"الجرهاء" المدينة الكنز التي حيرت العلماء وأبهرت عقول الغربيين، وتأثر بها الشرقيون، وانشق على تحديدها المؤرخون، فمنهم من يحددها بأنها هي"الجرعاء". وأنها كانت قائمة في القرب من"فرضة العقير"الحالية شرقي المملكة، بينما يؤكد آخرون أن جرهاء هي العقير نفسها، وأن الاسم الجديد العقير احتفظ في بنيته بالاسم القديم جرها. فيما يرى سليمان حزين في كتاب منشور له في القاهرة عام 1942م بأن"الجرها هي القطيف"فيما نفى جرجي زيدان أن يكون لهذه المنطقة وجود فلا هي عشيرة ولا قبيلة ولا منطقة إنما هي خيال. ولا يزال الغموض والغرابة يطوقان مخيلة المتبصر في كنه هذا السحر الغريب، ولذلك يسترجع الكثيرون لحظات تنقيب العالم الأثري بيتر بروس كورونوال، عندما زار العقير عام 1950م، حين انتبه لوجود خرائب واقعة قريباً من الساحل، ولذلك قام بمقارنة ما كتبه القدماء، فخلص إلى أن أول إشارة وردت على لسان المؤرخ اليوناني أغاثر سيدس، كما ذكرها بلفيوس واسترابون ويليبوس، أن مهاجرين كالدانيين من أهل بابل نزحوا إلى هذه المنطقة، وأسسوا"جرعاء"في أرض سبخة، وبنوا مساكنهم من حجارة الملح، يعني بها الجص الأبيض الناصع، وهو موجود في الأحساء بكثرة، وتبنى به البيوت حتى وقت قريب، فأصبحت مركزاً من مراكز التجارة المهمّة، وملتقى القوافل التجارية والطرق البحرية والبرية. وقد لعب سكان هذه المنطقة الذين كانوا يدعون بالجرعانيين، دوراً بارزاً ومهماً في اقتصاد البلاد العربيّة، كما قاموا بدور الوسيط بين مختلف الحضارات في العالم، فاتّسع عمران الجرهاء أو"القرحا"كما في بعض التسميات وازداد عدد سكانها، وهرع إليها المهاجرون من كل حدب وصوب، حتى أصبحت هذه المدينة تنافس أكبر المدن في العالم القديم. ومدينة جرعا كانت تتميز بسورها وأبراجها التي كانت مبنية بقطع من صخور الملح، وبيوتها ترش جدرانها بالماء عند ارتفاع درجة الحرارة لمنع تقشرها، ويبلغ محيطها خمسة أميال. وتقع المدينة على مسافة 40 كيلومتراً عن البحر، بحسب وصف بلفيوس الإغريقي. ويذكر العالم استرابون أن سكان"جرعا"جمعوا ثروة طائلة عمادها الذهب والفضة، والأحجار الكريمة، فاقتنوا الرياش الفاخر، واتخذوا من الذهب والفضة كؤوساً، وآنية وآثاراً. وزينوا منازلهم بالعاج والفضة، وطعّموا سقوف أبنيتهم، وأبواب غرفهم بالذهب والأحجار النفيسة الغالية، ومما تذكره كتب التاريخ أنهم كانوا من أغنى أغنياء شعوب الجزيرة، وكانت ثروتهم عظيمة. ومما يذكر أنهم كانوا يتاجرون بالطيب والمر والبخور، وتحملها قوافلهم التي تسلك الطرق البرية إلى مختلف الأنحاء. وقد أورد ارتميدوروس أن مدينة الجرهاء كانت مركزاً من المراكز التجارية الخطيرة، وسوقاً من الأسواق المهمة في بلاد العرب، وملتقى طرق تلتقي فيها القوافل الواردة من العربية الجنوبية، والواردة كذلك من الحجاز ومن الشام والعراق. كما أن الجرهاء كانت سوقاً من أسواق التجارة البحرية، تستقبل تجارة إفريقية والهند والعربية الجنوبية، وتعيد تصديرها إلى مختلف الأسواق بطريق القوافل البرية، حيث ترسل من طريق حائل وتيماء إلى موانئ البحر المتوسط ومصر، أو بالطريق البري إلى العراق ومنه إلى الشام. وما يدعو إلى الغرابة أن كتب التاريخ والمراجع تحدثت بكثرة عن وصف سحر هذه المدينة، إلا أنها لم تذكر سبب سقوطها واندثارها، ما يوحي بشيء من التساؤل عن الكيفية التي اضمحلت فيه آثار حضارة أصدق ما يقال عنها بأنها كنز.