ثمة تساؤل جدّي حول ما يحدث في العالم الآن من أزمة اقتصادية عالمية، ولكن كل ما نستطيع فهمه بعد التحليل هو أن القوة الاقتصادية العالمية التي كانت لقرون عدة حكراً على المجموعات الصغيرة من رجال الأعمال والمصرفيين، والبيروقراطيين السياسيين هي في طريقها إلى الاضمحلال، واليوم فإن أكثر البلدان المتقدمة لا تسعى نتيجة لهذه الأزمة إلى تشجيع حفنة من الأغنياء فحسب، وإنما ستقوم مرغمة بتشجيع شريحة كبيرة من الطبقة المتوسطة التي أسهم بنموها عوامل عدة كانت هي المنتجة للموجة الديموقراطية والثورة التقنية حول العالم، التي ستسهم - دون شك - بدورها في المستقبل المنظور في انهيار العديد من الأنظمة والعقائد المنظمة لمختلف شؤون المجتمعات وبعضها لا يزال قائماً حتى الآن. يفرض علينا الواقع المعاصر الخوض كثيراً كباحثين وإعلاميين وكتّاب في دراسات علمية أو كتابة مقالات جادة حول مسألة تنامي ظهور الطبقة الوسطى"البرجوازية"في المجتمعات العالمية والمخاطر المحدقة بها. ورغم أن مصطلح الطبقة الوسطى هو في واقعه هلامي وفضفاض بسبب افتقاره إلى الدقة العلمية، إلا أنه يضم في حقيقته كتلة واسعة من الفئات الاجتماعية التي تتباين فيما بينها تبايناً شديداً من حيث موقعها من عملية الإنتاج وملكية وسائل الإنتاج الذي ينعكس على حجم ما تحصل عليه من دخل مادي، إلا أن الانسجام يبقى غير موجود في حالة الطبقة الوسطى، لأن ما يسود في الغالب بين صفوف هذه الطبقة ألوان مختلفة من الفكر الاجتماعي والسياسي، لذلك فإن بعض العلماء والباحثين الاجتماعيين والمؤرخين يرون أن من الأفضل أن نتحدث عن طبقات وسطى وليس طبقة واحدة. وما يميز ذوو الياقات البيضاء"الطبقة الوسطى"هو دخل أفرادها الأساسي الذي ينتج عن العمل الغالب عليه الطابع الذهني والتقني، وفي حالة تقسيم هذه الطبقة إلى شرائحها الثلاث"العليا والمتوسطة والدنيا"فإن تركيزي في هذا المقال سيكون على تحليل أوضاع الشريحة العليا في بلادنا العربية، وأفرادها يمثلون النسبة الأقل عادة في كتلة هذه الطبقة من أمثال العلماء والباحثين وأساتذة الجامعات والمعاهد العليا والمديرين وأصحاب المهن المتميزة مثل: الأطباء والقضاة والمحامين والفنانين وكبار الضباط العسكريين والأمن الداخلي والخبراء العاملون في قطاع المعلومات، وأعضاء هذه الشريحة يحصل بعضهم في الدول العربية على دخل مادي مرتفع وذي طابع مميز ونمطهم الاستهلاكي يتميز بالتنوع والغنى، حيث يشتمل على قدر كبير من رموز الاستهلاك الترفي بسبب الفائض الذي ينطوي عليه دخلهم المادي، وقد يكون لدى بعضهم ثروات مادية متنوعة. هذه الشريحة غالباً ما تفرز الكثير من الكتّاب والفنانين وقادة الرأي والزعماء السياسيين، لذلك فإن الأنظمة السياسية العربية دائماً ما تركز على هذه الفئة من الطبقة الوسطى التي تشكل أساس المجتمع العربي، وتحاول بشتى الطرق إعاقة مسيرة بعضها ومحاصرتها فكرياً ومعنوياً ومادياً، خصوصاً في مجال التعليم العالي والإعلام بمختلف وسائله والأدب والفن والقانون، لأن هذه المجالات تحديداً تمثل من وجهة نظري الرحم الحقيقي الذي ينجب للأمة العربية قادة الفكر والإبداع والرأي والثقافة التي بإمكانها أن تقود المجتمعات العربية نحو إيجاد طرق ووسائل للتعبير عن حرية الفكر والرأي والكلمة، وهذا يعد لمعظم الأنظمة السياسية العربية بمثابة الخطر"الأول والأخير"بالنسبة لهم، لذلك نراهم يلجأون إما لتهميش دور بعض هذه المجالات في المجتمع، والتقليل من شأن أهميتها، وأعني بها مؤسسات التعليم العالي التي يعمل بها النخب العلمية العليا أو المؤسسات الإعلامية التي تحاصر رسمياً من أجل ضمان استمرار تبعيتها للدولة وتسخير برامجها الدعائية والإعلامية والرقابية كافة من أجل الدعاية والإعلان لسياسات دولها على حساب واقع ما يحدث لمجتمعاتها. هذه الأسباب تضاف إلى عوامل أخرى مهمة قد تتجه بالشريحة العليا من الطبقة الوسطى إلى انخفاضها في السلم الاجتماعي، نتيجة لاستمرار فرض القيود عليها ومحاصرتها بجميع الوسائل الأمنية والدينية والفكرية، التي تمنعها من التقدم في السلم الاجتماعي وفق سياسات مخططة ومدروسة بدقة، بحيث تحاصر أفرادها بجميع وسائل الإحباط الفكرية والمعنوية والمادية والمهنية، الأمر الذي سيؤدي في المستقبل المنظور إلى انخفاض عدد ليس بالقليل من أفراد هذه الشريحة إلى درجة الشريحة الدنيا التي ستختفي ملامحها خلال العقود القادمة، وتتلاشى نتيجة للتحولات الدولية الاقتصادية والسياسية والبيئية والاجتماعية، وهي شريحة تضم بين صفوفها عدداً كبيراً من صغار الموظفين، خصوصاً الذين يعملون في الوظائف الكتابية والبيروقراطية التي لم تعد مقبولة في عصر الثورة التقنية والعولمة، التي ستفرض عليها - دون شك - وتفتح أمامها الطريق من أجل التطوير المهني التقني الذي يفرضه الواقع المعاصر، أو تظل متمسكة بما ألفته فترضخ بعدها لمصيرها الذي سيمحوها تماماً من سلم الطبقة الوسطى. الملاحظ تاريخياً على الفئة العليا من الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية هو سيادة الطابع الغربي عليها، على الرغم من أن بعض أعضائها لديهم اتجاهات معادية للغرب، وربما يكون معظم الأفراد المنتمين إليها قد تأثروا بالفكر الغربي نتيجة للعولمة بمختلف صورها وأنماطها، وكذلك نتيجة للبعثات الدراسية إلى الخارج وافتتاح الجامعات والمعاهد العلمية الغربية في مختلف عواصم الشرق الأوسط منذ القرن"التاسع عشر الميلادي"، ورغم أن هناك دراسات ومقالات علمية ظهرت في أوروبا تشير جميعها إلى نهاية أو موت الطبقات الاجتماعية بسبب ضعف ترسيمات التبعية في التصورات العامة في بعض الدول الأوروبية إلا أن الجدل لم يُقفل بعد، بل أصبح يتكرر، خصوصاً مع انتشار الديموقراطية والثورة التقنية حول العالم، التي بدورها أصبحت عوامل مهمة تُلزم الطبقات الاجتماعية بفئاتها في جميع دول العالم، خصوصاً العالم العربي، كي تعمل كل شريحة أو فئة على إيجاد"هوية"خاصة بها، بحيث تضم أشخاصاً يعون معنى انتمائهم المشترك، ويندفعون إلى التحرك سوياً في سبيل تحقيق هاجس العمل الجماعي والإصرار على نجاحه، حتى وإن فُرضت عليهم قيود سياسية أو اجتماعية تعوقهم عن أداء مهامهم، لكي يتسنى لهم غرس وإثبات"هوياتهم"في سلم الطبقة الاجتماعية التي ناضلوا كثيراً من أجل الوصول إليها، وتأمين جودة متميزة لحياتهم وسطها. * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر [email protected]