبادل منافع مع أي طرف. وعندما طلب مني أحمد عباس صالح كتابة "شهرية المسرح" في مجلة "الكاتب"، اشترطت عليه أن يعتزل العمل في "البرنامج الثقافي" فوافق. وظل هذا العقد قائماً بيننا طوال السنوات الخمس التي عملت خلالها في "الكاتب" محرراً لشهرية المسرح.
تنتمي إلى مدرسة البساطة في الكتابة، تلك التي سبقك إليها يحيى حقي، وتشترك فيها مع ابراهيم أصلان ومحمد البساطي... فهل خياراتك نتيجة خوف من الزخارف اللغوية، أم أنّك تستهدف القارىء العادي قبل سواه؟
- لم تطرح عليّ القضيّة في البداية. ويهيأ لي أن هذا الاتجاه الأدبي له علاقة مباشرة بثورة 1952. كان عمري 16 سنة عندما قامت الثورة. كنا شباباً نزخر بالحماسة، في مناخات اليأس التي طغت على نهاية العصر الملكي وانعكست على كل الناس. ومع النفس الجديد الذي حملته الثورة، كنا نريد أن يكون للأدب أيضاً دور رائد وأن نقطع في كتاباتنا مع الأدب السائد. هذا هو تحليلي المتأخّر لسلوك انتهجناه من دون وعي في ذلك الوقت.
كان نجيب محفوظ ويوسف أدريس في الخمسينات في عز عطائهما. لكنهما كانا من كُتاب الصفوة في ذلك الحين لا من الكتّاب الشعبيين. وكان محفوظ إذا طبع من كتابه ألف نسخة، لا يتم توزيعها قبل سنوات عدة. لكننا كنا على صلة بأدب محفوظ وأدريس من حيث كونه أدباً جديداً، لكنّه يختلف عما نقدمه. كنا نتصور أن تخليص الأدب من الزخرفة اللغوية والبلاغة الرومانسية التي كانت شائعة في كتابات محمد عبد الحليم عبد الله وغيره، نوع من دعوة إلى القارىء كي يتخلص أيضاً من الزخرفة في الحياة، بمعنى أن يكون الأدب وسيلة إلى تغيير التفكير. كنا حين نكتب، نسعى من دون وعي إلى تخليص اللغة من كل ترهل وزخرفة. أردنا أن يكون الأدب وسيلة لتغيير الفكر ولخلق ثقافة جديدة، أن يكون أداة من أدوات التغيير في المجتمع.
مثل هذا المشروع قد يبدو اليوم على درجة من المثاليّة!
- الكتابة الجديدة كانت مشروعاً طوباويّاً ربّما. أفكّر الآن أن طموحنا كان كبيراً جداً. ولا أعرف إن كان قد تحقق أم لا، لكنني بقيت على الأقل وفياً لهذا الحلم. حلم أن يكون الأدب أداة لتغيير المجتمع. وإذا كنت تريد من الأدب أن يكون وسيلة للتغيير الاجتماعي، فمن البديهي أن تتجنب الغموض. لأنك تخاطب قارئاً مفترضاً وأنت معني بالتواصل معه بلغة يكون قادراً على فهمها. وأدركنا أيضاً من قراءة الأدب الأجنبي أن هناك بلاغة عصية تخلقها البساطة. هذا الأسلوب نفسه أشار إلىه ابن المقفع بقوله: "إذا قرأه الجاهل ظن أنه يحسن مثله". إنّه السهل الممتنع. صفحة واحدة قد أكتبها عشرين مرّة - صدقني - كي أتوصّل إلى تلك البساطة. قلت هذا مرة للصديق الناقد فاروق عبد القادر، فأورد كلامي في أحد كتبه. إن مسودات "قالت ضحى" التي لا تتجاوز 120 صفحة، ربما كانت في حجم رواية تولستوي "الحرب والسلام".
تتكلم بصيغة الجمع عن ذلك المشروع...
- أظن أن هذا الهدف كان قاسماً مشتركاً لجيلي كله.
خرج من هذا الجيل أيضاً من يهتم باللغة والزخارف اللغوية، ومن جنح نحو الغموض أحياناً. لم ينشغل جمال الغيطاني مثلاً بهذا الهدف، وعبد الحكيم قاسم لم يكتب لغة بسيطة.
- أنا أكلمك عن الظروف التي نشأنا فيها. أما الغيطاني فهو من جيل أتى بعدنا وواجه ظروفاً مختلفة.
نشرت مجموعتك الأولى "الخطوبة" في سلسلة كتاب "الجديد" التي كان يشرف عليها مفكر يميني هو رشاد رشدي. لماذا لم تختر سلسلة لها ميول يسارية قريبة من انتمائك الفكري؟
- قدمت هذه المجموعة في الحقيقة إلى "الهيئة العامة للكتاب" فتم نشرها في هذه السلسلة بمعزل عن الاتجاه السياسي للمشرف عليها. أنا لم أنشر في مجلة "الجديد" التي كان يرأس تحريرها الدكتور رشاد رشدي على الاطلاق. ولا أخجل من المجاهرة بانتمائي اليساري، مع العلم أنني لم أدخل في حياتي أي تنظيم سياسي. أؤمن بالعدالة الاجتماعية، وبالقومية العربية، وبكل ما يتصف به ويدعو إليه مجمل اليسار الوطني، ولهذا لم يرضَ عني الرئيس السادات.
ما هي مشكلتك مع عهد السادات؟
- قال يوسف السباعي من ليس معنا فهو ضدنا. أنا كنت دائماً بعيداً عن مجالات عمل يوسف السباعي. علاقتنا على المستوى الإنساني كانت طيبة، وسافرت معه في رحلة إلى نيودلهي. كنا نلتقي في مناسبات ثقافية رسمية، لكنني لم أكن معجباً بأدبه. وعندما أصبح وزيراً للإعلام أعلن عن تطهير الإذاعة من اليساريين وممن يعادون النظام، ولم يجد غيري. ولا أدري أأحمد له ذلك أم ألومه عليه؟ لو كنت في الاذاعة عند زيارة القدس وكامب ديفيد واعتقالات أيلول سبتمبر، لمتّ - على الأرجح - قهراً واحباطاً.
في قصة "بالأمس حلمت بك" يقول البطل مخاطباً فتاة أجنبية: "في الواقع كانت عندي أفكار فيما مضى، لكني الآن نسيتها. في بلدي لم يكن أحد يحتاج إليها ولا إليّ فقررت أن أنساها". هل كان هذا لسان حالك عندما قرّرت السفر إلى المنفى؟
- لم يكن هذا هو حالي وحدي، بل حال كل من خرجوا من مصر في تلك الفترة. فكّرنا بإخلاص، وخضنا تجارب ابداعيّة، ولم نستخدم الكتابة لتحقيق مآرب شخصية. ومع ذلك قيل لنا: مع السلامة. فكان الحل فعلاً أن تنسى. رأيت كثيرين تحولوا 180 درجة من العهد الناصري إلى عهد السادات، وبدا ذلك الماضي الناصري عاراً ينبغي أن تنساه.
تحدثت عن الأزمة الحادة التي كادت تقتل الكاتب فيك، فهل عاش سائر أبناء جيلك من أدباء الستينات أزمات مماثلة؟
- واجه هذا الجيل محنة نفسيّة ناتجة من هزيمة 1967، ثم عانى من سياسة السادات المعادية للثقافة وإبعاده المثقفين الحقيقيين عن كل مراكز النشر والتعبير. ولا شكّ في أن تلك المحنة النفسية انعكست على كل كتاب جيل الستينات بشكل أو بآخر. سقط كثيرون في الطريق. وهناك من استطاع أن يتجاوز المصاعب، بشكل أو بآخر. محمد البساطي ظل خمس سنوات يعمل في السعودية من دون أن يكتب خلالها حرفاً. وابراهيم أصلان صمت فترة طويلة بعد مجموعته "بحيرة المساء" قبل أن يكتب "مالك الحزين". وأحمد عبد المعطي حجازي سافر إلى فرنسا، وظل فترة طويلة في خصام مع الشعر. و لم يكتب عبد الحكيم قاسم في ألمانيا سوى عمل واحد بعد معاناة سنوات.
أما المسرح فأفلت من هذه الأزمة، بحكم طبيعة علاقته المباشرة مع جمهور المتلقين، وعدم حاجته إلى وسيط. واعتبر أن المسرح هو الذي حمل رسالة التواصل الثقافي بين النخبة والجمهور في الستينات. لذا تجد أن يوسف أدريس ترك القصة القصيرة وكتب للمسرح، ناهيك عن كتابات نعمان عاشور وألفريد فرج وصلاح عبد الصبور وميخائيل رومان ومحمود دياب الذي كان يكتب الرواية. كان هناك عدد كبير من مسارح الدولة بحاجة إلى انتاج مستمر، فكل من كان لديه قدر من الموهبة استطاع أن يقدم عمله على المسرح. واستطاع المسرح أن يقوم بوظيفة الثقافة العامة. وأكثر أبناء جيلنا تحقيقاً لذاتهم، ذلك الوقت، كتاب المسرح، إذ استطاعوا أن يلمعوا ككتاب وأن يتواصلوا مع الجمهور.
والجيل الحالي ما أزماته؟
- لا توجد أزمة نشر لدى الجيل الحالي. هناك سلاسل كثيرة وصحف ومجلات في مصر والعالم العربي. ومن خلال هذا "الكم" الهائل يخرج "كيف" متميز جداً. وإذا كانت الظروف أسهل من حيث النشر، فهي أصعب من حيث الجمهور المتلقي القادر على التذوق. أنا من أكثر الناس حماسةً للجيل الجديد، وأعتقد أنه سيجتاز هذه العقبات. إنه يقدم رؤية مختلفة عن رؤية جيلنا والأجيال السابقة، مع انّه يشق طريقه في ظروف بالغة الصعوبة. فهذا الجيل تربى في ظل فترة ضرب الثقافة في السبعينات، ثم في ظل أزمات اقتصادية متلاحقة، وعمليات تشويه ثقافي متعدد المصادر. وكلّ ذلك أعاق بشدّة تكوّن المتلقي الصحي. ومع هذا استطاع الكتاب الجدد أن يجدوا طريقهم. وسيبرز منهم في نهاية الأمر عدد محدود كما كان الأمر بالنسبة إلينا.
في روايتك "قالت ضحى" حنين إلى فترة ما قبل ثورة يوليو تموز 52، وهذا يتناقض مع ميولك السياسية المعلنة؟
- هذا حنين "ضحى" وليس حنيني أنا. لكنّني لا أخفي أسفي أحياناً، فالثورة قضت على ذلك العهد القديم بجوانبه الجيدة والرديئة. أعطي كمثال القدرة على تذوق الجمال: إننا نتحسر الآن على الفيلات والقصور القديمة، وعلى ما كان من ذوق رفيع ونظافة، وأشياء لم ينتبه إليها أبداً حكامنا بعد الثورة وحتى الآن.
كيف تفسر الاجماع النقدي على أعمالك؟
- في الطبعة الثانية من مجموعتي الأولى "الخطوبة" 1984 نشرت ملحقاً صغيراً اسمه "معركة الخطوبة". عندما نشرت قصة "الخطوبة" أثارت زوبعة نقدية، وتعرضتُ يومذاك لهجوم حاد. علاقتي مع النقد أصبحت جيدة، لكنّها لم تكن كذلك. في البداية لم يكن هناك هذا الاتفاق - ولا أقول الإجماع! - في الموقف النقدي من أعمالي. لكني قد أكون كتبت نصوصاً جيدة سببت هذا الوضع.
ماذا عن القراء؟
- لا توجد لدي أدنى فكرة عن قرائي. ليست لدينا إحصاءات تعطي فكرة، ولو جزئيّة، عن خريطة القرّاء وملامحهم وتشكّلهم في العالم العربي. قد نستعين ببعض إشارات : فروايتي "خالتي صفية والدير" طبعت أربع مرات في فترة لا تتجاوز الثلاث سنوات. والظاهرة نفسها شملت رواية "الحب في المنفى" التي طبعت مرتين خلال أشهر قليلة. ومع ذلك أبقى عاجزاً، شأني في ذلك شأن أي كاتب عربي آخر، عن حصر عدد قرّائي، أو تبيّن ملامحهم وفئاتهم وأعمارهم وانتماءاتهم الاجتماعيّة والجغرافيّة، وغير ذلك من معطيات احصائيّة. لكنني دهشت مثلاً عندما اكتشفت خلال ندوة أقيمت حول "بالأمس حلمت بك"، أن الجمهور كان شاباً بنسبة 90 في المئة. وتكرر هذا في ندوات عن "خالتي صفية والدير" و"الحب في المنفى". وبعيداً عن أي تواضع كاذب لا أعرف لماذا معظم قرائي من الشباب. قال لي الدكتور سمير سرحان إن مجموعة "أنا الملك جئت" طبعت منها "مكتبة الأسرة" خمسين ألف نسخة نفدت كلّها. كما نفدت كميّة موازية من "خالتي صفية والدير" قبل عامين، حين طبعت في السلسلة نفسها. ترى من هو هذا القارىء الذي نصل إليه ولا نعرفه؟
هل يعيش العرب حقّاً زمن الرواية؟
- لا بد من دراسات تحليليّة ونقديّة واجتماعيّة واحصائية للتثبّت من ذلك. لكن من المؤكد أن هناك اليوم زخماً روائياً في العالم العربي كله


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.