عاش الحرمان الشريفان في أول أيام شهر رمضان المبارك أجواء روحانية خاصة لمسها المواطنون والمقيمون والمعتمرون من زوارهما من بعد صلاة العصر مباشرة إلى أذان المغرب. وشهدت أروقة المسجد النبوي والساحات المحيطة به منافسة بين"الناسفين"بالموائد وطالبي الأجر والمثوبة، إذ إن عدداً كبيراً من أهالي المدينةالمنورة جاؤوا للتنافس في فعل الخير من خلال حجز مكان للمائدة الرمضانية، يبدأ من اليوم الأول من رمضان، وكان بينهم من حافظ على مكان مائدته الرمضانية منذ سنين طوال. كما أن الزوار الآتين"على باب الله"والمساكين، متنافسون في احتلال أغنى الموائد والنسف بخيراتها نسفاً، يثيرون شغف المتبرعين بالزيادة، فيما غاب عن المعادلة حانقون على بسالتهم أكلاً وشرباً. وتسارع الكبار والصغار سواء، إلى تجهيز الموائد للإفطار من كل ما يلزم المائدة ويُسمح بدخوله إلى المسجد النبوي الشريف"الماء والتمر واللبن الرائب والقهوة مع الشريك والدقة". في الساحات المحيطة بالمسجد، تباح الممنوعات في الداخل من الأطمعة، فيسمح بجميع الأطعمة، ما يحيل الموقع إلى حاضن لأكبر مائدة في العالم ربما. الموائد التي تحتوي على الأرز والدجاج واللحم والعصيرات المختلفة إضافة إلى الفواكه، تذهب أبعد من مدّ البصر. ويحرص عدد من الأهالي على تجهيز الموائد الرمضانية على شكل وجبات تكفي لشخص واحد، فيما يعتني آخرون منهم بجلب اللحم والأرز بواسطة القدور العملاقة، لتوزيعها على المائدة مباشرة. وامتلأت أروقة المسجد النبوي والساحات المحيطة بالمصلين الذين قدموا من كل صوب في أجواء روحانية مفعمة بالطمأنينة والإيمان. من جانبها، وفرت رئاسة شؤون المسجد النبوي الشريف كل الإمكانات الآلية والبشرية في داخل المسجد وفي الساحات المحيطة، فخلال دقائق جرى رفع مخلفات الموائد الرمضانية وقبل أن تقام صلاة المغرب بواسطة عربات نظافة متخصصة بنظافة الرخام والبلاط. وفي الحرم المكي، شهد الحاضرون أجواء مماثلة امتازت بالطواف حول البيت، وتسابق أهل الخير"ربان الموائد"أيهم يحظى بشرف بسط"سفرته"الرمضانية على بعد أمتار من الكعبة المشرفة، وكثيراً ما تلعب الإمكانات دورها، والعلاقات الشخصية أدوراً هنالك. الكثيرون يلجأون إلى التعاون مع"المحتاجين"من رواد الحرم لحجز أماكن لموائدهم، وتجهيزها، إلا أن تلك المظاهر الخيرة باتت في السنوات الأخيرة، بعد كثرة الزوار مهددة بالغياب. وفي آخر أيام الشهر الفضيل، يستحيل بسط السفر داخل صحن الحرم، ما يدفع أربابها إلى الهجرة إما إلى الساحات الخارجية أو إلى ناحية من نواحي البيت العتيق. وما بين لحظات العبادة، وارتقاء الروح الايمانية، تتسلل لحظات دعابة وأنس إلى المرابطين في صحن الحرم عند مشهد أحد المسرعين، وهو ينزلق فيرتفع إلى أمتار لأعلى ويهوي ساقطاً، ثم يلملم ثيابه ويذهب. ينظر بغيظ للمتعهدين بالافطار، ثم يتذكر في غمرة غضبه أنه كان قبل يسير يخسف بمافي تلك"السفرة"خسفاً. ما أجمل البيت العتيق! تسعد وتضحك، وتبكي خشوعاً، وتزداد إيماماً، وأنت في مكانك لم تبرح!