نائب وزير الخارجية يلتقي نائب وزير خارجية أذربيجان    «التجارة» ترصد 67 مخالفة يومياً في الأسواق    وزير الطاقة: 14 مليار دولار حجم الاستثمارات بين السعودية وأوزبكستان    سعودية من «التلعثم» إلى الأفضل في مسابقة آبل العالمية    «الاحتفال الاستفزازي»    فصول ما فيها أحد!    أحدهما انضم للقاعدة والآخر ارتكب أفعالاً مجرمة.. القتل لإرهابيين خانا الوطن    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    في دور نصف نهائي كأس وزارة الرياضة لكرة السلة .. الهلال يتفوق على النصر    لجنة شورية تجتمع مع عضو و رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    الجوازات تبدأ إصدار تصاريح دخول العاصمة المقدسة إلكترونيًا للمقيمين العاملين    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    شَرَف المتسترين في خطر !    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    الرياض يتعادل إيجابياً مع الفتح في دوري روشن    مقتل 48 شخصاً إثر انهيار طريق سريع في جنوب الصين    تشيلسي يهزم توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لدوري الأبطال    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية ويشهد تخريج الدفعة (103)    ليفركوزن يسقط روما بعقر داره ويقترب من نهائي الدوري الأوروبي    كيف تصبح مفكراً في سبع دقائق؟    قصة القضاء والقدر    تعددت الأوساط والرقص واحد    كيفية «حلب» الحبيب !    يهود لا يعترفون بإسرائيل !    اعتصامات الطلاب الغربيين فرصة لن تعوّض    من المريض إلى المراجع    رحلة نجاح مستمرة    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    الحزم يتعادل سلبياً مع الأخدود في دوري روشن    « أنت مخلوع »..!    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    القبض على فلسطيني ومواطن في جدة لترويجهما مادة الحشيش المخدر    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    الذهب يستقر برغم توقعات ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية    محافظ بلقرن يرعى اختتام فعاليات مبادرة أجاويد2    تألق سانشو لم يفاجيء مدرب دورتموند أمام سان جيرمان    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    المملكة: الاستخدام المفرط ل"الفيتو" فاقم الكارثة بفلسطين    "شرح الوصية الصغرى لابن تيمية".. دورة علمية تنفذها إسلامية جازان في المسارحة والحُرّث وجزر فرسان    منتدى المياه يوصي بزيادة الاستثمار في السدود    للتعريف بالمعيار الوطني للتطوع المدرسي بتعليم عسير    هاكاثون "هندس" يطرح حلولاً للمشي اثناء النوم وجهاز مساعد يفصل الإشارات القلبية    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "التحصينات"    السعودية تدعو لتوحيد الجهود العربية لمواجهة التحديات البيئية التي تمر بها المنطقة والعالم    "التخصصي" العلامة التجارية الصحية الأعلى قيمة في السعودية والشرق الأوسط    انعقاد أعمال المنتدى العالمي السادس للحوار بين الثقافات والمؤتمر البرلماني المصاحب في أذربيجان    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    ما أصبر هؤلاء    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    هكذا تكون التربية    أشاد بدعم القيادة للتكافل والسلام.. أمير نجران يلتقي وفد الهلال الأحمر و"عطايا الخير"    إنستغرام تشعل المنافسة ب «الورقة الصغيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية الأخوين رحباني على لسان منصور رحباني . شمعون للرحبانيين بعد موافقته على اشتراكهما في المهرجانات : اما "النيشان" أو "النيشنة" 5
نشر في الحياة يوم 13 - 12 - 1993

فيروز تقاضت ليرة لبنانية واحدة على أول مهرجان في بعلبك
الضابط الذي قام بالانقلاب على الوحدة في دمشق كان يستمع الى أغنية "سائليني"
روى منصور في الحلقة الرابعة كيف فتحت أمام الأخوين رحباني أبواب الاذاعة اللبنانية التي كان فيها اللقاء الأول مع الصبية نهاد "ذات الصوت الخارق"، والتي ستصبح في ما بعد المطربة فيروز ثم زوجة عاصي. وكيف دخلا اذاعة الشرق الأدنى فاذاعة دمشق.
وفي هذه الحلقة يروي منصور قصة انتقالهما من الاذاعات الى المهرجانات السنوية في بعلبك، والأرز، وقصر البيكاديلي في بيروت، وفي دمشق.
بعد تكاثر أعمالنا الاذاعية وتوسع شهرتنا وانتظار الجمهور أعمالنا الجديدة، فكرنا، عاصي وأنا، باقامة حفلات على مستوى أوسع، وتنظيم أعمالنا الادارية في هيكلية قد تكون فرقة أو مؤسسة أو أي اطار آخر طلبنا من صبري الشريف أن يديره، اضافة الى مسؤوليته في "شركة التسجيلات اللبنانية" وقد بات مديراً لها.
في تلك الفترة بالذات، استدعينا في ربيع 1957 للاجتماع بلجنة مهرجانات بعلبك. وكانت تلك المهرجانات مقتصرة على عروض أجنبية تقدمها فرق عالمية بين مسرح وباليه وأوبرا. في تلك السنة قررت السيدة زلفا شمعون أن تدخل الى المهرجانات ليالي لبنانية.
كان الاجتماع في مكتب حبيب أبو شهلا بحضور سيدات اللجنة. وهؤلاء كنّ على غير تصور واضح لما يرغبن في تقديمه، بل حتى غير متحمسات لفكرة الليالي اللبنانية لشعورهنَّ بأنها ستكون أضعف شأناً من الليالي الأجنبية ذات الفرق العالمية. غير أنهن رضخن لفكرة السيدة الأولى وحضرن الاجتماع.
بدأن بتحذيرنا من التطويل التطريبي العربي الذي "ينفر منه جمهورنا بعدما اعتاد الأعمال الأجنبية في بعلبك". طمأنّاهنّ بأن التطويل ليس من مبادئنا الفنية، وعليهن أن ينتظرن تصميمنا لتلك الليالي قبل أن يحكمن عليها سلفاً بتلك النظرة الفوقية البورجوازية المترفعة. سألننا: "من سيغني في حفلتكم"؟ فقلنا لهن: "فيروز". فصرخن استهجاناً: "لا، أبداً. ستغني وتطيل وتنوح وتروح تمزق المنديل في يدها". ففهمنا أنهن لا يعرفن فيروز ولا ما تغنيه فيروز. ثم فرضن علينا ترتيباً أحضرنه سلفاً: عاصي ومنصور الرحباني للكتابة والتلحين، توفيق الباشا لقيادة الأوركسترا، محيي الدين سلام ومحمد شامل للإخراج والاشراف الفني. فاعتذرنا لهذا التقسيم وقلنا لهن إن هذا الأمر يعنينا نحن ويتخطى إطارهن، وأن التنظيم نضعه نحن ونعرضه عليهن. وطلبنا مهلة لوضع الخطوط العريضة للسيناريو ثم نجتمع ثانية. وافقن على مضض، وانتهى الاجتماع بتلك النظرة المتعالية التي ترى أنها هي على صواب وكل ما عداها على خطأ.
المهرجان الأول
أخذنا بضعة أيام ووضعنا برنامجاً منوعاً بعنوان "أيام الحصاد" يتصل بعضه ببعض بخيط جامع. عدنا للاجتماع بالسيدات وفرض عليهن عاصي التنظيم التالي: فيروز للغناء، صبري الشريف للإخراج. وقبل أن يهلعن من كثرة المصاريف أردف عاصي: "توقّع فيروز عقداً بليرة لبنانية واحدة، وكذلك صبري الشريف بالمبلغ نفسه". ثم أردف: "محمد شامل ومحيي سلام مسؤولان إداريان. توفيق الباشا قائد أوركسترا. نزار ميقاتي معاون صبري الشريف في الإخراج. زكي ناصيف للمشاركة في التأليف والتلحين. مروان ووديعة جرار للرقص".
انتهى الاجتماع الثاني على أساس أن يتم الاتصال بنا لاحقاً. وبعد أيام، استدعينا الى القصر الجمهوري في القنطاري واجتمعنا برئيس الجمهورية كميل شمعون الذي بادرنا بقوله: "وافقنا على حفلتكم. نفذوها، ونحن ننيشنكم أو ننيشنكم". الأولى: أي نعلق لكم نيشاناً، أي وساماً، والأخيرة: أي نعدمكم.
جاءت ليلة الافتتاح ولا تدري واحدة من سيدات اللجنة ماذا سيدور في الحفلة. وهي كانت من منوعات شارك بها زكي ناصيف بمقطوعات منها: "طلوا حبابنا طلوا" و"صبّحنا بفجر العيد"، وقاد أوركستراها توفيق الباشا. وفي مستهل اللوحة الأولى وضع المخرج صبري الشريف فيروز على قاعدة عمود وسلّط عليها الأضواء من أسفل العمود ومن زوايا مختلفة، فظهرت للجمهور كأنها طائرة في الهواء وهي تغني "لبنان يا أخضر حلو". كان المشهد الأول صاعقاً في استقبال الجمهور له، واشتعل التصفيق في موجة كانت بين التأثر والبكاء والغبطة. ودارت الأمسية كلها أمام جمهور متجاوب جداً. قدمنا الحفلة لليلتين فقط، كما المقرر كل ليلة نحو خمسة آلاف مشاهد جاؤوا يعاينون ما سيقدم لبنان بين العروض الأجنبية.
وصدرت الصحافة بتعليقات مشرّفة، أسعدنا أنها كانت واعية ما نقوم به. فقبلنا كان الحب سريع العطب، وكانت أدوات الشعر الغنائي بائسة. جئنا نحن فعدنا الى الينابيع، لأن الفن الحقيقي هو صراخ الأعماق. وقبلنا كان الغناء في المنطقة المحيطة حزيناً بينما في أودية لبنان كانت تتردد أصداء المواويل والعتابا وأبو الزلف والميجانا. كنا واعين أن تأسيس موسيقى لبنانية هاجس تحلم به أرضنا، فإذا به يأتي آخذاً من التقاليد أصالتها، ومن العصر تطوره، ومن السرعة كثافتها، ومن الجمال شحنته المكهربة الوجيزة.
وركزت الصحافة اللبنانية على ضرورة تكرار هذه الليالي اللبنانية في مهرجانات بعلبك. لكن المهرجانات كلها لم تحصل في العام التالي 1958 بسبب الأحداث التي شهدها لبنان ذلك العام.
وفي العام 1959 استدعينا من جديد الى لجنة مهرجانات بعلبك، فاستقبلتنا سيداتها بمنطق آخر ونظرة أخرى. جئن الى الاجتماع لكي يسمعن ماذا عندنا لا ليفرضن علينا أي مشروع. هكذا هيأنا برنامجاً من فصلين: الأول كان معقود اللواء لأصدقائنا محمد محسن، زكي ناصيف وتوفيق الباشا، فقدموا أغاني جميلة وألحاناً جميلة، وقاد الأوركسترا توفيق الباشا. أما الفصل الثاني فوضعناه نحن بعنوان "محاكمة" مع فيروز ووديع الصافي، يروي قصة سرقة عنزة وما استتبع ذلك من أحداث طريفة ومفارقات جرت للعنزة على خشبة المسرح خلال تقديم العرض.
عاصي يبيع سيارته بسبب العنزة
والطريف هنا أن تلك العنزة سببت مفارقات أخرى حتى خارج المسرح، وأدت بي الى بيع سيارتي الجديدة من نوع "أوبل كابيتان". ففي طريقي الى بعلبك مررت على جرود عينطورة حيث اشتريت تلك العنزة ووضعتها في صندوق السيارة وأخذتها الى القلعة. ولم تعد تزول رائحة تلك العنزة من السيارة حتى لم يعد أحد يركب فيها. بقيت أشهراً والرائحة الكريهة في السيارة رغم جميع المنظفات ومزيلات الروائح. في النهاية بعت السيارة آسفاً عليها لأنها كانت أول سيارة جديدة أشتريها في حياتي.
نجحت الليالي اللبنانية عامئذ بشكل لافت، وصدرت عنها أغان لا تزال مشهورة حتى اليوم، مثل "يا قمر أنا واياك"، "ما في حدا"، "أنا وهالبير"، "يا تلال صنوبر".
في هذه الفترة كانت أعمالنا تذاع من اذاعة دمشق الى كل العالم العربي، وتثير جدلاً كعادتها في أول المطالع. ولم تكن بعد قد هدأت تلك الضجة التي أقامها المجمع العلمي العربي في دمشق من أننا نشوّه اللغة العربية، ولا تلك التي قامت في مجلس النواب السوري حول أغنية "سنرجع يوماً الى حيِّنا"، وما كان من موقف فخري البارودي إزاءها، ولهذه قصة طريفة.
بين التراث والدخيل
كان فخري البارودي نائباً وزعيماً سورياً، وذا اطلاع عميق على التراث الغنائي العربي عامة والموشحات بنوع خاص. وكان اعتراضه، في "سنرجع يوماً الى حيّنا"، على أننا لم نطل المد اللحني على حرف الألف في كلمة "هنالك" من بيت "هنالك عند التلال تلال/ تنام وتصحو على عهدنا". وادعى أننا نشوه اللفظ العربي وبالتالي اللغة العربية. وأثار الموضوع في مجلس النواب، لكن أكثرية النواب انتصرت لنا، فقبلها فخري البارودي على مضض. لكنه لم يسكت، بل أخذ في مجالسه الخاصة والعامة يغمز من قناة أحمد عسة مدير الاذاعة بأن هذا يذيع أغاني "المدرسة الرحبانية الهجينة التي تفسد الطرب الأصيل وتعتدي على مدرسة اللون القديم، بصوت المطربة فيروز التي لا تصلح إلا لتلك الأغاني الهجينة".
وتصدف في احدى المناسبات الرسمية أن التقى فخري البارودي بأحمد عسة وجهاً لوجه، فقال البارودي بلهجة متعالية: "لساك يا أحمد بدَّك تضل تذيعلنا هاللون الرحباني الدخيل؟ مش ناوي تتوب بقى وترجع لمدرستنا الأصيلة؟". وفتقت الفكرة لأحمد عسة أن يواجه الأمر بحنكة الديبلوماسي لا بعنترية الزعيم السياسي، فأجاب فوراً: "معك حق يا فخري بك. كانت تلك غلطة وأنا كنت أنتظر لحظة كهذه أراك فيها لأخبرك أنني عثرت على فتاة دمشقية رائعة الصوت، هي أفضل من يحيي الموشح والموال والدور القديم واللون التراثي الذي تحبه ونحبه كلنا. أحب أن تستمع اليها لتعطيني رأيك فيها".
في اليوم التالي كان فخري البارودي في أحد استديوهات الاذاعة. وكان عسة أعطى تعليماته أن يدير مهندس الصوت، خفية، آلة تسجيل خاصة، فيما يدير شريط "الى راعية":
"سوقي القطيع الى المراعي وامضي الى خضر البقاع
سمراء... يا أنشودة ال غابات يا حلم المراعي"
وإذا بالبارودي يهز رأسه طرباً طوال دوران الشريط، حتى اذا انتهت الأغنية هتف عالياً: "إي هادا صوت وهيدا غنا وهادا طرب وهادي ريحة الشام عبر التاريخ. مش متل هاديك الفيروز اللي جنابك حامل صوتها وداير فيها وبتذيعها كل يوم من اذاعتنا بالشام".
وبكل هدوء، قال عسة: "يا فخري بك، شكراً لرأيك. ولكنني أود أن ألفتك أولاً الى أن حديثك كله هذا مسجل ورأيك في هذا الصوت بات عندنا بصوتك". فقال البارودي: "طبعاً. وأنا أعني ما أقول". فابتسم عسة وقال: "ولكن هذا الصوت يا فخري بك هو نفسه صوت فيروز الذي يزعجك وتثور ثائرتك عليه. وهذه الموسيقى التي أحببتها هي لعاصي ومنصور الرحباني اللذين تجد موسيقاهما دخيلة". فذهل البارودي وقال: "شو هالحكي"؟، فقال عسة: "نعم. هذه هي الحقيقة. وإذا استمررت في حملتك علينا وعلى الاذاعة وعلى فيروز والأخوين رحباني سأضطر الى اذاعة هذا الشريط على الناس".
ومنذ تلك الحادثة بات فخري البارودي من أشد المتحمسين لموسيقانا وأغانينا وصوت فيروز، وكانت صرخات آهاته تتردد نافرة من بين كل الجمهور خلال حفلاتنا الدمشقية اللاحقة.
معرض دمشق الدولي
وسط هذه الضجة معنا وضدَّنا، ووسط ما كنا متوجين به من نجاح في بعلبك، جاءنا الصديق الصحافي هشام أبو ظهر، وكان من كبار محرري "الصياد"، وطلب منا أن نرافقه للتعرف بمدير معرض دمشق الدولي فيصل الدالاتي. ففعلنا. وهناك عرض علينا الدالاتي تقديم عمل لنا لمناسبة افتتاح ظاهرة جديدة في سورية: "معرض دمشق الدولي". ورجعنا من دمشق يومئذ وفي جيبنا عقد بمباشرة التحضير. فهيأنا برنامجاً منوعاً فور انتهائنا من تقديم مهرجانات بعلبك.
ليلة الافتتاح كما كتبت الصحافة السورية بعدئذ ارتفع الستار في دمشق لأول مرة على مسرح يضم فرقة ضخمة بلباس أندلسي. ثم خرج صوت صوتي المسجل يقول:
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس
وانطلقت الفرقة بعدها بموشح "لما بدا يتثنى"، واشتعل فيه صوت فيروز جمالاً وتألقاً فإذا القاعة تنفجر تصفيقاً نحو ثلاث دقائق وقوفاً، والدمع ينحدر من مآقي الدمشقيين الذين شعروا أننا نعيد اليهم تراثهم العربي وكان مغيَّباً في النسيان. وفي الصف الأول من ذلك الجمهور كان الزعيم فخري البارودي.
من الأغنيات التي قدمناها في دمشق ذلك العام: "يا قمر أنا واياك"، "ما في حدا" وسواهما، اضافة الى لوحات كاملة من الموشحات الأندلسية. استقبلنا الجمهور الدمشقي بحفاوة رائعة، وحضنتنا الصحافة السورية بشكل حماسي مشرِّف.
الانقلاب على الوحدة
على أنني لا يمكن حتى هذه اللحظة أن أنسى ما فعلته في الناس ليلتها قصيدة "سائليني" لسعيد عقل، وقد افتتحنا بها البرنامج:
سائليني حين عطرت السلام كيف غار الورد واعتلّ الخزام
وأنا لو رحت أسترضي الشذا لانثنى لبنان عطراً يا شآم
فحين وصلت فيروز الى مقطع:
أمويون فإن ضقت بهم ألحقوا الدنيا ببستان هشام
هبت عاصفة غير عادية من التصفيق. وكانت سورية يومئذ في وحدة مع مصر. فالتفت اليَّ فيلمون وهبي في الكواليس قائلاً: "بدو يصير انقلاب بالشام". وبعد فترة، بالفعل، حصل انقلاب وانتهت الوحدة بين البلدين. وقد روى لنا أحد الضباط في ما بعد أن الضابط الكبير الذي قام بالانقلاب كان يجتمع برفاقه ويسمعون "سائليني" فتنشحن نفوسهم بحب سورية مستقلة عن مصر، حتى كان الانقلاب.
تجربة دمشق كانت مغايرة تماماً. تجاوب الجمهور معنا بشكل مؤثر. كنا نسمع تصاعد الآهات عالية خلال الغناء من جمهور ذواقة رهيف التلقي يشجع الفنان بإعطائه دفعاً أكثر. كانت مشاركة مهمة. ونحن نرى في فننا الشرقي بقايا من الحضارة الاغريقية حين كان الفن مشاركة لا تفرجاً. وكان ذاك الصيف 1959 مفصلاً فعلياً في استدعائنا الى اقامة المهرجانات في السنوات التالية.
وفي العام 1960 وقع فتور بيننا وبين أصدقائنا توفيق الباشا وزكي ناصيف والآخرين، فقاموا هم بمهرجانات "الأنوار" فيما قدمنا نحن في بعلبك مسرحية "موسم العز" مع صباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين. كان معنا على المسرح سبعة موسيقيين بعدما كانت الفرقة في 1959 أمام المسرح في بقعة منخفضة خاصة. قدمنا سبع ليال كانت جميعها حاشدة. ومع هذا العمل تحدد إطار المسرحية الغنائية الرحبانية: قصة واحدة في فصلين، وهو الشكل الذي تبلور حتى أخذ شكله النهائي في أعمالنا اللاحقة. وهذه المسرحية، لا أزال أسمعها باستمرار تذاع من الاذاعات اللبنانية والعربية حتى اليوم.
ليس من الفولكلور
عام 1961 قدمنا "البعلبكية". وحين قرأناها للجنة "سيدات مهرجانات بعلبك"، اعترضن بأن "هذا ليس من الفولكلور، ونحن نريد الفولكلور اللبناني بالرقص والدبكة والشروال وما اليها". فأجاب عاصي بأن الميثولوجيا فولكلور. وكان ذلك في اللوحة الأولى. حين قدمناها في بعلبك كان التجاوب مذهلاً، لأنها كانت قطعة جديدة بكتابتها الموسيقية وتوزيعها الموسيقي المبتكر الضخم. وأذكر أننا، حين قدمناها خارج لبنان كان النقاد يجدونها متفردة في نوعها. وفي رحلتنا الى البرازيل التقينا في الطائرة بالناقد الألماني شتوكن شميت وكان حضر اللوحة الأولى في بعلبك وكتب عنها نقداً في ألمانيا بأنها من الأعمال العالمية. وقال عنها النقاد البرازيليون انها "قطعة رائعة تنتمي الى الحداثة وتحتفظ بالانسانية" وفي لندن شبهها النقاد الانكليز بأعمال "ايلغار". ولا يزال الناس يسمعونها، بعد اثنتين وثلاثين سنة، ويجدون فيها جديداً لم يبلغه أحد بعد.
عام 1962، بعد "جسر القمر" في بعلبك ودمشق، قدمنا على مسرح سينما الكابيتول مغناة "عودة العسكر" فكانت صرخة لبنانية من الأعماق للجيش اللبناني والدفاع عن الوطن، ولا تزال حتى اليوم تذاع كاملة أو مقاطع أغنيات لشحن النفوس بالروح الوطنية اللبنانية.
عام 1963 قدمنا على مسرح كازينو لبنان مغناة "الليل والقنديل" فكان نجاحها كبيراً لما جاءت به من خيالات شحنت رؤية المشاهد بعوالم جديدة.
وأخذت برامجنا السنوية تتوالى تلقائية في بعلبك ودمشق. أحياناً نعطي البرنامج نفسه في المكانين، وأحياناً نعطي في دمشق برنامجاً منوعاً خاصاً.
وفي دمشق، درجنا على عادة أن نقدم قصيدة في مطلع كل برنامج تحية الى دمشق. فبعد "سائليني" لسعيد عقل، قدمنا "شآم يا السيف لم يغب" لسعيد عقل، و"لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا" لنزار قباني، ووضعنا نحن "طالت نوى" و"يا شام عاد الصيف" و"حملت بيروت في قلبي وفي نغمي".
واستمرت مهرجانات بعلبك تقطف جمهوراً متزايداً: "جسر القمر"، "دواليب الهوا"، "أيام فخرالدين"، "جبال الصوان"، "ناطورة المفاتيح"، "قصيدة حب"...
ذات يوم من 1964، وكانت بعلبك ستشهد برنامج "مهرجانات الأنوار"، اتصل بنا مسؤولون عن مهرجانات الأرز وطلبوا منا تقديم برنامج على غرار برامج مهرجاناتنا الأخرى، فاتفقنا معهم على تقديم "بياع الخواتم" وكانت تجربة جديدة بتقديم مسرحية مغناة من أولها الى آخرها. وأتذكر أن الجمهور بلغ عشرة آلاف نسمة في الليلة الأولى وأحد عشر ألفاً في الليلة الثانية، وكانت تلك ظاهرة فريدة.
عام 1965، بعد "دواليب الهوا" مع صباح في بعلبك، قدمنا أغنيات مع فيروز وفرقة كورس في قصر بيت الدين، فلقيت نجاحاً كبيراً ولحق بنا الناس من بعلبك الى بيت الدين.
هذا الازدياد في جمهورنا ونجاحنا فرض علينا مزيداً من التعب والعمل لتلبية الدعوات التي باتت تأتينا من كل صوب. كان علينا أن نعمل أكثر. أن نكتب ونلحن ونوزع في "ورشة" عمل كان صبري الشريف يتولى ادارتها الفنية، وكنا عاصي وأنا ننصرف الى تغذيتها بالمادة الشعرية واللحنية.
مسرح البيكاديلي
عام 1967، عرض علينا الأخوان عيتاني تقديم عمل للخريف والشتاء كل عام على مسرح قصر البيكاديلي. فكنا نهيئ برنامجاً في الصيف لبعلبك أو الأرز وبرنامجاً آخر لدمشق، ثم لبيروت مسرحية تقدم على مسرح البيكاديلي بضعة أشهر متواصلة، حتى خيل للبعض أننا نملك أسهماً في صالة البيكاديلي. انطلقت تلك المرحلة من "هالة والملك" التي تألقت فيها فيروز ممثلة من طراز فريد، فأضافت الى موهبتها الغنائية الخارقة موهبة التمثيل المذهل. كل هذا الحشد من الأعمال جعل مكتبنا يتحول الى ورشة عمل متواصلة.
كنا استأجرنا نحو عام 1963 مكتباً في طابق عال من بناية أبتور في بدارو في بيروت نكتب فيه ونلحن. لكنه ضاق علينا بعد تأليف "الفرقة الشعبية اللبنانية" التي تولى صبري الشريف إدارة شؤونها الى جانب توليه الاخراج في أعمالنا المسرحية والاشراف الفني على الأعمال التلفزيونية. بعد ذاك نقلنا الى مكتب آخر في حرش الكفوري بدارو هو الذي لا يزال حتى اليوم مكتبنا منذ ثلاثين عاماً.
على أن المكتب لم يكن المكان الوحيد للعمل والانتاج. كنا أحياناً نكتب في بيت عاصي أو في بيت أم عاصي أنطلياس وهو تحول خلال الحرب الى مكتب دائم حين كان يتعذر علينا الوصول الى بدارو. فعملنا التأليفي والتلحيني لم يكن ذا قاعدة معينة في الوضع. نادراً ما وضعنا عملاً كتبناه معاً "عودة العسكر" مثلاً. كنا نلجأ الى هذه الطريقة حين يدهمنا الوقت أو نكون على عجلة من أمرنا.
في الأغاني، قد يحدث أن يكتب عاصي أغنية ويلحنها ويوزعها ثم يسمعني إياها فنتناقش بها. أو أقوم أنا بالتأليف والتلحين والتوزيع وأسمعه فيوافق. وقد يحدث أن يكتب هو القصيدة وألحنها أنا، أو يكتب هو الشعر وأنا ألحن، ثم نوزع بحسب انشغالنا في العمل. لم تكن لذلك قاعدة. لكن التوقيع كان دائماً يصدر باسم "الأخوين رحباني".
العمل متداخل والتوقيع باسم الأخوين رحباني
في المسرحيات، كنا نجتمع لنوجد الموضوع، أو لنتفق على أسماء الشخصيات كنا نحرص على إيجاد أسماء قابلة للحياة تقف على أرض الواقع دون أية رموز أو دلالات، أو لنطور فكرة كنا تناقشنا بها يكون أحدنا أوجدها. نجلس معاً كي نوجد ما نسميه المناخ العام ثم نطور الخطوط العريضة والمسار الدرامي، ونحرص على وضع المشاهدين في جو المسرحية من الدقائق الخمس الأولى. كنا نعرف أننا إن لم نربح جمهورنا في هذه الدقائق الخمس الأولى فلن نستطيع أن نمسكه حتى آخر المسرحية. بعدها يبدأ أحدنا يكتب الجزء الأول فيما الآخر يكتب الجزء الآخر، ثم نتبادل قراءة ما كتبنا، فأعود أنا وأكتب القسم الذي كتبه عاصي، فيما يعيد هو من وجهة نظره كتابة القسم الذي كتبته أنا. وأحياناً يقلب أو يلغي.
وأحياناً يتغير كل التصميم الذي نكون وضعناه، لأن كتابة المسرح الحقيقية أن تتبع الأشخاص من جراء الأحداث التي تجري لهم فتروح تتفجر مواقفهم وتتعدل اتجاهاتهم. كنا نعي بأن للشخص على المسرح استقلاليته وهو ليس مجرد ناقل لكلام المؤلف. وغير مرة غيرنا الخاتمة تماماً عما كنا صممناها، لأن مسار المسرحية كله يكون قد تغير. هكذا كنا نتبادل ما كتب أحدنا، ونعدِّل حتى نجلس في النهاية معاً نعيد الكتابة مرة واثنتين وثلاثاً، ونقرأ ونعيد الكتابة حتى تؤول المسرحية وليس معروفاً من كتب ماذا.
وهذا الكلام يصح كذلك على الموسيقى. أحياناً كنا نلحن معاً. يجلس أحدنا على البيانو ويستمع الآخر مناقشاً أو مبدياً رأيه. أحياناً كنا نختلف حول كلمة أو جملة موسيقية فنوقف العمل يوماً أو يومين حتى نصل الى حل أو نستشير أحد الأصدقاء في الأمر فنأخذ برأيه. من طريف ما أذكر هنا أننا في مطالعنا حين كنا نختلف على أمر فني من هذا النوع تتدخل جدتي غيتا فتحسم الأمر صارخة في وجهي: "اسكت ولاه. أخوك أكبر منك، وهو دائماً على حق".
كان تلحيننا إجمالاً يتم بكتابة النوطة لا بعزفها، لأنك حين تلحن عزفاً قد تأخذك أصابعك الى نغمة لا تريدها أنت، فتصبح أسير هذه النغمة الجديدة. لذا كنا نلحن كتابة ونجرب النغمة على البيانو أحياناً. وهذه الطريقة اكتسبناها من دروس الأستاذ برتران روبيار الذي بقينا ندرس عليه تسع سنوات متواصلة حتى أنه كان في السنوات الأخيرة يأتي الى المكتب ويعطينا الدروس فيه. وكنا نسمعه أعمالنا فيفرح بها جداً، ويعترف لنا بأننا تطورنا أكثر من حجم الدروس التي أعطانا إياها، لأنه هو مدرسي كلاسيكي غير خلاق كان مجرد عازف أرغن لدى الكبوشيين وأستاذ الرياضيات لدى راهبات اليسوعية وكنا نحن ابتعدنا صوب الأعمال الإبداعية.
هذه الأعمال التي أطلقناها وراء ميكروفونات الاذاعات وعلى خشبات المسارح، شعرنا عاصي وأنا أن الوقت حان كي نطلقها ونطلق سواها أمام عدسة الكاميرا".
الحلقة المقبلة: أعمال السينما والتلفزيون
من شعر الأخوين رحباني
لملمتُ ذكرى لقاء الأمس بالهدبِ
ورحتُ أحضنها في الخافق التعبِ
أيدٍ تلوِّح من غيبٍ وتغمرني
بالدفء، بالضوء، بالأقمار، بالشُهُبِ
ما للعصافير تدنو ثم تسألني
أهملتِ شعركِ راحت عقدة القصبِ؟
رفوفها... وفضولٌ في تَلَفُّتِها
تثير بي نحوها بعضاً من العتبِ
حيرى أنا يا أنا والعين شاردةٌ
ابكي وأضحك في ِسرّي بلا سبببِ
أهواه؟ من قال، إني ما ابتسمتُ لهُ
دنا... فعانقَني شوقٌ الى الهربِ
نسيتُ من يده أن استردَّ يدي
طال السلامُ وطالتْ رفةُ الهدبِ
حيرى أنا يا أنا أنهدُّ متعَبَةً
خلف الستائر في إعياء مرتقِبِ
أهْوَ الهوى؟! يا هلا إن جاء زائرنا
يا عطرُ خَيّمْ على الشبّاك وانسكِبِ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.