لكل قرية ومدينة طابعها المعيشي وفلسفتها الحياتية، قد تصحو أول النهار وتغفو آخره، وقد تنام هادئة وقد تعيش الصخب حتى الصباح، تلك حال معظم القرى وغالب المدن، فما بالنا إذا تحدثنا عن أم القرى مكةالمكرمة وسيدة المدائن، تلك المدينة التي لا تهدأ على مدار الساعة ولا تعرف للنوم سبيلاً، فهي لا تصحو أول النهار حتى تغفو آخره، وهي لا تنام أبداً بل وترافق الصخب أينما حل. ووسط مدينة كهذه المدينة لا تهدأ ولا تنام، لابد أن تكون هناك أسرار ترسم هذا التفوق وذاك التميز، ولاغرو بأن دعوة سيدنا إبراهيم الشهيرة"رب اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات"، تعد محوراً مهماً ورئيساً في رسم معالم تلك الحياة وأساليب خوض معارك البقاء بين مختلف الطبقات، ويعترف التاريخ لمكة بأنها اشتهرت ومنذ القدم بأسواقها المختلفة وببضائعها المتنوعة والتي كانت تفد إليها من كل أصقاع الأرض نظراً لمكانتها الدينية والتاريخية، خلافاً على أنه يقر لها أيضاً بكونها ممراً رئيساً لقوافل التجارة ومسلكاً للتجار والباعة بمختلف انتماءاتهم. ووسط هذه الاعترافات لم تقف التجارة في مكة مكتوفة الأيدي تستسلم لعبق الماضي وذكريات الصبا بل تطورت وازدهرت مع مرور العصور الماضية ، وكان للمكانة الدينية التي حباها الله بها سبباً في هذا التطور وطريقاً للحفاظ على تلك المكتسبات التاريخية0 عبدالملك فطاني أحد أصحاب الدكاكين القديمة في سوق الليل وأحد الذين عايشوا تلك الحقبة الزمنية قبل خمسين عاماً مضت يقول إن الأسواق في مكة وحتى لعهد قريب وتحديداً منتصف الثمانينات الهجرية كانت تتخذ من ردهات الحرم المكي والأزقة القريبة منه مكاناً لعرض بضائعها ومخدعاً تتكئ عليه تتحين وتنتظر ساعة خروج الحجاج والمعتمرين والزوار من المسجد الحرام بعد انتهاء نسكهم لبيع تلك البضائع، ويضيف الفطاني ويقول لعل من أبرز الأسواق التي اشتهرت بمكة وذاع صيتها في البلدان القريبة سوق الليل وهي إحدى الأسواق القديمة جداً ومتاخمة للحرم المكي الشريف من جهة المسعى، وكانت تضاء بالفوانيس الهندية، وقد سميت بسوق الليل لأن معظم التجار في مكة كانوا يأتون بالبضائع التي لم تبع في أسواق مكة الأخرى خلال النهار ليتم بيعها أثناء الليل نظراً لقربها من الحرم الشريف وعدم انقطاع الحركة فيها أثناء الليل كغيرها من الأسواق التي تتوقف بها الحركة عند حلول الظلام. ويبين الفطاني أن الأمر الغريب في هذه السوق أنه لا تباع فيها إلا وجبة العشاء، وقد أصبحت الآن أثراً بعد عين فقد ذهب رسمها ولم يبق سوى اسمها. عودة الفهمي 75 عاماً أحد تجار المسابح والهدايا السابقين بسوق المدعى يتحدث عن سوق المدعى فيقول كانت المدعى من الأسواق التي اشتهرت في بداية هذا القرن وكانت تتخذ من بوابة المسعى من الجهة الشمالية مكانا لها، وتمتاز هذه السوق بكثرة أزقتها الضيقة، وهي عبارة عن مجموعة دكاكين تصطف جنباً إلى جنب مع بعض البائعين المتجولين وتشهد هذه السوق كثافة غير عادية أثناء موسم الحج وخصوصاً في آخر أيام التشريق وعندما يهم الحاج بطواف الوداع وترك مكة. ويوضح الفهمي أن نجم هذه السوق قد أفل وخفت كثيراً وسط زخم الأسواق المركزية العديدة رغم أن مرتاديها وعشاقها لازالوا يصلونها بين الفينة والأخرى، وعلى جانب آخر يسرد الفهمي قصته مع الأسواق المكية القديمة فيقول أيضاً من الأسواق الشهيرة والتي أزيلت واندثرت وبكى أهل مكة كثيراً لإزالتها السوق الصغير، تلك السوق التي مازال يحتفظ سكان مكة بأجمل الذكريات عنها وعن أيامها ولياليها التي لا تتكرر، كل ماجالت النفس المكية وعادت إلى الوراء قليلاً تذكرت السوق الصغير، وقد كان تلك السوق موجودة إلى عهد قريب حتى تمت إزالتها لصالح مشروع توسعة المسجد الحرام، وكانت تقع بمحاذاة باب السلام من الجهة الغربية للحرم المكي الشريف أمام الخارج من باب الملك فهد حالياً، وأكثر ما اشتهرت به هذه السوق وجود كل ما يحتاجه المرء من المواد والمستلزمات المختلفة كأنواع السجاد الفاخر والتذكارات المحملة بعبق الحرم الشريف والمشاعر المقدسة، إضافة إلى التوابل بانواعها ومواد التجميل الطبيعية إضافة إلى التنوع الهائل للمعروضات وبأسعار رخيصة وفي متناول الجميع.