هذا زمن موحش حقاً. ينشأ في العالم نظام واحد تسيطر عليه قوة لا تضاهى تفرض ارادتها وتخطط لمستقبل لا تنازعها فيه اية قوة اخرى. وفي فرضها لارادتها وتخطيطها للمستقبل، تنطلق هذه القوة من قاعدة مصلحتها القومية ونظرتها للأمور والحياة من زاوية السوق التجارية الحرة فحسب، وهي، اضافة لتجاهلها وعدم احترامها لمصالح الآخرين وحقوقهم، مستعدة لممارسة العنف مهما كان بشعاً ضد كل من يتحداها ويقاوم مشاريعها او يريد فقط ان يخرج عن مدارها. وفي نظرتها العامة للأمور تسود ثقافة الاستهلاك فينصب الاهتمام على اشباع حاجات ثانوية تصبح مع الوقت حاجات اساسية وضرورية ويصبح الاقتناء قيمة بحد ذاتها وتتحرر الفردية من اية التزامات لا تنسجم معها وتنبع منها. وفيما تسيطر الثقافة الاستهلاكية ويتحول العالم تدريجياً الى قرية، بجد الانسان نفسه يخرج عن مداره الخاص ويعايش شراسة الواقع على هامش الوجود، تتراكم الاشياء والامور حوله، ويطارد احلامه كما لو انه يطارد ظله، ويشعر وسط الحركة الدائبة بفراغ في عمق اعماقه. يطارد ظله، ويشعر وسط الحركة الدائبة بفراغ في عمق اعماقه. يطارد اهدافاً لا يدرك كيف اختارها لنفسه ولا يعرف اسماءها منفصلاً عن قواه المبدعة وينابيعه الاصيلة والتزاماته بالآخر. يلاحق خطواته المبرمجة من دون توقف، ومن دون ان يدري تماماً ما حدث له وكيف وصلت به خطواته الى حيث يجد نفسه على هامش الوجود لا يهتم بأحد ولا يهتم احد به. ولأنه لا يعرف اتجاهه وموقعه في خريطة العالم الذي يتسع ويتفتت في الوقت ذاته، يكتشف انه محقون بالغضب والخوف الممتزج بالإحباط فيصاب بالرعب من انتشار طاعون الجنون. يكتشف بعد متابعة دقيقة وتأمل، في نطاق الوقت القليل الذي يمكنه فيه ان يتأمل ويدقق في شؤون حياته، كأن العالم يتخذ ظاهراً مسلكين متناقضين: من ناحية، يتضح له ان نظاماً عالمياً واحداً هرمياً قد تكون فعلاً بعد ان اندمجت كافة البلدان والمجتمعات طوعاً او مصادفة او تمشياً مع التيار او اضطراراً او تخوفاً في النظام السياسي الاقتصادي الغربي الرأسمالي. تمكنت الولاياتالمتحدة الاميركية منذ الخمسينات ان تحل محل اوروبا، او بريطانيا وفرنسا على وجه التحديد، وان تحتوي المنظومة الاشتراكية وتسهم في تدميرها، وان تحتل بمفردها قمة الهرم. وقد ساهمت شبكات وسائل الاعلام والاتصال والمواصلات والانتقال السريع والتكنولوجيا الحديثة بتكامل عملية الاندماج في النظام العالمي عن طريق الوصول الى اقصى المجتمعات واكثرها عزلة. تقلص العالم وتحول الى قرية صغيرة، وأصبح هناك من يشعرون انهم مواطنون عالميون، فأنشأوا علاقات موسعة ومكثفة في سائر انحاء الارض وبدأوا يتطلعون الى غزو الفضاء. وفوق هذا اصبحت النخبة في مختلف الحقول مرتبطة بالنخب الموازية لها في المجتمعات الاخرى اكثر مما هي مرتبطة بشعبها الا من حيث علاقة السيطرة عليه وتطويعه. ورافق هذه التطورات نشوء ثقافة استهلاكية اعادت صياغة او تحديد الدوافع والتوجهات والحاجات والطموحات والرغبات والآمال الانسانية ووصلت الى اقاصي القرى النائية. انتقلت الثقافة الاستهلاكية التي تشجع على الفردية والانانية والمتعة والتنافس في الاقتناء والتمسك بمظاهر المكانة ورموزها الى كل بقعة في الارض وحددت التطلعات المستقبلية للفرد والجماعات. ويكاد كل بلد، بل كل جماعة وفرد ان يعيش في مداره الخاص لا يهمه غير نفسه في نظام شمسي طاغ. وفي الزمن الذي تحول العالم فيه الى قرية صغيرة، يشهد الانسان الحديث، نزوعاً نحو التفكك الاجتماعي داخل مختلف بلدان العالم. في ظل النظام العالمي الواحد وهو نظام اقتصادي سياسي بالدرجة الاولى تترسخ ظاهرة التفسخ الداخلي على مختلف المستويات، يشهد، من دون ان يتمكن ان يفعل شيئاً، مزيداً من الانقسامات الاجتماعية والتفرقة العرقية والعنصرية والطائفية والدينية والقبلية والطبقية التي تهدد المجتمعات والانظمة من الداخل. يحدث هذا في بلدان العالم الثالث كما في اوروبا واميركا وفي ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، في البلدان الكبيرة والصغيرة، وفي ظل الانظمة الديموقراطية كما في ظل الانظمة الشمولية الاستبدادية، وذات الاقتصاد الحر كما في ذات الاقتصاد المسيّر مركزياً. وكثيراً ما تتحول هذه الانقسامات الى نزاعات وحروب اهلية دامية تؤدي بدورها الى تعميق التمزق، وترسيخه. بذلك يفقد التنوع والتعدد ما يمكن ان ينسب اليهما من ثراء ووهج، ويتحولان الى جراثيم تفتك بجسد الامة الواحدة. وبين أخطر ما يغيب عن الانسان طبيعة هذه الانقسامات فيظن انها تعود لوجود تنوع وتعدد في الانتماءات والتوجهات الثقافية بحد ذاتها. ولو تعمق قليلاً وهو لا يريد ذلك، لأدرك ان التنوع والتعدد يتحولان الى انقسامات ونزاعات فقط حين تسود الفروقات الطبقية ويقوم النظام على التمييز وتغيب العدالة وتبطل المساواة في الحقوق والواجبات. الفتك الداخلي في لبنان امتد الى السودان والصومال وافغانستان وبلدان عدة في العالم الثالث، والى جمهوريات الاتحاد السوفياتي الذي زال من الوجود، والى يوغوسلافيا المحتضرة، وما سيأتي قد يكون اكثر هولاً مما حدث حتى الآن. وأخيراً بدأ يظهر ان التفسخ لا يقتصر على العالم الثالث، فقد وصل الى قمة الهرم بالانفجار الاجتماعي الذي يحدث في المدن الغربية، كما حدث في مدينة لوس انجليس مؤخراً. وما حدث في هذه المدينة ليس سوى مؤشر، لم يتفاجأ من يعرفون المدن الاميركية بما حدث، وربما انذهل المفتونون بأميركا وبحضارة الاستهلاك والبذخ والترف في الداخل والخارج. في وسط هذه الحضارة يلتقي الفقر والعنف والانحراف والانهيار والموت، وتغيب العدالة بقدر ما يزداد الاهمال. والفقر في مدن الولاياتالمتحدة لا يعني الجوع والحرمان والمرض والمخدرات والاجرام والسجون والقتل والعيش دون منزل او ملجأ والبطالة عن العمل فحسب، انه يعني ايضاً الانهيار الانساني والجنون والوحشة وانعدام الكرامة وتهدم العائلة وفقدان الامل بالمستقبل والآخر. ويتعرض لكل ذلك اكثر من يتعرض الاطفال والمسنون والنساء، واذا ما تذكرنا ان المجتمعات الغربية هي مجتمعات حضرية، ربما ندرك حينئذ ما مصير الغرب. شخصياً تعرفت الى المخيمات والاحياء الصفائحية وتجولت في الازقة الشعبية في القاهرة والخرطوم وتونس والجزائر والدار البيضاء وفاس والرباط وصنعاء فلم اشهد فقراً كالذي شهدته في المدن الاميركية من حيث تأثيره على هدر انسانية الانسان ومدى اهمال وتجاهل الدولة والمؤسسات الخاصة والعامة لمشكلات الفقر. لقد تحولت غالبية احياء نيويورك ولوس انجليس وديترويت وواشنطن وفيلادلفيا وبوسطن وغيرها الى غابات لا يجرؤ حتى المغامرون على اقتحامها. فقط عندما تجري احداث عنف دامية كتلك التي جرت مؤخراً في لوس انجليس، يضطر الاميركيون للاعتراف بمدى انتشار العنصرية والتفرقة والفقر والتفاوتات الطبقية في الحياة الاميركية ومدى هشاشة المجتمع الداخلية وهزالة نظامه العدلي. ولفترة قصيرة جداً خلال هذه الاحداث الدامية وبعدها مباشرة تجد النخبة السياسية والاقتصادية وأجهزة الدولة نفسها مجبرة ان تعترف بوجود المشكلات الاجتماعية وان تتعامل معها على انها ليست مجرد مسألة امنية تحل بالقمع وعن طريق الشرطة وقوى الامن، بل تتعدى ذلك لتصبح ايضاً مسألة انعدام العدالة الاجتماعية. في مثل هذه الفترات القصيرة فقط، يسمع كلام من قبل النخبة عن وجود حاجة ملحة للقيام بتحليل في العمق وبشمولية للمشكلات الاجتماعية وتشخيصها على حقيقتها من اجل ايجاد الحلول الجذرية لها. وتؤلف لجان قد تخرج بتقارير وتوصيات تضاف الى تقارير سابقة منسية، ويعود الوضع الى سابق عهده. كيف نفهم وجود نظام عالمي واحد وتفكك اجتماعي داخلي في سائر المجتمعات في الوقت ذاته؟ فيما يتحول العالم الى قرية صغيرة، كيف يتحول المجتمع الى قرى متناحرة؟ هل يتسبب قيام نظام عالمي هرمي واحد بالتفكك الاجتماعي الداخلي؟ لماذا يتفتت العالم العربي والاتحاد السوفياتي ليبدأ تفتت جمهورياته بعد ان تنفصل وتستقل؟ لماذا تتفتت يوغوسلافيا ويلغي الجار جاره في المبنى الواحد؟ لماذا تلغي القبائل بعضها البعض في السودان والصومال ولبنان؟ ما الذي يجعل البلدان الصغيرة تستكبر حجمها فتكافح جماعاتها من اجل الاستقلال والانفصال بدلاً من التوحد والاندماج السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟ هل من علاقة بين هذه الظواهر؟ ما القوى والعوامل الظاهرة والخفية وراءها؟ كيف نفسر هذا الواقع المزدوج؟ هل من تناقض او تكامل بين هذه الظواهر؟ في محاولة للاجابة على هذه الاسئلة، لا بد من معرفة طبيعة هذه التطورات العالمية والمحلية، ومسبباتها والعلاقة في ما بينها والتوصل من خلال البحث الدقيق والشامل الى تفسيرات مقنعة. هنا، وباختصار تقتضيه طبيعة هذه المقالة، اريد ان اوحي باحتمال تقديم تحليل اجتماعي يرتكز الى المقولات التالية: - ان النظام العالمي الواحد المسيطر حالياً يقوم على الهيمنة والتبعية لمصلحة الدول الصناعية او ما بعد الصناعية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الاميركية بالدرجة الاولى والدول الاوروبية الغربية بالدرجة الثانية، وذلك ليس لمصلحة المجتمعات الاخرى بل على حسابها. من هنا وصفي للنظام الواحد على انه نظام هرمي. - في المجتمعات التابعة تستفيد النخبات السياسية والاقتصادية من العلاقة بالنظام العالمي على حساب شعوبها وترفض ان تهتم بمشكلاته. - في ظل الانظمة السائدة في العالم تزداد الفجوات بين البلدان الغنية والفقيرة، وبين الطبقات والجماعات والمناطق داخل كل مجتمع. فيما تزداد ثروات الاغنياء وتتراكم مقتنياتهم، تسوء احوال الفقراء. - تتجاهل النخبات والطبقات والجماعات الحاكمة في كل بلد الاوضاع المأسوية في مجتمعها ولا تعترف بوجودها. بل ان المرفهين والمثقفين من اصول فقيرة وجماعات معدمة انفسهم يتخلون عن اصولهم ويلتحقون بالمرفهين من الجماعات والطبقات المسيطرة. يلاحظ مثلاً ان السود الناجحين في اميركا يتخلون عن السود الفقراء مدفوعين بمصالحهم الخاصة، وان البلدان الغنية تتخلى عن البلدان الفقيرة في أمتها الواحدة. هذا يفسر ايضاً لماذا بدأت عملية الانفصال في يوغوسلافيا من قبل الجمهوريات الاكثر ازدهاراً، ولماذا تسعى النخبة في الاتحاد السوفياتي السابق متخلية عن شعوبها لكي تصبح جزءاً من النظام العالمي، ولماذا تنجح في شمال ايطاليا في الانتخابات الاخيرة حركة تقول بالتخلي عن الجنوب الايطالي معلنة يأسها من احتمالات تحسين احواله وتفضل الالتحاق بأوروبا الشمالية، ولماذا انهار لبنان لأن جماعاته الحاكمة فضلت ان تكون جزءاً من الغرب على ان تكون جزءاً من محيطها. - بالاضافة الى التخلي عن الفقراء، تتبنى الانظمة والجماعات المستفيدة الغنية والطبقات المسيطرة المرفهة ايديولوجية ومفاهيم تسوغ هذا الواقع فتحمل الفقراء مسؤولية فقرهم وتتهمهم بالكسل وقلة الطموح والجهل فيما تنسب لنفسها التفوق العقلي والخلقي والنفسي وتعتبر انها حققت ما حققت بفعل مواهبها الخاصة. انطلاقاً من هذه القناعات الهشة، يتم التخلي عن مسؤولية تحسين اوضاع الغارقين في البؤس. بذلك تفقد الطبقات والجماعات والمناطق والبلدان المرفهة والمأخوذة باغراءات ثقافة الاستهلاك الحساسية المرهفة تجاه من هم دونها مكانة وتتخلى عن مسؤولياتها في خلق الظروف والاوضاع التي تساعد على التغلب على مشكلات الفقر والتحرر من أسره. بكلام آخر، نجد ان الطبقات والجماعات المرفهة اصبحت منشغلة كلياً بأمور تعزيز مكانتها وتخلت عن مهمات التنمية الشاملة وتحقيق العدالة الاجتماعية التي لا تكون هناك حرية واستقرار بدونها. وطالما تسود هذه الاجواء، من المتوقع ان يزداد التفكك الداخلي وان تحدث تفجرات اجتماعية تتخذ اشكالاً يستحيل التنبؤ بها. * عالم اجتماع وروائي، استاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.