ارتفاع درجة الحرارة في الكويت خلال اشهر الصيف الى حوالى 50 درجة مئوية من الظواهر الطبيعية العادية التي يمر فيها كل من عاش في الكويت او زارها خلال هذا الموسم. لكن ما لا يعرفه كثيرون هو ان الاجواء السياسية في الكويت لا تقل حرارة في كل صيف، وقلما يمر هذا الموسم من دون ازمة سياسية كبرى، وصيف 1998 لم يكن استثناء من هذه القاعدة، إذ بينما كانت الاستعدادات تجري في دواوين الكويت ومنتدياتها لاستقبال مباريات كأس العالم لكرة القدم، سرت ليلة الافتتاح اشاعات عن ان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله الصباح رفع كتاباً الى أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح يعلن فيه عدم امكانية التعاون مع مجلس الامة. وبموجب الدستور فان ذلك يعني ان الامير، وهو رئيس السلطات، مخول بأن يعفي الحكومة من مسؤوليتها ويعين حكومة بديلة او ان يحل مجلس الامة ويدعو الى انتخابات جديدة، لكن احداً لم يكن ليجزم ان الخيارات محدودة في الاطار الدستوري. وصباح الثلثاء 9 يونيو تأكدت الاشاعات اذ قاطعت الحكومة في بداية الامر الجلسة العادية لمجلس الأمة مما أخر انعقادها، وعندما حضر الوزير المعني بشؤون المجلس طلب تأجيل كل البنود الواردة على جدول الاعمال. وتأكد خبر رفع ولي العهد رئيس الوزراء مذكرة عدم التعاون مع المجلس للأمير عندما التقى نائب رئيس مجلس الامة طلال العيار بالشيخ سعد العبدالله ووزير الخارجية الشيخ صباح الاحمد اللذين أكدا ان الاجواء ملبدة وان الأمر بيد الأمير. وبدت الازمة مفاجأة، ليس للمراقبين والمتابعين للشأن المحلي بل وحتى لأعضاء مجلس الامة انفسهم، ذلك ان الشيخ سعد العبدالله كان قد اكد قبل اسبوع، خلال عشاء دعي اليه 1200 من اعيان البلاد وشخصياتها بمن في ذلك اعضاء مجلس الامة، تمسك الحكومة بالخيار الديموقراطي والحريات والمشاركة الشعبية وحرصها على التعاون مع مجلس الامة، ولم يفهم احد الاسباب الحقيقية لاعلان عدم التعاون مع المجلس. وعلى رغم ان احد اعضاء مجلس الامة قدم في اليوم نفسه استجواباً لوزير الداخلية، فان الشيخ سعد لم يأت على ذكر الاستجواب في خطابه مما اوحى بأنه يعتبره مسألة عادية خصوصاً ان الاستجواب كان فردياً ولم تكن خلفه كتلة سياسية معينة يمكن ان تجعله مادة للتصعيد السياسي مع الحكومة. شبح الحل غير الدستوري وفي جو متوتر تداولت الاوساط السياسية احتمالات اللجوء الى حل غير دستوري لمجلس الامة يعيد التذكير بما اقدم الحكم عليه مرتين في السابق. المرة الاولى صيف العام 1976 عندما اعلن امير الكويت آنذاك الشيخ صباح السالم الصباح حل مجلس الامة وتعليق بعض مواد الدستور والدعوة الى تنقيح الدستور، وتشكلت لجنة لذلك الغرض قدمت تقريرها في العام 1980، لكن تنقيح الدستور لم يتم بسبب المعارضة الكبيرة التي لقيها من الشارع السياسي الكويتي بمختلف فئاته، مما اضطر الحكم الى الدعوة لانتخابات جديدة في العام 1981. والمرة الثانية كانت في تموز يوليو العام 1986 عندما تم حل مجلس الامة وعلقت بعض مواد الدستور مما ادى الى مواجهات وصلت الى الشارع بين القوى السياسية والحكومة قادها تكتل نواب المجلس المنحل، ولجأت الحكومة حينها الى اعلان ما سمي بالمجلس الوطني - ثلثه بالتعيين - بديلاً عن مجلس الامة. ولم تنته المواجهات إلا بسبب الغزو العراقي واتفاق الحكم والقوى السياسية في جدة 1990 على اعادة العمل بدستور العام 1962 واجراء انتخابات جديدة لمجلس الامة بعد تحرير البلاد من الاحتلال. لكن احتمالات الحل غير الدستوري استبعدها كثيرون من المحللين والمراقبين لاسباب عدة، اهمها ان الحل غير الدستوري يدخل البلاد في نفق مظلم ويهدد وحدتها الداخلية في ظروف هي احوج ما تكون الى التماسك امام التهديد الامني المستمر الذي يمثله النظام العراقي، وبسبب كون عودة الديموقراطية واستمرارها اصبحت تحظى باحترام وحماية ادبية دولية ومن الصعب التفريط بها. والسؤال الذي طرحه الكويتيون في اليوم الاول لاندلاع الازمة يتعلق بالاسباب التي دفعت ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الى رفع كتاب عدم التعاون للأمير. لكن في اليوم التالي تكشفت بعض خيوط المشكلة، اذ قيل ان بعض جوانب الخلاف بين السلطتين كانت مدار نقاش في جلسة مجلس الوزراء قبل نشوب الأزمة بيومين، اذ طلب رئيس الوزراء تخصيص الجلسة لمناقشة سبل التعامل مع الاستجواب المقدم لوزير الداخلية. وتسربت معلومات بأن اغلب الوزراء اشتكوا من تهديدات النواب بتقديمهم للاستجواب ان لم يستجيبوا لبعض مطالبهم، وقيل ان هناك ستة وزراء مهددون بالاستجواب، لهذا السبب او ذاك. ومن المفيد التذكير بأن الوزارة الحالية التي لم يتعد عمرها حتى الآن ثلاثة اشهر جاءت نتيجة المواجهة بين الحكومة والتيارات الدينية حول استجواب وزير الاعلام السابق الشيخ سعود ناصر الصباح في تشرين الثاني نوفمبر الماضي بسبب ما زُعم عن مسؤوليته عن ادخال بعض الكتب التي اعتبرت مسيئة للدين الاسلامي. وقد اضطر ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الى تدوير وزير الاعلام - اصبح وزيراً للنفط - في تعديل حكومي محدود بعدما بدا واضحاً ان التصويت على طرح الثقة الذي يعقب الاستجواب لن يكون لمصلحة الوزير. ولم يكن استجواب وزير الاعلام هو الاول في الحكومة الاخيرة بل سبقه الصيف الماضي استجواب نائب رئيس الوزراء وزير المال ناصر الروضان حول مسؤوليته عن بعض المؤسسات الكبرى وسياساته التي اتهمت بالتفريط بالمال العام. وقد انتهز الشيخ سعد التعديل الحكومي الاخير فأعفى الروضان من مسؤولية وزارة المال وأناط بها احد ابناء الاسرة الحاكمة الذي دخل الوزارة للمرة الاولى وهو الشيخ علي سالم العلي الصباح. جهود وساطة واستمرت في اليومين التاليين جهود الوساطة التي قادها نائب رئيس المجلس طلال العيار وشاركه 14 نائباً في لقاء مع الشيخ سعد للتعرف على اسباب الازمة بين السلطتين وسبل تجنب خيار المجلس. وعلى رغم ان النواب الذين حضروا اللقاء وافقوا على مبدأ عقد جلسة سرية لمناقشة سبل التعاون بين السلطتين وتأجيل الاستجواب المقدم لوزير الداخلية الا ان ولي العهد اكتفى بالاستماع بانتظار اجتماع مجلس الوزراء يوم السبت 13/6. وفي خطوة لم تحدث منذ عامين التقت القوى السياسية جميعاً في اجتماع دعا اليه عبدالعزيز الصقر رئيس الغرفة التجارية السابق وزعيم كتلة التجار الوطنيين التقليدية واعتبرت القوى السياسية في بيان لها ان الدستور هو الاطار المرجعي الذي ينبغي الاحتكام اليه للخروج من الازمة بين الحكومة ومجلس الامة، وفي اشارة الى رفض الحل غير الدستوري. وانتقد البيان غياب الاولويات لدى المجلس وافتقاد الحكومة لتصور استراتيجي وبرنامج عمل واضح لمواجهة المشاكل التي تعاني منها البلاد. وطالب البيان الحكومة بأن تتحلى بالصبر وسعة الصدر وان لا تضيق بالرأي المعارض، كما اكد حق الاعضاء في استخدام الادوات الدستورية المتاحة كالاستجواب. وعلى رغم ان اجواء التوتر خفت بعض الشيء بدءاً من اعلان ان الامير سيترأس اجتماعاً لمجلس الوزراء يوم السبت لكن احداً لم يكن يستطيع ان يتنبأ بما يمكن ان يسفر عنه الاجتماع، فيما رجح مراقبون استبعاد الحل غير الدستوري خصوصاً بعد التفاف القوى السياسية حول المجلس وتمسكها بمرجعية الدستور واعلانها عن رغبتها في تعاون حقيقي مع السلطة التنفيذية. وصباح يوم 13 الشهر الجاري ترأس الامير اجتماع مجلس الوزراء المنتظر وأكد حرصه على التمسك بالديموقراطية والتعاون بين السلطتين مما نفّس اجواء الاحتقان التي سادت. وفور صدور البيان اجتمع النواب وطلبوا من رئيس المجلس ومكتب المجلس المكون من نائب الرئيس والمقرر والمراقب ورئيس اللجنة المالية ورئيس اللجنة التشريعية مقابلة الأمير الشيخ جابر الأحمد للتعرف على ملاحظاته حول الأزمة. وفي اليوم التالي التقى الأمير بالسعدون واعضاء مكتب المجلس وطلب اليهم الجلوس مع رئيس الحكومة ونوابه للوصول الى تفاهم حول الازمة. وكان مجرد اللقاء بين اركان المجلس والحكومة كافياً لاعلان ان 70 في المئة من الازمة تم تجاوزه. ونقلت الصحف بعد ذلك جزءاً من الحوار الذي دار خلال الاجتماع وركز على تجاهل بعض النواب للمصالح بعيدة المدى والاوضاع المالية الصعبة للبلد عند تقديم بعض مشاريع القوانين، وكذلك غياب التصورات الواضحة لدى الحكومة لمعالجة بعض الاوضاع والمشاكل المتفاقمة. وقد تم الاتفاق خلال الجلسة على تفعيل لقاءات اللجنة الوزارية المعنية بالتعاون مع مكتب مجلس الأمة لتجنب بعض المشاكل والحيلولة دون تفاقمها. وأعلن في نهاية اللقاء ان الحكومة ستطلب عقد جلسة سرية لمناقشة الاستجواب المقدم لوزير الداخلية بعدما وعد ولي العهد باقناعه عن العدول عن استقالته. وفعلاً خلال جلسة مجلس الامة في اليوم التالي طلبت الحكومة عقد جلسة سرية لمناقشة الاستجواب فحصلت على موافقة 30 نائباً وامتنع 14 فيما عارضه 6 نواب. وفور نجاح الاقتراح انسحب مقدم الاستجواب النائب حسين القلاف فاعتبر الاستجواب ساقطاً، الأمر الذي اعتبره عدد من النواب انجازاً سلبياً لأنهم لا يريدون ان يكرسوا سابقة قد تصبح عرفاً تلجأ اليه الحكومة كلما واجهت استجواباً جديداً. وعلى رغم الازمات المتعددة بين الحكومة ومجلس الامة في السنوات الاخيرة، وربما منذ عودة العمل بالدستور واجراء اول انتخابات بعد التحرير العام 1992. فإن أياً من هذه الازمات لم يصل الى حافة الهاوية مثل هذه الأزمة، الأمر الذي يفسر الاستنفار الذي مثله لقاء القوى السياسية على رغم خلافاتها الواسعة والعميقة لمواجهة احتمالات الحل غير الدستوري. شكوك حول الدوافع ومع ذلك فإن المراقبين والمتابعين للشأن السياسي الكويتي مختلفون على الأسباب الحقيقية التي أدت الى الازمة الاخيرة. ويرى مراقبون ان الاسباب التي دفعت الحكومة الى ايصال الامور الى الحدود القصوى هي رغبتها في تجنب مزايدات بعض النواب على سياساتها التي تستهدف معالجة الاوضاع المالية الصعبة كزيادة اسعار المحروقات وفرض الرسوم على بعض الخدمات، وهي التي يرى معظم المراقبين ان الحكومة مقدمة عليها عاجلاً ام آجلاً. وصدرت اشارات عن سلوك بعض النواب تجاه هذه المسائل أهمها انتقاد النواب بأن اعينهم على انتخابات العام 2000 وليس المصالح البعيدة للبلد. لكن مراقبين آخرين يقللون من اهمية السياسات الاقتصادية باعتبارها الدافع وراء الازمة على اعتبار ان ليس هناك تأكيدات حقيقية بأن الحكومة لديها نية جادة للتطبيق أو أنها متفقة ومنسجمة حول اهميتها. ويشير هؤلاء الى استقالة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الاخيرة التي قيل ان سببها عدم التزام الحكومة باعتماد الزيادة في أسعار المحروقات التي اقرها المجلس الاعلى للبترول الذي يرأسه الشيخ صباح. ويرى مراقبون آخرون ان السبب الحقيقي للأزمة هو الاستجواب المقدم لوزير الداخلية محمد الخالد الصباح. فعلى رغم ان مقدم الاستجواب النائب حسين القلاف لم يستشر احداً قبل تقديم الاستجواب، فان الاستجواب هو الاول الذي يقدم لوزير الداخلية حول السياسات الامنية في الوقت الذي تصاعدت حدة الانتقادات لزيادة معدلات الجرائم وجرائم المخدرات تحديداً. ولا يخفي هؤلاء المراقبون شكوكهم حول الفرص الضئيلة لنجاح الاستجواب لكن بعضهم يؤكد ان المعلومات والبيانات التي يملكها القلاف قد يؤدي نشرها الى حرج سياسي كبير للحكومة وهو ما حاولت تجنبه ونجحت فيه. ويظل هناك بعض المراقبين الذين يقدمون رغبة الحكومة في التعامل مع المجلس بالادوات المتاحة ما دام من غير الممكن التعامل مع النفوذ المتزايد للمجلس بطريقة اخرى. ويقول هؤلاء ان الحل غير الدستوري غير ممكن لاعتبارات محلية واقليمية ودولية ولذلك فان الحكومة تتعايش مع الرغبة المتزايدة لفرض رقابة اكبر وأشد على السياسات الحكومية من خلال الادوات الدستورية المتاحة وضمن حدود اللعبة الديموقراطية. وفي هذا السياق يظل التهديد بالحل الدستوري وسيلة للحصول على تعاون غالبية من الاعضاء عندما ترى الحكومة ان المجلس تجاوز بعض الخطوط الحمر. ومهما كانت التفسيرات لدوافع الأزمة الاخيرة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن المراقبين متفقون على ان ما تم التوصل اليه يمثل هدنة موقتة وليس تسوية شاملة، اذ سرعان ما ستطلّ ازمة جديدة. ويؤكد هؤلاء ان الحكومة نجحت في اسقاط استجواب وزير الداخلية وربما التقاط انفاسها خلال بقية الصيف واجازة المجلس لكن ليست هناك ضمانات بأن لا يمارس بعض الاعضاء صلاحياتهم الدستورية وان يقدم احدهم استجواباً جديداً في دور الانعقاد الاخير، خصوصاً انها ستكون السنة الاخيرة للمجلس قبل انتخابات العام 2000. واذا كانت الحكومة قد كسبت بتكريس عرف جديد وهو طلب جلسة سرية كلما قدم استجواب حول المسائل الامنية والدفاعية الحساسة، فان تدخل الامير وانحيازه لمصلحة استمرار المسيرة الديموقراطية واستقرارها يعتبره كثيرون مكسباً كبيراً سيجعل التهديد بحلّ المجلس في المستقبل أقل فاعلية وتأثيراً.