قرار اللجنة المنظمة لمهرجان كان، إدراج شريط "التفاحة" للمخرجة الإيرانية الشابة 18 عاماً سميرا مخملباف ضمن فقرة "نظرة ما"، يترك المعنيين بالشأن السينمائي العربي أمام تساؤل مقلق. فلا بدّ من وقفة تأمل ومراجعة نقدية للاحاطة بأسباب غيابنا عن تلك التظاهرة وغيرها من تظاهرات كان. ولا بدّ من مقارنة بين الفورة الخصبة التي تشهدها السينما الايرانيّة، والأزمة التي تحاصر السينما الطليعيّة العربيّة. صحيح أن المشاركة في كان هي في النتيجة الاخيرة محصلة مجموعة متشابكة من العناصر والعوامل، لكنّ الفنّ السابع خير تعبير عن واقع مشوش ومرتبك. ولا شكّ أن وضع السينما العربيّة يعكس حالة التخبط التي تتحكّم بحياتنا الثقافية والاقتصادية والسياسية والاعلامية، بسبب غياب المشاريع الواضحة المعالم. ولعل إشاعة روح الرضا والمكابرة والاستسلام القدري، أو إختلاق معارك جانبية، أو الاختباء وراء آليّات الانتاج والتمويل ورمي اللوم على الفضائيّات التي تسرق المشاهدين، هي محاولات للهروب من مواجهة حقيقة الأزمة الضاربة اتي تعيشها صناعة الفيلم السينمائي في العالم العربي، بشقيه التجاري والفني. وفي المقابل يدعو النموذج الايراني إلى الدهشة والتساؤل: كيف يمكن لبلد محاصر ثقافياً واقتصادياً وسياسياً مثل إيران، إضافة الى وجود رقابة داخلية صارمة، أن يفرز هذا المناخ الخصب الذي تعيشه السينما الايرانيّة، حيث يجد المخرجون والمبدعون فرصة للعمل والانتاج؟ لاشك في أن تجربة السينما الإيرانية الجديدة لها خصوصيتها، إذ تتولى مثلاً مؤسسة الفارابي، وهي واجهة حكومية واحدى الجهات المنتجة، مسؤولية تقديم العون المادي والفني عبر معاملها إلى السينمائيين. ولا بدّ من الاشارة إلى أن قيام الثورة بمنع استيراد الأفلام الأجنبية، وضع المخرج الإيراني أمام حاجات السوق المحلية في طهران وحدها 76 دار عرض، الأمر الذي انعكس ايجابيّاً على صعيد الانتاج والتنوع. وتمكنت السينما الجادة من أن تصوغ لنفسها طريقة في التعبير، تتعايش مع معطيات هذا النظام وتتحايل على الرقيب في آن. وهذا ما جعل الفيلم الإيراني محط اهتمام إعلامي، بحيث راحت المهرجانات الدولية تتسابق على استضافته والاحتفاء به. باب الفرادة والتنوّع هكذا جاءت دورة مهرجان كان الخمسون "إيرانية الطعم"، إذ احتفت بالمخرج عباس كيارستمي الذي حاز شريطه "طعم الكرز" السعفة الذهبية، وهي المرة الأولى التي يحصل فيها عمل ايراني على تلك الجائزة. أما الدورة الحالية، فتسلّط الأضواء على سميرا مخملباف التي تقدّم تجربتها الاخراجيّة الأولى بعنوان "التفاحة". ومشاركة المخرجة الشابة في فقرة "نظرة ما"، أفضل تحية لحضور المرأة في هذه السينما الناشطة، كما تجدر الاشارة إلى أنّ مشاركتها في هذه التظاهرة سابقة تعتبر الأولى من نوعها في تاريخ المهرجان. ولعل هذا الاختيار يؤكد على أن القيّمين على مهرجان بضخامة كان، يضعون في بالهم - شزهم في ذلك شأن منظمي المهرجانات الأقل شهرة - تلك التجارب والأسماء التي تدخل إلى عالم الفن السابع من باب الفرادة والتنوع. فيلم مخملباف لا يستند إلى الطروحات الصاخبة والمقولات الكبيرة : باختيارها حادثة يومية وتحميلها موقفاً شخصياً فيه الكثير من الذكاء، تبدو المخرجة الشابة أمينة لإيقاع وهاجس السينما الجديدة في بلادها، وهي بذلك تنتمي بلا شكّ إلى ما يمكن تسميته ب "الواقعيّة الجديدة" في السينما الايرانيّة. فشريطها كان مقرراً له أن يكون فيلماً تسجيلياً، غايته التقاط ورصد حالة اجتماعيّة تداولتها الصحافة، الا أنها وجدت في موضوعها من العناصر الدرامية، ما يصلح مادة لفيلم روائي طويل. وإذا بحكاية تلك العائلة البسيطة والمهمشة التي يشكّل الخوف والجهل خبزها اليومي، تتحوّل عملاً دراميّاً ينضح بالدلالات الاجتماعيّة، ولا يمكن قراءته إلا قراءة سياسيّة. موقف أخلاقي "التفاحة" عن أم بصيرة وأب عجوز، عاطل عن العمل، يحرمان ابنتيهما 11 و13 سنة من اللعب في الحارة والاختلاط مع اقرانهما. فكل ما هو خارج البيت حسب هذا المنطق هو محرم على النساء بغض النظر عن أعمارهن. تغوص المخرجة في الخلفيّات والاعتبارات التي دفعت الأب الى سجن ابنتيه مع والدتهما طيلة غيابه عن البيت، وتبني رؤيتها الفكريّة والجماليّة حول موقف أخلاقي واضح. وبعد أن تستنفذ الزائرة الاجتماعية، المكلفة بمتابعة شؤون تلك العائلة، كل حججها في إقناع الأب بسلوكه الخاطئ، تلجأ في نهاية الفيلم إلى حبسه في بيته موقتاً مكان أبنتيه. هكذا تمنح الطفلتان فرصة الانطلاق واللعب في الشارع، والتعرف إلى عالم غريب تكتشفانه للمرّة الأولى. ونرى حجم الاضطراب الذي تخلقه المواجهة مع العالم الخارجي، والالتباس في العلاقة مع الأشياء، والتفاوت في الوعي بينهما وبين أقرانهما، نتيجة سنوات الحجر التي أغرقتهما في حالة تخلف ذهني. وتتجلّى موهبة المخرجة، في طريقة بناء الشخصيّات التي اختيرت بعناية فائقة تجعلها مثيرة للنقاش. الأم في متوسط العمر لا رأي لها بما تعانيه ابنتاها. والفتاتان اللتان لا تعرفان من العالم سوى اطار البيت الضيق، متخلّفتان عقلياً. والأب العجوز، العاطل عن العمل، كل أحكامه مبنية على المخاوف والأوهام. لكسر هذه الحلقة المغلقة تلجأ سميرا مخملباف إلى إدخال التفاحة، كرمز مشتهى، واغراء بامتلاك الحياة يجمع بين رغبات الأم وابنتيها. فهذه التفاحة التي يعلقها ابن الجيران في عصاه، لا تغري الصبيتين فحسب، بل تمارس جاذبيّتها على الأم نفسها. وازاء هذه الحالة لم يبق للأب من خيار سوى الحيرة والشكوى. ولعلّ اللقطة التي تختصر ورطته، وتعكس مأزقه الشخصي، هي التي يظهر فيها حاملاً قرص خبز حار في يد، وقطعة ثلج في اليد الأخرى. فيلم "التفاحة" أول نتاج سينمائي للمخرجة التي تدربت على يد والدها المخرج الكبير محسن مخملباف، واكتشفت برفقته أسرار الحرفة. وسيجد الاعلام الغربي في تلك التجربة الفريدة الآتية من العالم الثالث، وهي الأولى من نوعها في تاريخ المهرجان، منجماً من المعطيات الجماليّة والفكريّة والانسانيّة. فالفيلم ينطوي على شحنة رمزيّة، هي امتداد طبيعي لموضوعه. إنّه يجسّد رهان المخرجة التي رفعت بدورها التحدي ونالت "التفاحة". فهي لم تحصّل العلم في مدرسة حكومية، بل حصلت على شهادة البكالوريا الثانوية وهي جالسة في البيت. كما تواصل الآن دراستها النظرية في السينما على يد أساتذة ومخرجين في البيت أيضاً. إذ أنّها تعتقد، كما أكّدت بنفسها ل "الوسط" قبل أسابيع في طهران، أن هناك في الجامعة دروساً غير مجدية أحياناً، تمنعها من التفرغ لدراسة المواضيع التي ليس لها علاقة مباشرة بالسينما. أليست السينما هي الفن الذي يلغي المسافة بينه وبين حياة الناس؟ وهل أفضل من "التفاحة" على المستويين الرمزي والحقيقي، لتجسيد تلك الحقيقة؟ 0