من ميّزات الثقافة المأزومة، بحثها الدائم عن ضحيّة، عن كبش محرقة تحمّله آثامها وأوزار فشلها، وتجعله مسؤولاً عن مصائبها. ومن معالم الانحطاط غياب أي استعداد لدى النخبة المثقّفة لمواجهة الذات بصدق وجرأة وقسوة، وطرح الأسئلة الحقيقية، مهما كانت الاجابة عنها مؤلمة ومكلفة. كلّما دار النقاش حول انحسار الموسيقى الأصيلة، مثلاً، نجد أن السبب هو طغيان الأغاني الرديئة، والفنّ الاستهلاكي الرخيص. لكن نادراً ما يخطر ببال المدافعين عن الفنّ الحقيقي، أن يبدأوا بمحاكمة أنفسهم، باحثين عن بذور الأزمة في مسار الفنّ الراقي عينه : ماذا لو كان المبدعون الأحياء يعانون من قصور في أدواتهم؟ ماذا لو كانت الموسيقى الراقية تعيش حالة قطيعة مع العصر، مع الزمن وأحكامه، مع الناس؟ ماذا لو كان ممثلوها الأحياء أسرى نظرة متحفية إلى تراثهم الغني والعريق؟ ألا يجوز أن يكون غياب المبدعين الكبار، أو غياب التجارب المُجدِّدة، وراء انتشار الفنّ الهابط، وليس العكس؟ كلّها مجرّد فرضيّات تحتاج إلى دلائل وحجج وبراهين، وتتطلّب بحثاً مطوّلاً ومعمّقاً. لكن طرحها هو بداية التعامل مع الواقع من خارج البديهيات والمسلّمات والتحليلات الرائجة. ولو نظرنا إلى الصراعات السطحية الدائرة حول "الأصالة والمعاصرة"، لوقعنا على سوء التفاهم نفسه، ولاصطدمنا مرّة أخرى بظاهرة وضع العربة أمام الجياد! فالثقافة العربية، حسب كثيرين، معرّضة للخطر الخارجي، تواجه "امبريالية" النموذج الغربي، وهذا ما يعيق نموّها وتفتّحها وتطوّرها. ونادراً ما نبحث في ثقافتنا نفسها عن نقاط الضعف وعناصر الأزمة. ما هي أسباب التقوقع والانغلاق؟ ما سرّ هذه النزعة إلى رفض أيّ انفتاح على الثقافات الأخرى والتفاعل معها؟ والتفاعل مع هذه الثقافات يفترض التأثير فيها - كما كان الأمر أيام الفارابي وابن سينا وابن رشد - أو التأثر بها من دون عقد ومركّبات نقص، حسب جدليّة هي في أساس قوانين الصيرورة، وتطوّر الحضارة. ولو فتحنا ملفّ الشعر، فسنجد النزعة الانهزامية نفسها في الحملات التي تخاض ضدّ قصيدة النثر. هل باتت قصيدة النثر هي كبش محرقة الشعر العربي الحديث؟ من كلّ حدب وصوب ترتفع أصوات شعراء مكرّسين لتدين هذا المنحى الشعري، وترى في تلك المدرسة تجسيداً لكلّ معالم الانحطاط الذي يحاصر الشعر العربي المعاصر. هنا أيضاً، إذا كان عدد قرّاء الشعر تضاءل، فالذنب على ما يبدو ذنب الذين يكتبون قصيدة النثر. وإذا كانت القصيدة الحديثة محاصرة بالسهولة والاسفاف الجمالي، تتخبّط في زنزانة اللغة أو تتوه فوق شعاب التعبير، عاجزة عن الوصول إلى القارئ، عن جذبه وإغوائه وامتاعه، فمردّ ذلك - كما فهمنا - إلى شيوع نوع شعري معيّن ومساهمته في تكريس القطيعة بين الشاعر والمتلقّي. أما شعراء المنابر وأبطال الغنائية السهلة، ودعاة الشعر الهادف الذين يثيرون الضجّة ب "موضوع" قصيدتهم، وسائر محترفي النظم والايقاعات الرائجة والقوافي السهلة، فلا شك أنّهم يمضون في بذل ما بوسعهم من أجل انقاذ الشعر من براثن الانحطاط... في انتظار أن تتوصّل الثقافة العربية يوماً إلى هضم "الحداثة" واستيعابها!