وزير الاقتصاد والتخطيط يلتقي المدير العام لصندوق أوبك للتنمية الدولية    نائب وزير الخارجية يستقبل وكيل وزارة الخارجية الفنلندية للخدمات الداخلية والخارجية    نائب أمير مكة يطّلع على استعدادات وخطط وزارة الحج والعمرة    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأمير سعود بن عبدالعزيز آل سعود    بحضور وزير الطاقة.. انطلاق أعمال ملتقى "إسكو السعودية 2024" في الرياض    المدرسة العالمية الفرنسية تنظم حفل ختام مشروع "الأهداف العلمية للتنمية المستدامة    "سعود بن مشعل" مع السفير الهندي    الأندية السعودية تتصدر التصنيف القاري    أمانة الشرقية تنفذ أكثر من 3700 جولة رقابية على المنشآت الغذائية والتجارية    الأمير سعود بن نهار يكرم الطلبة الموهوبين بتعليم المحافظة    مستشفى النعيرية العام يحتفي باليوم العالمي للتمريض    الخريف يلتقي رئيس جمعية تاروت    ندوة لتأمين الأحداث الرياضية    الهيئة العامة للطرق تُعلن عن 3 مراحل لتطبيق كود الطرق السعودي    مجلس الشورى يعقد جلسته العادية ال 33    البديوي يدين العمل الإجرامي الإسرائيلي بقصف مخيم للنازحين برفح    تعليم الطائف يدعو للتسجيل في خدمة النقل المدرسي للعام    صدور الموافقة الملكية الكريمة.. ماهر المعيقلي خطيباً ليوم عرفة    نائب أمير الشرقية يستقبل قائد قوة أمن المنشآت في المنطقة    عشرة آلاف زائر للمعرض الوطني القصيم    إدانة عربية ودولية واسعة لمجزرة الخيام برفح    جوازات ميناء جدة الإسلامي تستقبل أولى رحلات ضيوف الرحمن القادمين من السودان    الربيعة يُدشِّن باخرتين إغاثيتين للشعبين الفلسطيني والسوداني الشقيقين    السند: الرئاسة العامة وظفت التوعية الرقمية والوسائل التوعوية الذكية بمختلف اللغات    أنشيلوتي: نستمتع بالأيام التي تسبق نهائي دوري أبطال أوروبا    طريق وحيد للرياض وأبها للبقاء في "روشن"    المملكة تدين وتستنكر استهداف خيام النازحين الفلسطينيين في رفح    «الأرصاد»: السبت القادم أول أيام الصيف على مناطق المملكة    صالات خاصة لحجاج "طريق مكة" بمطاري جدة والمدينة    استمرار هطول أمطار على جازان وعسير والباحة    مشاريع تنموية ب14.7 مليار ريال في مكة    أكتوبر الأكثر إصدارا للتراخيص الاستثمارية    آل الشيخ يعزز التعاون مع البرلمانات العربية    كلاسيكو التحدي بين «الأصفرين».. والبطل على أعتاب «التاريخية»    المجفل سفيراً لخادم الحرمين لدى سورية    5 من أمراض المخ ترتبط بتغير المناخ    وزارة الإعلام تحتفي بطلاب وطالبات أكاديمية طويق ومدارس مسك الفائزين في معرض آيتكس 2024    فريق طبي بمستشفى عسير يُنقذ حياة أربعيني تعرّض لطلق ناري في الرقبة    رمز للابتكار وثراء التراث الثقافي السعودي.. "المكعب".. أيقونة عالمية في قلب الرياض    ولادة ثلاثة وعول في منطقة مشروع قمم السودة    وجهة الابتكار    كي تكتب.. عليك أن تجرِّب    الغربان تحصي نعيقها    الاحتلال يواصل قصف أحياء رفح    الزهراني يحتفل بزواج إبنيه محمد و معاذ    وصول أولى رحلات مبادرة طريق مكة من المغرب    حلقات تحفيظ جامع الشعلان تكرم 73حافظا    رابطة اللاعبين تزور نادي العروبة    "سناب شات" تضيف عدسات الواقع المعزز لكروم    12 ألف حاج تلقوا خدمات صحية في المدينة المنورة    عليهم مراجعة الطبيب المشرف على حالتهم.. «روشتة» لحماية المسنين من المشاكل الصحية في الحج    اكتشاف دبابير تحول الفيروسات إلى أسلحة بيولوجية    أفكار للتدوين في دفتر (اتحاد الإعلام الرياضي)    بيت الاتحاد يحتاج «ناظر»    أسرتا السليمان والزعابي تتلقيان التعازي في فقيدهما    أتعمية أم خجل.. يا «متنبي» ؟    الشغف    تعيين أول سفير سعودي لدى سوريا منذ 2012    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهوة القلب
نشر في الحياة يوم 20 - 04 - 1998

كل وجود انساني مسكون بالمفارقة. فالسنبلة تحني رأسها إذا نضجت، والقمر يبدأ رحلة النقص ما أن يكتمل، والحياة تغدو أكثر جمالاً حين يَهنُ البصر. وفي مصائر محمود درويش مفارقات كثيرة. في منتصف الأسبوع الثاني من شهر آذار مارس كرّمت جامعة لوفان البلجيكية الشاعر الكبير وأنعمت عليه ب "دكتوراه فخرية" جديدة. ولم تكن الجامعة البلجيكية تضيف إلى الشاعر جديداً، بقدر ما كانت تعلن ان الشاعر جدير بتكريم مستمر، وانه قائم في القضية التي دافع عنها وفوقها في آن. غير ان التكريم الذي لا جديد فيه فتح الباب لأسى قديم، وأخذ بيد الشاعر إلى مستشفى باريسي، أسلم قلبه لأصابع الطبيب، الذي يرمّم هشاشة الوجود الانساني بعذابات جديدة. ولعل في "الكابوس المنقذ" ما يعبّر عن مآل الشاعر وغربة القصيدة. فما أنقذ الشاعر الجميل كابوس، وما نقله من طور إلى آخر هو عذاب واضح البصمات. كأن الأسى جزء من قامة الشاعر، إن ابتعد بدا الشاعر من دونه ناقصاً. فقبل سنوات عالج درويش قلبه في فيينا، واليوم يداوي قلبه في "مدينة النور". ومن بيروت جاء إلى المدينة الأولى ومن عمّان جاء إلى المدينة الثانية، ومن لا مكان يلتقي بما شاء من العواصم، ولا يلتقي بفلسطين التي أراد. لا شيء ينتهي إلى ما أراد الشاعر أن ينتهي إليه، لأن النهاية المرغوبة انكسرت في منتصف الطريق، أو لأن الطريق المرغوب انهدمت ملامحه قبل بلوغ النهاية.
"بيروت خيمتنا الأخيرة" يقول الشاعر. وبيروت تظل في مكانها، تتأمل البحر ويغسلها المطر، تاركة الخيمة حيث شاءت لها العاصفة أن تكون. خيمة لا أوتاد لها، ضاقت بها السبل فاستقرت "خيمة فوق الرياح"، واستقر أهلها في لا مكان. ومحمود يصل إلى غزة ولا يصل: "وصلتُ ولم أصلْ"، يقول الشاعر أو "وجدت الأرض ولم أجدها". وفي الوصول الذي لا وصول فيه تتجسّد مفارقة القصيدة، التي تحاور الوطن وهي تلتحف الريح. وفي الأرض الحاضرة والغالبة في آن، تتكشّف مأساة الشعب المبعثر الذي توحّده القصيدة. لا شيء في مكانه، لا الوطن الذي كان، ولا قلب الشاعر الباحث عن الوطن، ولا المكان الذي ينقذ القلب بآهات جديدة. والقلبُ الشاعر يرى ما يريد تارة، ويرى ما يرى تارة أخرى، فتبصر العين "جدائل قمح تمشّطها الريح"، قبل أن تصوغ العين من دموعها ألف قوس قزح.
"زين كحمامة الأبراج خارج سربها" يقول محمود، ويقول أيضاً "أرى ما أريد من المسرح العبثي". ينتشر الحزن فوق مكان غادرته الأمكنة، وتركته فضاء سديمياً عابثاً، إن دخل إليه الفلسطيني فقد الساقين والأجنحة، وإن خرج عنه تاهت منه الطرق. لا شيء كما أراده الشاعر، ولا شيء كما اشتاقت إليه القصيدة، وكل ما احتفلت به الكلمات رحل قبل الأوان. وتبقى للشاعر كلماته يطاردها بشبكة القلب، فيعثر على الحجر الممطر في ساعة الرضا، ويلتقي بپ"الهندي الأخير" إن حاصره المساء.
ومحمود مع رؤاه، تحمله مسافة، ويحملها دهراً، يفتش في "لسان العرب" عن مفردة مفقودة، ويتأمل مكتبة يخرج منها القليل من المعاني، والكثير من أطياف الشهداء. ومحمود في عزلته الرسولية، يجول في بيت هو بالكهف وما هو بالكهف، ويسائل عمراً انقضى ويحتضن صوراً هاربة. ويسأل أوكتافيو باث بعض الأسئلة، فإن حصل على شيء من الإجابة وقف مذعوراً. فغربة الروح التي يصوغها درويش شعراً بعيدة عن الشاعر المكسيكي الذي يفتح نافذة على "عالم سيولد"، فيما يلقي الورود على عالم انقضى، ويكتب حزيناً عن خيوط التاريخ المتقطّعة، ووجوه العقل المتلاشية، وعن لوعة كبرى تطل عليه من المرآة وتغوص ثانية في الأعماق.
يصوغ شاعرنا "فلسطين المكتوبة"، ويلتقي بفلسطين أخرى مزقتها الريح. ويقارن بين ما كتب وما يرى ويسقط في المرارة، فيعود إلى الكتابة ويرى ما يريد أن يرى، على رغم الطريق الذي يفرّ من الطريق والحلم الذي خنقه الحلم والنهر المالح الذي لا ضفاف له. وبين زمن الكتابة وزمن فلسطين اليومي يقف محمود حاملاً قلبه وحالماً بما ينقذ القلب من ترحال جديد. وما يصل إليه المبدع الكبير يُرضي الشعر ولا يحمل إلى قلب الشاعر ما شاء من السكينة، فيصرخ متأسياً: "لم القصيدة يا أبي؟ إن الشتاء هو الشتاء"، وإنّ في القلب وجعاً لا دواء له، كأن عذوبة الشعر تتحلّل ان سقطت عليها دموع العين المالحة.
"إن الشتاء هو الشتاء"، شتاء تمتصه القصيدة ويورق في أغصانها ويظل شتاء لا يعرف الرحيل، لأن شتاء القصيدة مغاير لشتاء الفصول. شتاء يستحضر الزمن وتتكثّف لوعة الزمن فيه، وشتاء يدوم أبداً، على الرغم من خضرة الكلمات وملابس الشاعر الدافئة. والزمن هو لوعة الفقد بامتياز "كان ما سوف يكون"، وعلى الشاعر ان يقرأ كهولته في شباب القصيدة، وأن يتأمل أطياف العواصم في مساحته الضيقة، وأن يرى إلى الحجر الممطر الذي ما عاد كما كان، لأن "فلسطين الكتابة" انتظرت طويلاً قرينها الذي لم يصل. يقول بول فاليري: "هيا: إن كل شيء يهرب منا، والحضور مزراب، واليأس المقدّس يموت أيضاً". ومحمود لا يمتلك ترف فاليري، فيرمي بحجاره على تلك القرية الفارغة، أي الزمن، ويفتح قصيدته، يضع فيها ما ورثه من اللغة وما جمع من أطياف الأرض وما استقر في صدره من لهاث الذين رحلوا وما تعلّمه من جمالية الكتابة الكريمة، وما تركت له الأيام من "إرث الناي في الأيام".
"إن الشتاء هو الشتاء"، وإن كان بإمكان الشتاء أن يكون ذاكرة. ذاكرة شتائية تُدفئ من لم يفقد الذاكرة في هجير الصيف وصقيع الشتاء في آن. ذاكرة مليئة بالمفارقة، حالها حال الشاعر الفلسطيني الذي يصون الوطن في القصيدة كلما تفتت في أرجاء النهار، وحالها كحال محمود درويش الذي يعيش ثنائية النشوة والعذاب منذ زمن طويل. نشوة تأتي إليه وهو يمد الشعر الكبير بما يُبقيه شعراً كبيراً، لا تخدشه المواسم والأحوال العارضة، وعذاب يسقط عليه ثقيلاً، لأن فلسطين الحياة اليومية خذلت الموعد المتجدد مع "فلسطين الكتابة". عذاب يُسعِد الشاعر صباحاً وهو يحتسي وحيداً فنجان قهوته، فإن جاء المساء وضع العذاب قلبَ الشاعر في جيبه، ورمى به مجدداً إلى "خيمة فوق الرياح" .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.