قاعدة الملك عبدالعزيز الجوية بالظهران تنظم معرضًا أرضيًا للطائرات    منح ميدالية الاستحقاق ل 308 مواطنين ومواطنات تبرعوا بدمائهم 10 مرات    إجازة لستة أيام ومباراة ودية للفتح خلال فترة التوقف الدولي    محافظ صبيا يكرم مدير مكتب التعليم بمناسبة انتهاء فترة عمله    طالب الطب الصعيري يكتشف خطاً علمياً في أحد أبرز المراجع الطبية العالمية بتخصص الجراحة    وزير الثقافة يعلن من مؤتمر الاستثمار الثقافي عن "جامعة الرياض للفنون"    انطلاق معرض إنترسك السعودية في نسخته السابعة بالرياض    نائب أمير الشرقية يستقبل قائد المنطقة الشرقية بمناسبة تكليفه    5 آلاف زائر لفعاليات نادي وزارة الداخلية وطويق احتفالا باليوم الوطني بالخبر    نائب أمير جازان يدشّن مبادرة "صحة روح" للفحص المبكر لمرضى الدم    ‏نائب أمير جازان يستقبل مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف بالمنطقة    بلدية الظهران تطلق مبادرة "ظلهم علينا" بالتعاون مع جمعية هداية    "سعود الطبية" تنظّم ملتقى "صوت المستفيد يقود التغيير"    شنايدر إلكتريك ترقع مذكرات تفاهم استراتيجية مع شركات رائدة خلال قمة الابتكار بالرياض 2025    أمير الرياض يستقبل نائب وزير الحرس الوطني    تتويج أبطال بطولة الدمام لكرة المناورة.. بإجمالي جوائز 40 ألف ريال    انزاغي يختار بديل مالكوم أمام ناساف    جمعية كتاب الرأي تحتفي بفيلم العوجا 17:47    برنامج "جودة المياه" يعمل على تحويل المياه المالحة الى مياه بجودة عالية بمعايير عالمية    الأحساء تحتضن منافسات الأمن السيبراني الوطنية    الهيئة السعودية للتخصصات السعودية تعتمد برنامج طب التخدير في تجمع تبوك الصحي    أوروبا تشهد ارتفاعا في درجات الحرارة أسرع مرتين من بقية العالم    فعد الغامدي إنجاز غير مسبوق لأول سعودي يحصد تصنيف "الإيكاو" الدولي    محافظة الفرشة بتهامة قحطان تحتفل باليوم الوطني 95 وسط حضور جماهيري واسع    ارتفاع أسعار الذهب    وزارة الرياضة تصدر بيانًا حول أحداث مباراة العروبة والقادسية في كأس الملك    يوم لنا مشهود بعال المراقيب    بعد إقالة بلان.. الاتحاد مهدد بفقدان بنزيمة    قبل لقائه المرتقب مع نتنياهو.. ترمب: فرصة تاريخية للإنجاز في الشرق الأوسط    الديوان الملكي: وفاة عبطا بنت عبدالعزيز    «هيئة الشورى» تحيل 20 موضوعاً للجان المتخصصة    خلال مشاركته في المؤتمر السعودي للقانون.. وزير العدل: التشريع في المملكة يرتكز على الوضوح والمشاركة المجتمعية    مخالفو الصيد البحري في قبضة الأمن    أول محمية ملكية سعودية ضمن برنامج اليونسكو    صعوبة بالغة لوصول الطواقم الطبية والمصابين.. دبابات إسرائيلية تتوغل في غزة    عسير: فرع هيئة الصحفيين ينظّم ندوة "الخطاب الإعلامي للوطن؛ بين ترسيخ الهوية وتعزيز القيم"    معرض الكتاب.. نافذة على عوالم لا تنتهي    أحمد السقا ينجو من الموت بمعجزة    أكد التزامها بالتنمية المستدامة.. وزير الخارجية: السعودية تترجم مبادئ ميثاق الأمم المتحدة لواقع ملموس    حائل تستضيف كأس الاتحاد السعودي للهجن للمرة الأولى    محطماً رقم رونالدو وهالاند.. كين أسرع لاعب يصل للمئوية    صالات النوادي والروائح المزعجة    ورقة إخلاء الطرف.. هل حياة المريض بلا قيمة؟    ترمب يجتمع بكبار القادة العسكريين    السودان: 14 مليار دولار خسائر القطاع الصحي بسبب الحرب    أكثر من 53 مليون قاصد للحرمين خلال ربيع الأول    نائب أمير الرياض يستقبل وزير الشؤون الإسلامية    "الشؤون الإسلامية" تواصل جهودها التوعوية في الجعرانة    التحالف الإسلامي يطلق دورة تدريبية لتعزيز قدرات الكوادر اليمنية في مجال محاربة تمويل الإرهاب    المتطوعون يشاركون في احتفالات أمانة الشرقية باليوم الوطني    السلامة الغذائية    تقنية البنات بالأحساء تطلق المسابقة الوطنية للأمن السيبراني    مزاد نادي الصقور السعودي 2025.. خدمات متكاملة تعزز الموروث وتدعم الطواريح    تمادي إسرائيل في حرب غزة ومقترح عماني يدعو لفرض العقوبات    منتدى فكر بجامعة جازان يناقش الوسطية والانتماء    مدرسة ابتدائية مصعب بن عمير تحتفل باليوم الوطني ال95    وزير العدل: التشريع في المملكة يرتكز على الوضوح والمشاركة المجتمعية    الاهتمام بتطوير التجربة الإيمانية لضيوف الرحمن.. «الحج» : التنسيق مع ممثلي 60 دولة للموسم القادم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلغ الثمانين من عمره ويعتبر نفسه لبنانياً ... ثم فيلسوفاً وشاعراً . سعيد عقل : جبران لا شيء وفرويد وماركس وبيكاسو 3 يهود خربوا العالم
نشر في الحياة يوم 11 - 05 - 1992

سعيد عقل بلغ الثمانين من العمر، هو الأبرز بين الشعراء اللبنانيين الاحياء، وكذلك بين الشعراء العرب الكلاسيكيين. له لبنانه مزيجاً من تاريخ وخيال وطموح، وله "لغته" وحرفه اللاتيني، الى رجعات حنين نحو عمارة جمالية من الفصحى ينحتها نحتاً.
نموذج فريد من الشعراء، يتكلم في الحضارة والسياسة والعمران، ويجمع من حوله مريدين وأتباعاً بحيث يشكل ظاهرة تلفت الاهتمام... التقته "الوسط" في ثمانينه وكان هذا "البورتريه" لشخصيته وحديث معه:
لا نذكر في اي من صالوني منزله استقبلنا في المرة الاولى من جلساتنا الطويلة واياه: أفي الصالون الداخلي وهو غرفة نوم في الاصل، حيث مقاعد ثلاثة ومكتبة لصق الجدار وطاولة حولها كرسيان وعليها آلتا طباعة، ام في الصالون الخارجي الاصلي الواسع الذي تكثر فيه المقاعد وعلقت على جدارين متقابلين من جدرانه لوحتان لجورج قرم.
نذكر ان محامياً كان يجالسه حين ادخلتنا اليه صبية عرفنا لاحقاً انها تمكث في بيته حتى الساعة الثانية عشرة من النهار تعمل على الآلة الكاتبة وتؤدي له بعض الخدمات البيتية قبل انصرافها: "انا رايحة، بدك مني شي يا استاذ"، تقول له، فيجيبها: "الله معك يا بنتي، روحي".
اغتنم فرصة وجود المحامي ليعلن لنا انه في صدد وضع نظرية في الحقوق تلغي القوانين كلها في العالم كله. وقبل ان يكاشفنا في هذا الامر كان قد رفع من شأن المحامي، فاعتبره من المع المحامين. وما من مرة جلسنا في حضرته الا ورفع من شأن زواره ومريديه الحاضرين: "هذه المرأة تقصدني من باريس لاحدثها عن لبنان سعيد عقل الذي ستضع عنه بحثاً جامعياً في السوربون". يقول عن زائريه انهم من ارفع المثقفين في ميادينهم واختصاصاتهم، كي يرينا انهم يقصدونه وانه حجتهم في علومهم مهما اختلفت وتنوعت ميادينها.
"ماذا تريدون ان تعرفوا عن سعيد عقل؟".
تساءل بعدما اطلعناه على غرضنا في زيارتنا الاولى: "لا، لا، انا قطعت عهداً على نفسي الا اعطي مقابلات للصحافيين"، فحاولنا اقناعه بأن اضفينا على ما سنجريه معه اهمية ومعنى استثنائيين، فواق شرط ان ننسب كلامه الى رواة مغفلين من مريديه ومعارفه. وحين استشف اننا نستدرجه للحديث عن حياته وتكوينه الثقافي وعن ذكريات عمره المديد والاجواء والشخصيات الادبية التي عرفها وعاصرها، اعتبر انا نستدرجه الى "ترهات ونوافل"، وضرب لنا مقارنة بين كل من سانت بوف وفيكتور هيغو: "الاول قضى عمره ونذر جهده لتسقط اخبار ادباء عصره، معتبراً ان حياة الاديب دليله الى فهم ادبه. وكان دأبه من ذلك: النميمة، خصوصاً على هيغو الذي يبزه شهرة وادباً". هذه المقارنة كررها لنا مرات عدة في جلساتنا واياه واستنتج منها "تفاهة" الصحافة و "تفاهة" العمل الصحافي: "هذا حكي جرايد، ورؤوسكم محشوة بحكي الجرايد"، قال. لكنه في موضع آخر من كلامه اطلعنا على انه في صدد التحضير لتقديم جوائز مالية للصحافيين الذين يقومون ببث افكاره في مقالاتهم: "ماذا لو اجتمع عدد من الصحافيين الذين يعملون في صحفهم على تمرير وبث، لو كلمات من العيار الذي يعرفه سعيد عقل". وكم من المرات كرر لنا عبارة: "لو استلمت الحكم سأفعل كذا وكذا...".
فيما كنا ندون بعضاً من احاديثه التفت الينا وقال بنبرة شامتة متعالية: اكتبوا... اكتبوا... فما تكتبونه لا يعني شيئاً لسعيد عقل الذي اريد ان اخبركم عنه، اي: سعيد عقل اللبناني وسعيد عقل الفيلسوف، وسعيد عقل الشاعر".
الشعر ومراتب اللذات
* ما هو تعريفك للشعر، أستاذ سعيد؟
- الشعر لقية فكر على لقية تركيب. وانا من شعراء الفكر.
في كل جلسة من جلساتنا واياه كان ينسى انه شرح لنا، في جلسة سابقة، واحدة من افكاره ونظرياته فيعود الى شرحها لنكتشف انه يحفظ افكاره حفظاً من دون زيادة ولا نقصان، يكررها بحذافيرها وكأنه يتفوه بها للمرة الاولى. نقول له: شرحت لنا هذه الفكرة، استاذ سعيد، فيستمر في كلامه ونشوته، فالكلام عند سعيد عقل نشوة لا مثيل لها. يسلطن فيما هو يتكلم، بل يلقي كلامه القاء، انه مفتون بكلماته وصوته ونبرته حتى الانتشاء الكامل، فتبرق عيناه ويمتلئ زهواً بنفسه ويستعيد جسمه فتوة الشاب، يتكلم بجسمه كله، كأنه يؤدي دوراً تمثيلياً على خشبة مسرح اغريقي. حتى حركات يديه واصابعه وانفعالات وجهه ونبرات صوته علواً وانخفاضاً يقوم بأدائها كلها كما لو انه امام مرآة.
أبخس اللذات عنده واشدها وضاعة هي اللذة الحسية، وضرب بيده على حافة فراش السرير ليشير الى وضاعتها، فتطايرت من الفراش ذرات من الغبار لم ينتبه لتطايرها. اللذة الثانية التي ارفع منها مستوى، وكعباً هي لذة العطاء: "اذا خيّرت بين الذهاب الى موعد غرامي وبين الذهاب الى من سأعطيه مبلغاً من المال في الآن نفسه، فانني من دون ادنى تردد سأذهب للعطاء". "اما ارفع اللذات والتي لا تعادلها لذة في الوجود، فهي لذة الخلق والابداع". ونظريته في الوجود شرحها لنا اكثر من مرة نقلاً عن فيلسوف فينيقي من صور لم نعد نذكر اسمه. وعماد هذه النظرية ومحورها التمييز بين الكثرة والجودة. "ولا امل للعرب في الانتصار على اسرائيل من دون معرفتهم بهذه النظرية"، قال "انهم يحبون الكثرة". وتفاصيل نظريته هذه "ان الوجود والموجودات مراتب: الجماد والاشياء في ادناها. اما النبات فهو جماد زائد "شوية" اي قليل حياة". "وهذه الشوية حياة تجعل من النباتات كلها اعلى مرتبة واكثر قوة من الجمادات كلها. والحيوان حي كالنبات زائد "شوية" حركة". وهذه "الشوية حركة" تجعله يمتلك نباتات الارض كلها. هذا، والانسان حيوان زائد "شوية" عقل"، وبهذا يتفوق على حيوانات الارض ويغلبها. هذه "الشوية" يسميها سعيد عقل "بالجودة" التي بامتلاكها تنتقل الموجودات والكائنات من مرتبة ادنى الى مرتبة اعلى، اي من الكثرة الى التميز. ثم ضرب لنا مثلاً على ذلك بقول احد المفاوضين الاسرائيليين في مؤتمر السلام في مدريد: ان العرب يمتلكون مساحات شاسعة هائلة من الارض ويفاوضوننا على مساحة صغيرة جداً من الارض، هي الضفة الغربية. "انا، لو كنت في المفاوضات" أردف سعيد عقل، "لعرفت كيف اجيبه وافحمته".
كنا نرغب بسؤاله: وبماذا كنت ستجيبه، استاذ سعيد؟ لكن من الصعب ان تقاطع سعيد عقل يدعوه مريدوه بال "المعلم" وتسأله فيما هو يسلطن بكلامه. آنذاك ستقطع عليهم ايضاً نشوتهم في التلقي.
فرويد وماركس وبيكاسو
سأله الشاعر عباس بيضون، فيما هو يسلطن في كلامه: هل قرأت شيئاً من فرويد استاذ سعيد؟ فأجاب: فرويد وماركس وبيكاسو ثلاثة يهود خربوا العالم. لا تفكر انك افحمتني بسؤالك هذا. لا، انا لم أقرأ لا فرويد ولا ماركس، ولا ارغب في قراءة شيء من مؤلفاتهما، والازمنة الحديثة كلها وما انتجته باريس ولندن ونيويورك هراء في هراء. اذا مرضت باريس وانحطت تريدني ان انحط معها. لا، انا اريد ان ادلّ فرنسا واعيدها ملكية. ثم علينا نحن اللبنانيين ان "ندبر" وهنا يقصد ان نجتذب الينا الفاتيكان وأميركا ونصلحهما كي نخلص لبنان مما هو فيه...
استطعنا ان ندرك نفوره من فرويد وماركس، ولكننا لم نعثر على تعليل لنفوره من بيكاسو، فسألناه: لماذا تكره بيكاسو استاذ سعيد؟ كنا جالسين في صالون بيته الاصلي الواسع، فغادرنا الى الصالون الآخر واتى بجزء من الموسوعة البريطانية "بريتانيكا" وفتحه على صفحة ثم قال:
- انظر الى هذه المرأة هل ترغب في ان تكون لك بنت مثلها او تشبهها؟!
كانت الصورة واحدة من لوحات بيكاسو وفيها وجه مشوه لامرأة فيه ثلاث عيون وأنفان: "هذا هو فن بيكاسو" قال، تشويه في تشويه"، فشعر بالزهو والانتصار حين قلنا له اننا لا نرغب في ذلك.
فالتفت الى عباس بيضون وقال له: "صور، خان للمسافرين، يا عباس؟! كيف تكتب عن صور مثل هذا الكلام، الا تعرف من هي صور؟!، صور التي اعطت اقليد للعالم تقول انها خان للمسافرين!". وكان عباس قد اهداه اولى مجموعاته الشعرية التي عنوانها "صور"، فقرأ هذه الجملة على غلافها، ثم كان علينا ان نسافر معه لمدة ساعتين او ثلاث الى صور فينيقيا والى بلاد الاغريق، اثينا واسبارطة... فلا نعود من سفرتنا الا منهكين متعبين بعد ان عرج بنا على بعلبك وجبيل، وفي هذه الاخيرة اطلعنا على "المجمع الفلسفي الفينيقي" الذي كان يضم عباقرة المدن الفينيقية وفلاسفتها الذين كان سؤالهم الاول والاساس في مجمع: "ماذا يريد منا ايل؟". ترددنا قبل ان نسأله: هل زرت صور ورأيت كيف هي استاذ سعيد؟
- انا ما لي ولصور الآن. انتم دائماً لا ترون الا البشاعة "شو بدي اعملكم. اكلتكم الصحافة. بدي انفض من رؤوسكم اقوال الصحافة ووسخها. لازم تصيروا وتقولوا انو صور حلوي وعظيمة، مش هيك يا عباس؟ ما لازم كنت تقول انو هيدي اللي كتبت عنها هي صور. صور مش هيك وعتبي عليك انك ما بتعرفها وانت ابن صور. لغتك العربية حلوة وعيّوقة، بس اللي كتبتو بكتابك هو عن شي ضيعة بالجنوب، ما ممكن يكون عن صور. وأنت التفت الي شو بتكتب، وكيف لغتك؟ قال له عباس انني نشرت رواية. عظيم عظيم تمثلت؟ يقصد: هل نقلت الى المسرح؟.
لم نعد نذكر ما الذي قادنا للحديث عن جبران خليل جبران. ربما مر اسم جبران، هكذا، جزافاً، في حومة الاحاديث التي لا تنتهي، فقلت لنسأله عن جبران.
* ما رأيك بجبران، استاذ سعيد؟
- جبران لا شيء لكنه عظيم لأنه لبناني غزا اميركا. اقليل ان يغزو لبناني اميركا؟! لذا يجب ان نقول انه عظيم، بالرغم من انه لا شيء، وانا حزنت كثيراً حين قرأت كتاباً لأحد الكتاب يقول فيه ان جبران كان مصاباً بالشذوذ... "يا عيب الشوم، ليش الناس بيحبو يشوفو الاشيا الوسخة بهالدني لأنن هن هيك".
فيروز... لم تقبل
* فيروز استاذ سعيد؟
- "فيروز كنا بدنا نعمل منها حلم، بس هيي ما قبلت".
في المرات الاربع التي كنا من زواره ومن مجالسيه، كان دائماً يضع امامه على المنضدة قنينتين من الماء ورغيفين صغيرين من الخبز "الافرنجي" الحاف، بين وصلة واخرى من جولاته الكلامية المنتشية، كان يصب ماء من احدى القنينتين في كوب ويكشفه ثم يتناول جزءاً من احد الرغيفين فيأكله. وكان يستمر في ذلك حتى تفرغ القنينتان من الماء في نهاية الجلسة التي لم تكن تنتهي قبل الساعة الواحدة ظهراً، بعد ان تكون قد بدأت في غضون العاشرة من الصباح. "هذا قوتي الدائم في كل صباح: ليتران من الماء ورغيفان ولا شيء غير ذلك".
* ألا تدخن وتشرب القهوة استاذ سعيد؟
- لا تدخين، لا قهوة، لا شاي، ولا خمرة. ولماذا ادخن واشرب؟! التبغ لا ادخله الى بيتي وفي مجالسي لا احد يدخن. هذه كلها من العادات البشعة التي لا احبها، لا ادخل الى بيتي الا الاشياء الجميلة. امي لو لم تكن جميلة لما علقت صورتها على الجدار. وهاتان اللوحتان من جورج قرم ما كانتا في صالون بيتي لولا جمالهما. انهما قديمتان وثمنهما الآن يساوي ثروة. وانا الكاتب الوحيد الذي عاش من كتابته ومن مردود محاضراته. احياناً اقبض على المحاضرة 200 دولار. واحيان احاضر بالمجان، حسب مقدرة من يدعوني. لا اطلب شيئاً من الدولة. واحتقر من يعتب من الادباء والكتاب على الدولة لأنها لا تساعد المثقفين. مع انهيار سعر صرف الليرة بعت سيارتي الخاصة واستغنيت عن خدمات سائقها. ولدي الآن ثروة في المصرف: عشرة آلاف دولار حصلت عليها لقاء طباعتي مؤلفاتي الكاملة ونشرها. الفلس لا يعني لي شيئاً. واعظم ما اقدره هو العطاء. اكتفي ان يقال عني انني شهم ومعطاء، وهذا افضله الف مرة على ان يقال انني عظيم او خلاق او مبدع.
صورة الشاعر الثمانيني
وسعيد عقل الذي في مطلع العقد التاسع من عمره، لم يفقده عمره المديد الا قليلاً من سمعه، لذا عليك ان ترفع صوتك قليلاً حين تحدثه. وربما افقده العمر شيئاً آخر، اناقته التي كانت عنصراً في طاووسيته. لكن الطاووس الذي فيه لا يزال حاضراً بالرغم من وهنه وتعبه، الا انه يستعين بصوته وأدائه ليدفع عنه الوهن والتعب، فيتورد وجهه الذي تسربت الى بشرته الغضون ووهنت نظرته التي تستعيد نضارتها وقوتها كلما اخذته نشوة الكلام. اما اناقته فمن بقايا زمن سابق. البذلة جاردة القماش حائلة اللون، وحده الشال الارجواني القاني بقي على حاله. لكنه كان يرتدي تحت القميص الابيض الرسمي سترة هي للنوم ربما لتقيه برد الشيخوخة.
يقضي صباحات نهاره في انتظار زواره ومريديه. وهم غالباً يأتون اليه، فيجتمع منهم مجلس يبقى ملتئماً حتى الواحدة ظهراً. فيتساقط اعضاء هذا المجلس واحداً بعد الآخر، فيما "المعلم" يرغب في الاستزادة من كلامه وادائه: "انه ظاهرة صوتية"، قلنا، حين غادرنا مجلسه في المرة الاولى. كان دائماً يرافقنا حتى باب بيته لوداعنا، اذا ما كنا آخر المنصرفين.اما اذا ما انصرف واحد من المجلس الذي يبقى ملتئماً فكان لا يتزحزح عن مقعده، وكان علينا ان نتخيل انه لا يأكل في بيته.
مرة اتيته باكراً، في التاسعة صباحاً، فاستقبلني وهو ممدد في سريره وحوله كتب وأوراق وشراشف واغطية. كان يجري بعض التنقيحات على ما كان كتبه في اوراقه، فوضعها جانباً، وجعل يحدثني عن عطاءات لبنان ال11، وهي ما كان حدّثنا عنها في جلسة سابقة. اغتنمت ما يمكن ان تشيعه من حميمية جلسته في السرير، عله يروي لي شيئاً من ذكرياته لكنني عبثاً حاولت فانتقل الى الحديث عن اللغة التي ابتكرها. "كل لغة غير محكية، هي لغة ميتة". قال، "اللغة العربية ميتة" ثم تناول كتاباً من تلك التي كانت بالقرب منه فوق السرير، وقرأ لي واحدة من قصائده بالمحكية اللبنانية المكتوبة بالحرف اللاتيني. كانت القصيدة عن صوت فيروز، وبعد فراغه من قراءتها قلت له:
* ما رأيك ان نضع كتاباً عن استاذ سعيد: كتاب عن حياة سعيد عقل وذكرياته؟
- عن حياة سعيد عقل؟! لا. لا. عظيم ان يكون الكتاب عن لبنان سعيد عقل.
* لكن علينا ان ننقل في هذا الكتاب شيئاً عنك، عن حياتك وذكرياتك.
- نستطيع ان ننقل هذا في عدد من الصفحات، لكن الاهم هو لبنان سعيد عقل.
* وما رأيك ان نبدأ الآن بحياتك؟
- اذكر انه استطاع الاستمرار في الحديث عن حياته دقيقتين او ثلاثاً لا غير. لكنه في الارجح كان يشعر انه سجين ويخوض في مجال غير مجاله، فانتقل الى التحليق في فيافي الازمنة. مرات كثيرة حاولنا ان نستدرجه الى كلام عادي وراهن، لكنه لم يكن يعدم فرصة للانتقال الى ما يضج في رأسه من تهاويم حفظها عن ظهر قلب وبوعي تام، وعن سابق تصور وتصميم نظمها ورتبها لتصير جاهزة للالقاء. اما ما استطعنا ان نحصل عليه ونلملمه مما استطاع ان يقوله من محطات حياته وسيرته، فلم يكن يتعدى هذه الشذرات:
- ولدت في زحلة في 4 تموز من العام 1912، والدي من زحلة، والدتي ادال يزبك من بكفيا. ابي ورث املاكاً واسعة باعها كلها وبدّد اثمانها، امي مثقفة كانت تجيد الى العربية الفرنسية والانكليزية.
- انا صغير اخوتي واخواتي. الاخ سافر الى اميركا وتوفي هناك. اخواتي توفين جميعاً.
- في زحلة كنت طالباً في مدرسة نصف داخلي. وكنت مجلياً في الرياضيات.
- عام 1927 تركت المدرسة وانصرفت الى المطالعة، فاطلعت على معظم آداب العالم القديم والحديث.
- سنة 1932 انجزت كتابي الشعري الاول "رندلى"، لكن صدوره تأخر حتى الاربعينات.
- سنة 1932 نزلت الى بيروت وصرت نجماً في صالوناتها الثقافية والادبية، ومنها صالون ايفلين بسترس.
- في اواسط الاربعينات توفي والدي.
- اذكر من اصدقائي ومعارفي: صلاح لبكي، يوسف السودا، امين نخلة، ميشال شيحا، شارل قرم، شبل دموس وعمر فاخوري.
- سنة 1950 أسست مدرسة ثانوية في زحلة درست فيها الفلسفة والأدب.
- اول ديوان شعري باللغة اللبنانية المحكية "يارا" 1960.
- درّست في المدرسة الحربية.
- عام 1981 تزوجت من ليندا جنبلاط الشاعرة باللغة الفرنسية.
- تعرفت على العماد ميشال عون في معارك تل الزعتر، حين كنت ملهم تنظيم حراس الأرز، وأنا من قلت للعماد عون ان يستخدم عبارة: "يا شعبي العظيم" في خطبه.
- 1992 صدرت مؤلفاتي الكاملة عن دار نوبلس في بيروت.
منتخبات من شعر سعيد عقل
لبنان
أبلاد عُقّت وظلّت على العهد؟!
بلادي أنا، ولبنان عهدُ
ليس أرزاً ولا جبالاً وماءً
وطني الحبّ ليس في الحبّ حقدُ
وهو نور فلا يضلّ، فكدّ
ويد تبدع الجمالَ وعقلُ
لا تقل "أمّتي" وتجتاحَ دنيا،
نحنُ جار للعالمين وأهلُ
من مسرحية "قدموس"
انت واليخت وان نبحرا
أنتِ، واليختُ، وان نُبحرا
في الرياح الليّنات الهُبوُبْ،
في التعلاّت، وخفْقِ الطيوب،
في الذُرى
من خضَمّ لّيْلّكيّ الغُروبْ،
كادَ، مذ أومأتِ، أن يُزهرا...
أنت، واليختُ، وأن نَغرُبا،
آخِر الأرض، عن العالَمين،
عن عزيف الجنّ، والسامرينْ،
عن رُبى طُرّزَت بالورد والياسمين،
نبتغي، خلف السُهى، مطلبا...
انت، واليخت، وإن ننزلا،
في المساء اللؤلُئي الغيومْ،
شاطئاً نَسْياً باحدى النجوم،
حُمّلا،
منذ ضاحكناه، هَمّ الهموم...
آه! ما اجملَ، ما أجملا!
ألعينيك؟
ألعينيك تأنّى وخطر
يفرش الضوء على التلّ القمر
ضاحكاً للغصن مرتاحاً الى
ضفة النهر رفيقاً بالحجر
علّ عينيك إذا آنستا
أثراً منه، عَرى اليلَ خدر
... وقعُ عينيك على نجمتنا
قصة تُحكى وبثّ وسَمر
قالتا: "ننظُرُ" فاحلولى الندى
واستراحَ الظلّ والنّور انهمر.
مفرد لحظكِ إنْ سَرّحتهِ
طار بالأرض جناحٌ من زَهَر
وإذا هدبُك جاراهُ المدى
راح كونٌ تلوَ كونٍ يُبتَكَر
من مجموعة "رندلى"
ردّني الى بلادي
ردّني الى بلادي
في النياسم الغوادي،
في الشعاع قد تهاوى
عند ربوةٍ ووادي
من هوايَ طبْ وطيّبْ
تربها ومن ودادي.
مرةً وُعِدتُ... خذني
قد ذبلتُ من بُعاد.
إرم بي على ضفاف
من طفولتي بَدادِ
نهرُها ككفّ من أحببتُ
خيّر وصادِ
لم تزل على وفاء
أنا مِ الوفاء زادي.
من مجموعة "دلزى"
من "الخماسيات"
1
أكسّرُ الصبح طالع
كأنّ لَحظيَ سيفْ
والكون منّي واجع...
ياكونُ قد صرتَ واقع
ولم أزل أنا طيف
2
أهلي ربوا في العلاء
كأنهم أمنيه
لخاطري أو إباء
هذي نجوم السماء
من بعدهم أغنيه
3
تسأل: ما الفن؟
باعد عن العلب.
أجمل ما انكتب
السيفُ إن رنّ
والسيف إن غلب
من "خماسيات الصبا"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.