منذ اسبوعين بالكاد، رُوِّعت طرابلس، وهي المدينة التي يحلو للبيانات الرسمية اللبنانية نعتها بالعاصمة الثانية. أغرقت في دماء أبنائها في وقت صلاة الجمعة، بل وتحديداً، لحظة خروج المصلّين من جامعين استهدفتهما سيارتان مفخختان بشكل قصد اكبر قدر ممكن من الإيذاء. سقط ما يربو على خمسين قتيلاً ومئات الجرحى. حتى الآن، الأمر"عادي"ويمكن أن يحدث في أي مكان من العالم، والحيلة لدرئه ضعيفة. بعد تلك اللحظة المروِّعة، يتوقف أي شيء عادي، وندخل في سجل ما هو مذهل: بعد الانفجارين المهولين، أسعف الناس بعضهم بعضاً، مَنْ جراحه أقل ساعد أصحاب الاصابات البليغة، ومَنْ أمكنه نقل جريح بسيارته المدنية فعل ولم يتأخر، بينما كان الناس يحاولون اطفاء الحرائق بالأدوات المنزلية المتوافرة. ذلك أن لا سيارات اسعاف كافية في طرابلس، وهي عموماً تابعة لمستشفيات خاصة او لجمعيات قليلة، على رأسها الصليب الاحمر، وهو الاكثر فعالية. ولا سيارات لإطفاء الحرائق ربما كانت هناك شبه سيارة إطفاء عرجاء واحدة تابعة للبلدية. لملم الناس الأشلاء بأيديهم العارية، حتى يقال انه وُضعت أشلاء مختلَطة في كيس واحد، أي لأشخاص مختلفين. فقد هرع الناس الطيبون متطوعين للمهمة، بعدما تأخر حضور المختصين كثيراً، وتأخرت قوى الأمن أكثر. مضت ساعتان أو ثلاث، والناس متروكون لشأنهم، يتدبرون الامر كما يمكنهم، وسط هرج ومرج لكان سواهما مستغرَباً. حسناً، يقول المرء لنفسه، لا يمكن بلحظة تدارك عقود من الاهمال الرسمي للمدينة، بل والتخلي بالمعنى الحرفي للكلمة. والتفجيران كشفا فداحة الوضع فحسب. ولكن، وبعد ايام قليلة من انشغال الإعلام بطرابلس، وبؤسها، وغراباتها الايكزوتيكية ومنها مجموعاتها السلفية، وبعد بضعة اجتماعات سياسية وأخرى رسمية حول طرابلس ومن أجلها... عاد كل شيء الى سالف عهده. تُركت طرابلس تلعق جراحها. نُسي الامر. يقال إن الصدمات مفيدة أحياناً. ولعل ما جرى أعاد الى الواجهة تلك الطيبة الطرابلسية المشهورة، وميل أهل المدينة الى التآلف والتراحم واستعدادهم للهفة والنخوة، وهي ما زالت هنا، رغم كل شيء - رغم البؤس، حيث أكثر من نصف سكان المدينة تحت خط الفقر، ورغم الاهمال الذي يولد الضغائن - ما زالت هناك قيم تُذكر ويُعتد بها في تقويم الناس. هناك قصص تُروى في هذا المجال، وكلها جميلة. فقد كشف هول ما جرى أن مصلحة الاهالي العميقة هي في تلاحمهم واهتمامهم بالشأن العام، والخروج من حالة السبات التي كانت طاغية، وهي أشبه بسكون يائس. ومن ذلك اندفاعٌ عام ملحوظ، وخصوصاً شبابي، لاستعادة زمام الامور. وهذا مكسب اكيد وثمين، لو أمكن البناء عليه لعوّض بشكل من الأشكال الخسائر البشرية والمادية الفادحة التي لحقت بالمدينة جراء الفعل الإجرامي. ولكن ذلك وحده لا يكفي. والمقصود هو سؤال علاج ما كشفه التفجير لجهة أوضاع المدينة بعامة. وهو سؤال على مستويين، واحد يتعلق بالدولة والآخر يتعلق بالنخبة الطرابلسية، ومنها وزراء ونواب وفعاليات اقتصادية ومهنية عليا. فعدا عن إعلان وزارة الصحة تغطيتها لنفقات علاج الجرحى، لم يبد على الدولة أنها قادرة او راغبة بالحضور. ولكن أي دولة؟ قيل لو كانت هناك حكومة معتمدة لربما تغير الوضع، مما يمثل خلطاً بين هذا المستوى السياسي - العابر بالضرورة حتى حينما يكون مستقراً - وبين المؤسسات الراسخة الدائمة المستقلة عن الحكومات الراحلة والآتية. تلك هي الدولة، وهي واهنة أصلاً في لبنان بسبب الصيغة التي حكمت نشوءه، وقد تغولت عليها السلطات السياسية/الطائفية/الزعامتية، فجعلت القليل القائم منها مزارع لفسادها. كان في طرابلس مستشفى حكومي فعلي في سالف الزمان، فهل يمكن بجدية السؤال عن أحواله الراهنة ومصيره، بينما يحتضر المستشفى الحكومي الحديث والعملاق المنشأ في بيروت، بسبب التنافس على نهبه واستخدامه لمصلحة نفوذ هذا او ذاك، او للحيلولة دون تباهي هذا أو ذاك به. وإن كانت تلك حال بيروت، التي هُندس كل شيء في البلد من أجل ازدهارها، في جنوح كبير الى اعتبارها واجهة لبنان ومكان تجسّد عبقريته، فكيف بطرابلس التي هندس كل شيء في البلد من أجل سحقها بوصفها المتمردة، التي لطالما شعرت بكيانيتها الخاصة، لكونها بقيت طويلاً مركز ولاية، والجانحة دوماً الى كل ما يخاطب أطراً أوسع من البلد الصغير. هل هي صدفة أن تكون في طرابلس نقابات للمهن الحرة كالأطباء والمهندسين والمحامين، مستقلة عن النقابات المركزية للمهن نفسها، التي تمثل كل سائر لبنان، والتي تقيم مقراتها في بيروت. استسلمت طرابلس منذ زمن، لم تعد تتطلع الى مكانة العاصمة ولو الثانية، ولكن ما زالت هناك صعوبة غامضة في إدراجها في لبنان. وأما المستوى الثاني الذي يخص نخب المدينة، فهو محير حقاً. فمقدار شعور هؤلاء بعدم مسؤوليتهم عن احوال مدينتهم لافت. وأبناء تلك النخبة أشكال وأنواع، ولكن يجمع بينهم جميعاً اطمئنان عميق بأن حالهم الخاص لا يرتبط بالحال العام، أي أن"زعامتهم"أو وجاهتهم هي بشكل ما حق لهم، لا يقابله انخراطهم الإجباري في خدمة المصلحة العامة لمدينتهم. ولعل ذلك يعيدنا الى ضعف مفهوم المصلحة العامة في لبنان اجمالاً. وعلاوة على ذلك فلعل"استقلال"طرابلس، الذي كان يتوقع منه ان يعزز الشعور بالمسؤولية عن المدينة وأهلها لدى تلك النخبة، شريحة وأفراداً، قد ادى على العكس من ذلك، الى ترسيخ مفهوم"اقطاعي"عن الزعامة بمعنى من المعاني، لا سيما أن التغييرات الاجتماعية في طرابلس قد كانت قليلة داخل هذه النخبة التي تجددت بنسب أضعف مما جرى في سائر المدن والمناطق، ولم تواجه المدينة تحديات الانفتاح على سائر البلد وعلى العالم، إن اقتصادياً أو تجارياً او سياسياً وثقافياً... بينما اكتسح ريف فقير المدينة، المأزومة اصلاً والعاجزة عن استيعابه. طرابلس تمثل تحدياً كبيراً. فأي مشروع دولتي في لبنان، على المديين المباشر والبعيد - لو وجد - عليه البرهان عن حيويته فيها قبل سواها، وإنهاء هذه الحالة الشاذة المستديمة التي تعيش في ظلها. وينطبق الامر نفسه على أي سلطة عامة تقرر أنها تمثل كل البلد.