انتخاب هالا توماسدوتير رئيسة لأيسلندا    فرصة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    بناءً على ما رفعه سمو ولي العهد خادم الحرمين يوجه بإطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق الرياض    كاميرات سيارات ترصد العوائق بسرعة فائقة    أمير الرياض يرعى تخرج المعاهد والكليات التقنية    الصمعاني: دعم ولي العهد مسؤولية لتحقيق التطلعات العدلية    33 ألف منشأة تحت المراقبة استعدادًا للحج    جامعة "المؤسس" تعرض أزياء لذوات الإعاقة السمعية    "أكنان3" إبداع بالفن التشكيلي السعودي    وصول أول فوج من حجاج السودان    الخريجي يشارك في مراسم تنصيب رئيس السلفادور    السعودية و8 دول: تمديد تخفيضات إنتاج النفط حتى نهاية 2025    المؤسسات تغطي كافة أسهم أرامكو المطروحة للاكتتاب    «التعليم» تتجه للتوسع في مشاركة القطاع غير الربحي    «نزاهة»: إيقاف 112 متهماً بالفساد من 7 جهات في شهر    أمير تبوك يعتمد الفائزين بجائزة المزرعة النموذجية    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    نتنياهو.. أكبر عُقدة تمنع سلام الشرق الأوسط    السفير بن زقر: علاقاتنا مع اليابان استثنائية والسنوات القادمة أكثر أهمية    محمد صالح القرق.. عاشق الخيّام والمترجم الأدق لرباعياته    اكتمال عناصر الأخضر قبل مواجهة باكستان    عبور سهل وميسور للحجاج من منفذي حالة عمار وجديدة عرعر    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    رونالدو يغري ناتشو وكاسيميرو بالانضمام للنصر    القيادة تهنئ الشيخ صباح الخالد بتعيينه ولياً للعهد في الكويت    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    حجاج الأردن وفلسطين : سعدنا بالخدمات المميزة    انضمام المملكة إلى المبادرة العالمية.. تحفيز ابتكارات النظم الغذائية الذكية مناخيا    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    ماذا نعرف عن الصين؟!    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    الصدارة والتميز    9.4 تريليونات ريال ثروة معدنية.. السعودية تقود تأمين مستقبل المعادن    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    الحجاج يشيدون بخدمات « حالة عمار»    الأزرق يليق بك يا بونو    توبة حَجاج العجمي !    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات تحت مسمى "رالي السعودية 2025"    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لوليتا في طهران
نشر في الحياة يوم 28 - 07 - 2009

في خريفِ عام 1995، وبعد استقالتي من آخرِ منصبٍ لي في الجامعة، قررتُ إطلاقَ العنانِ لنفسي، وإشباع رغبة في روحي لتحقيق أحد أحلامي. فاخترتُ سبعةً من أفضلِ طالباتي وأكثرهنّ التزاماً، وقررتُ دعوتهنّ الى بيتي صباحَ كل خميس لنخوضَ معاً في مناقشاتٍ في الأدب. كنّ نساءً طبعاً، فالتورّط في تدريس مجموعةٍ مختلطةٍ من الطلبةِ داخل البيت كان أمراً لا يخلو من المخاطرة، حتى لو اننا لم نتعدَ حدودَ المناقشات الأدبيةِ الصرف التي لم تكن لتسيءَ الى أحد. بيد أن طالباً مثابراً واحداً أصرّ على الاحتفاظ بحقّهِ في الانضمام الينا، على رغم أنهُ مُنِعَ من ذلك. وكان هذا هو"نيما"، الذي راح يقرأ المواد المقررة، وراح يزورني في أيامٍ محددة من الاسبوع لكي نناقش أنا وهو كل الكتب التي كنا ندرسها.
كنت غالباً ما أُناكفُ طالباتي وأُذكّرهنّ ب"ربيع الآنسة جين برودي"ل"ميريل سبارك"، فأسألهنّ:"من منكنّ ستخنّي في آخرِ المطاف؟"، فأنا بطبعي متشائمة، وكنتُ متيقنةً تماماً من أن واحدةً منهنّ على الأقل ستنقلبُ ضدّي ذات يوم. فوجدتُ"نسرين"تشاكسني بخبثٍ ذات مرة وقد استهوتها الفكرة:"ولم لا؟ انت نفسكَ قلتِ لنا مرةً إننا جميعاً في المحصلة النهائية خائنون لأنفسنا، فكلٌ منا يضمرُ في داخله يهوذا لمسيحهِ الخاص!"فنبّهتنا"مانا"قائلةً إنني لستُ"الآنسة برودي"على أية حال، وهن أيضاً لسنَ سوى أنفسهن. وذكرتْ لي عبارةً كنتُ مهووسةً بإعادتها على مسامعهنّ مراراً:"إياكنّ... تحت وطأةِ أيّ ظرفٍ كان... أن تقلّلنَ من قيمةِ أيّ عملٍ أدبي بأن تجعلْنه نسخةً كاربونية من الواقع. لأن ما نبحثُ عنهُ في الأدب هو ليس الواقع تماماً، وإنما هو الاحتفاء بإظهار الحقيقة، مثلما يحتفلُ النصارى بعيد الظهور".
ومع ذلك، أعتقد أنني اذا ما سلكتُ درباً معاكساً لنصائحي، وفكرتُ بانتقاءِ عملٍ ادبي يعكسُ واقعنا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن هذا العمل لن يكون بأي حال:"ربيع الآنسة جين برودي"، ولا حتى:"1984"، بل ربما يكون:"دعوةٌ لضرب العنق"ل"نابوكوف"... او... انني ربما أجدُ أقرب الأعمال حتى الآن هو:"لوليتا".
بعد عامينِ على إنشاءِ صفّنا الخاص في صباحاتِ الخميس، وفي ليلتي الأخيرة في طهران، مر بي بعضُ الأصدقاء والطالبات لتوديعي ومساعدتي في الانتهاء من حزم الحقائب. كنا قد أفرغنا بيتنا من كلّ محتوياته، فتلاشتِ الأشياءُ وبهتتِ الألوانُ وتحوّلت كلها الى ثماني حقائبَ رصاصية. فبدتِ الألوانُ مثل أكثرِ من ماردٍ ضالٍ يتلاشى وهو ينسحبُ عائداً الى قمقمه. حينئذٍ وقفتُ انا وطالباتي عند الحائطِ الابيض العاري، والتقطنا صورتين فوتوغرافيتين.
ها إن الصورتينِ أمامي الآن: تظهرُ في الأولى سبعُ نساءٍ يقفنَ أمام حائطٍ أبيض، وقد اتشحْنَ بأرديةٍ وأغطية رأسٍ سود وفقاً لقانون البلاد. كل شيءٍ فيهنّ مغطى ما خلا دوائرَ من الوجوهِ والأيادي. وفي الصورةِ الثانية، تبدو المجموعةُ ذاتُها وهي تقفُ الوقفةَ ذاتَها أمام الحائط ذاته. بيدَ ان الاختلاف الوحيدَ هو أن مجموعةَ النساء تبدو هذه المرة بلا أغطية. فتبرزُ بقعُ الألوان لتميّزَ النساءَ عن بعضهن... تبدو الملامحُ أوضح والتفاصيلُ أدقّ لكل امرأةٍ من لونِ وشكلِ ملبسها أو لون وأسلوبِ تصفيفها لشعرها، بل ولم تتشابه أيضاً المرأتانِ اللتان لم تخلعا غطاء الرأس.
المرأة في اقصى اليمين هي شاعرتنا:"مانا"ببلوزتها البيضاء، ال"تي شيرت"، وبنطلونها الجينز."مانا"تنظم الشعر في أشياء لا يعبأ بها معظمُ الناس. بيد ان الصورة لا تُظهر ذلك الغموضَ الفريدَ الذي تنطوي عليه عينا"مانا"الغامقتان، عينان هما نافذتا عزلتها وطبيعتها الانطوائية.
والى جانب"مانا"تقفُ"مهشيد"، وقد أظهرَ إيشاربها الأسودُ الطويلُ تناقضاً صارخاً مع ملامحها الرقيقةِ الناعمة وإبتسامتها الخجولة. كانت"مهشيد"قوية وجيدة في كثير من الامور، بيد انها كانت مرهفة حساسة، حتى اننا أطلقنا عليها لقب:"سيدتي". لقد اعتادتْ"نسرين"ان تقول:"اننا اذ أطلقنا لقب"سيدتي"على"مهشيد"، لم نعرّف بها فقط، وانما أضفنا الى كلمة"سيدتي"بعداً آخر". و"مهشيد"إنسانة حساسة جداً، فهي مثل البورسلين تنكسر بسهولة، كما وصفتْها"ياسي"ذات مرة، ولذا فهي تبدو في غاية الرهافة في عيونِ من لا يعرفها جيداً، لكن الويل الويل لمن يغضبها.
وتستطردُ"ياسي"بعفوية:"اما انا فمثل البلاستكِ القديم... لا أنكسرُ مهما فعل الآخرُ بي!". كانت"ياسي"الطالبةَ الأصغرَ في مجموعتنا تبدو في الصورة مرتديةً اللونَ الأصفر، وتميلُ جانباً وهي تغصّ بالضحك. كنا نتعمّدُ ان ندعوها:"ممثلتنا الهزلية"لإغاظتها. لقد كانتْ بطبعها خجولة، لكن بعض الأشياء كانت تثيرها الى الحدّ الذي يجعلها تفقدُ زمام نفسها، وكان في نبرةِ صوتها تشكيكٌ وسخريةٌ من نفسها قبل الآخرين.
أما انا، فأبدو في الصورة مرتديةً البني، أقف الى جانب"ياسي"وقد احتضنَتْ إحدى ذراعيّ كتفَها. وتشخصُ خلفي مباشرةً"آذين"، أطول طالباتي، بشعرها الأشقرِ الطويلِ وبلوزتها الوردية ال"تي شيرت". ها هي تضحك مثلنا جميعاً، بيد ان إبتسامةَ"آذين"لا تشبهُ أي ابتسامة. فهي توحي بأنها إستهلالٌ لنوبةِ ضحكٍ صاخب لا يقاوم، بل ان"آذين"تشعّ بابتسامتها المميزة تلك حتى وهي تصفُ لنا آخر مشكلاتها مع زوجها. لقد كانت دائماً عنيفةً وجريئة، وكانت تستمتعُ وهي ترى وقعَ تصرفاتها علينا وتعليقاتها الصادمة، وغالباً ما كانت تصطدمُ مع"مهشيد"و"مانا". وقد أطلقنا عليها لقب"المتوحشة".
الى الجانب الآخر مني تقف"ميترا"التي كانت ربما المرأة الأهدأ منا جميعاً. كانت تبدو مثل ألوان الباستيلِ التي ميّزت لوحاتها: باهتةً وكأنها تميل الى الانسحاب دائماً الى عالم أكثر شحوباً. بيد أنها خبّأت في غمازتيها الخارقتين جمالاً مبهراً يفوقُ التصور، الغمازتين اللتين إستطاعتْ بهما فعلاً ان توقعَ الكثيرَ من العتاة كضحايا... فتجعلهم طوعَ يمينها... بغمازة.
في الصورة ايضاً تبدو"ساناز"وهي متشبّثة بذراع"ميترا". كانت"ساناز"، بضغطٍ من الأهلِ والمجتمع، تتأرجحُ ما بين طموحها ورغبتها في الاستقلال، وبين خنوعها وحاجتها الى نيل الرضى.
كان الكل يضحك. وكان"نيما"، شريكنا المتخفي، هو الذي التقط لنا الصورة."نيما"هو زوج"مانا"، وكان سيصبحُ ناقدي الحقيقي الوحيد، لو أنهُ فقط تحلى بشيءٍ من المثابرة لكي يستكملَ تلك المقالاتِ المذهلة التي كان قد ابتدأ بها ذات يوم ولم ترَ النور.
وأيضاً، ثمة شخصٌ آخر:"نسرين"....
كانت الثيمة الأساسية في صفنا الخاص هي رصدُ العلاقةِ ما بين الخيالِ والواقع، بين الكتابة والحياة. فقرأنا كلاسيكياتِ الأدبِ الفارسي، مثل حكاياتِ سيدة الخيال عندنا:"شهرزاد"في"ألف ليلة وليلة"، مثلما قرأنا كلاسيكيات الأدب الغربي، مثل:"الكبرياء والتحيز"و"مدام بوفاري"و"ديزي ميللر"و"ديسمبر الكاهن"، وأيضاً... وبلا شك:"لوليتا".
يا إلهي! كلما كتبتُ عنوانَ كتاب، أجد الذكريات تنهمرُ في رأسي مثل المطر، فتشاكسُ هدوءَ هذا اليوم الخريفيّ الذي أقضيه في غرفةٍ اخرى ومدينة غير تلك المدينة.
ها أنا أرى نفسي الآن جالسة في ذلك العالم الغريب الذي غالباً ما كان يظهر لنا بغتة من بين سطورِ نقاشاتنا، فأُعيد استذكارَ نفسي وطالباتي، او"بناتي"كما خلصتُ الى تسميتهنّ، ونحن ندرسُ"لوليتا"في غرفةٍ توهّمنا أنها مشمسة في طهران. وإذا فكرتُ في أن أسرقَ الكلماتِ من فمِ"هومبرت"، الشاعر المجرم في قصة"لوليتا"، فسأقولُ إنني بحاجة اليك انت ايها القارئ. سأحتاجُ منك ان تتخيّلنا لأننا لن نظهر فعلاً اذا لم تفعل. حاول ايها القارئ ان تتخيّلنا، بعيداً من سطوةِ الوقتِ والسياسة. حاولْ ان تفعل ذلك بصيغةٍ لم نكنْ نحن أنفسنا أحياناً لنجرؤ عليها. تصوّرنا مثلاً ونحن في لحظاتنا الأكثر حميميةً وسريةً من سواها، او ضمنَ تفاصيلِ حياتنا الأكثر عادية. تخيّلْنا إذ نحن نستمع الى الموسيقى ونقع في الحب ونتمشى في الشوارع الظليلة، او ونحن نقرأ"لوليتا"... في طهران. ثم حاولْ أن تتخيّلَنا مرةً اخرى، وقد صودرَ منا كلّ ذلك ودفنَ تحت الرمادِ، حتى لم يعد لذلك العالم من وجود.
إنني اذ اكتبُ عن"نابوكوف"اليوم، فإنما أفعلُ ذلك فقط احتفاءً بدراستنا ل"نابوكوف"في طهران، بعيداً من أي اعتباراتٍ اخرى. ومن مجملِ رواياته فكرتُ في أن أنتقي آخر ما درّستُ لطالباتي، او تلك التي ارتبطت عندي بالكثير من الذكريات:"لوليتا". لن استطيعَ الكتابةَ عن هذهِ الرواية اليوم، من دون الكتابة عن طهران.
هذه اذاً هي قصة"لوليتا"في طهران، وكيف أنها لوّنتْ طهران بلونٍ مختلف، وكيف ان طهران استطاعتْ ان تعيدَ التعريفَ برواية"نابوكوف"، حتى خلقَتْ منها هذه ال"لوليتا"المختلفة:"لوليتا"الخاصة بنا وحدنا.
... يذكرنا"نابوكوف"في مقدمته للطبعة الإنكليزية لروايته"دعوة لقطع العنق"1959 بأن هذه الرواية لا تقدم"كل شي لكل الناس"، بل إنها غير معنية بهذا تماماً. ويقول:"انها مثل كمانٍ يعزفُ في الفراغ". ويستطرد قائلاً:"بيد أنني مع ذلك أعرفُ بعض القراء الذين يقفزون واقفين نافشين شعورهم، وهم يقرأونها".
حسناً... اليكم ما حصلَ بدقة: لقد تم طبع النسخة الأصلية تباعاً في حلقات عام 1935، كما يخبرنا نابوكوف. وبعد حوالى ستة عقود، في عالم يجهله نابوكوف ولا سبيل لأن يعرفه تحت أي ظرف، في غرفة معيشة بائسة ذات شبابيك تطلّ من بعيدٍ على جبال بيضاءَ القمم، صار المشهد يتكررُ مرة بعد اخرى"حتى وجدتُ نفسي شاهدة على أولئك القراء النادرين وهم يفقدون صوابهم، ويقفزون واقفين نافشين شعورهم.
تبدأ رواية"دعوة لقطع العنق"بإعلان حكم الإعدام على البطل الرقيق سينسيناتس سي بتهمة"فساد الروح""فقد كان غامضاً في مكانٍ كان يطالب كل مواطنيه بالوضوح والشفافية. ان السمة الرئيسة التي تميّز ذلك العالم هي العشوائية. وليس للمحكوم عليه سوى امتياز وحيد هو معرفة موعدِ إعدامه. ومع هذا، فإن الجلادين يحرمونه حتى هذا الحق، جاعلين بذلك كل يومٍ يمرّ به وكأنه يوم الإعدام. وإذ تمضي أحداث الرواية، يتنامى لدى القارئ عدم الارتياح إذ يكتشفُ حجم الزيف الذي يغلف هذا المكان الغريب. فالقمر الذي يظهر من الشباك زائف، والعنكبوت على الزاوية زائف على رغم انه من المفترض أن يكون الرفيق المخلص للسجين، وفقاً لمعطيات الحوار. ويتضحُ للقارئ أن مديرَ السجنِ والسجان ومحامي الدفاع هم جميعاً شخص واحد بعينه، ولكنه يقوم بتبديل مواقعه. أما الشخصية الأهم فهي شخصية الجلاد، الذي يتم تقديمهُ في البداية للسجين على انه زميلٌ مسجون، ويُمنحُ إسماً مستعاراً: مسيو بيير. فيكون على السجين والجلاد ان يحبّ أحدهما الآخر وأن يتعاونا يوم تنفيذ الحكم، الذي سيتم الاحتفال به في مهرجانٍ بهيج. وفي خضمِ هذا الجو الممسرح الزائف، تكون الكتابةُ هي الشباك الأوحد ل"سينسيناتس"، وكوّة النور الوحيدة الى عالم آخر.
يتضحُ لنا أن عالم هذه الرواية هو عالمٌ كاملٌ من الطقوس الجوفاء. ويبدو لنا كل فعل في هذا العالم خالياً من اي جوهر او معنى. فيبدو حتى الموت مشهداً مسرحياً أو مهرجاناً يشتري من أجله المواطنون الطيبون تذاكر الدخول. ولولا تلك الطقوس الجوفاء لما أصبحتِ الوحشية والقسوة ممكنة وعادية الى هذا الحد.
التدريس و"ألف ليلة وليلة"والشاي
لماذا توقفتُ عن التدريس فجأة؟ كنت قد سألت نفسي هذا السؤالَ مراراً. هل كان ذلك بسببِ مستوى الجامعةِ الذي بدأ ينحدر؟ ام بسببِ اللامبالاةِ التي بدأتْ تتفاقمُ أكثرَ فأكثر وسط ما تبقى من أساتذةٍ وطلبة؟ أم بسببِ المعاناةِ اليوميةِ مع القوانين والتعليماتِ الكيفيّة؟ ابتسمتُ وأنا أحك بشرتي بقطعة الليفِ الخشنة، وأنا أتذكرُ رد فعلِ المسؤولين في الجامعة أمام كتاب استقالتي، إذ كانوا بدأوا يزيدون من مضايقتي، ويقيّدون حركتي بشتى الوسائل: بالتجسسِ عليّ وعلى زوّاري، او بتحديد نشاطاتي، وبالمماطلة لسنواتٍ في منحي استحقاقي بالتثبيتِ كأُستاذة. ولكنني حين قدمتُ استقالتي، عمدوا الى إغاظتي بادعاء التمسكِ بي فجأة، وبرفض الاستقالة. وكان الطلاب قد هددوا بمقاطعةِ المحاضرات تضامناً معي ما أشعرني بشيء من الرضا، انني أدركتُ بعد حين أن طلبتي قاطعوا فعلاً من أُريدَ له ان يحلّ محلي، على رغم ان الإدارة كانت قد هددتهم بالانتقام. وكان الجميعُ متيقناً من أنني سأنهارُ في نهايةِ المطاف وأعدلُ عن فكرتي لا محالة ....
كان أول عملٍ أدبي نطرحهُ للمناقشةِ هو"ألف ليلة وليلة"، تلك الحكاية المعروفة عن الملك المخدوع الذي كان يذبحُ كل يوم زوجةً عذراء جديدة ثأراً لكرامتهِ التي هدرتْها خيانة الملكة، حتى كفّ يديه الدمويتين بعض الوقت حينما سلبتْ لبّهُ راويةِ الحكايا"شهرزاد". وضعتُ لطالباتي بعض الأسئلة العامة ليتأملْنَها او يبحثنَ فيها. وكان السؤال الأهم هو: كيفَ يمكنُ هذه الأعمال الخيالية العظيمة ان تساعدنا وتنير لنا طريقنا كوننا نساء سقطنَ في شركٍ من الظروف العصيبة؟ لم نكن نبحث عن خطة منهجية او عن وسيلة سهلة لإيجاد الحلول، بقدر ما كنا نتمنى فعلاً ان نجد العلاقة بين الفضاءات المفتوحة التي تمنحها الروايات وبين المساحات المغلقة التي تضيق بنا. أتذكرُ انني قرأتُ لبناتي عبارة نابوكوف:"لقد ولد القراءُ أحراراً ولا بد لهم من ان يبقوا كذلك".
... كانت النسخةُ التي قرأناها من"ألف ليلة وليلة"تقع في ستةِ أجزاء، وكنتُ لحسن الحظ قد اشتريتُ نسختي قبل ان تمنعها الرقابة فتباعُ في السوقِ السوداء بأثمانٍ باهضة. فوزّعتُ الأجزاء على طالباتي، وطلبتُ منهنّ، للمحاضرة المقبلة، أن يقمنَ بتبويبِ الحكايا وفقاً لنمطِ النساء اللواتي لعبنَ الدور الأهم في كل قصة.
وما إن عيّنتُ لهنّ الواجب للمحاضرةِ المقبلة حتى طلبتُ أن تحكي لنا كل طالبة: لماذا اختارت ان تقضي نهارات الخميس هنا، تناقش"نابوكوف"و"جين اوستن"؟ فجاءتْ كل الإجاباتِ تقريباً مختصرة ومتكلفة. ولكي أُذيب حاجز الجليد بيننا، اقترحتُ جواباً مغايراً، فكان:"من اجل اللهو والاسترخاء، وتناول بعض المعجنات والشاي".
وهذا سيحيلنا مرة اخرى الى تلك اللحظة التي أدخل بها الى غرفة الطعام وأنا أدفع عربة طعامٍ فضية غير لامعة تضمّ ثمانية أقداحٍ للشاي. وإعداد الشاي وتقديمهُ يعدّان طقساً جمالياً احتفالياً في إيران، طقساً يقامُ مراتٍ متعددة في اليوم. فنحن نقدّمه في أقداح شفافة، صغيرة وذات شكل مميز، والاكثر شيوعاً منها تلك المسماة ذوات الخصور النحيلة: وهي أقداحٌ مدوّرة مفتوحة في قمتها، وضيقة من الوسط، ثم مدوّرة ومنتفخة من القعر. ومن لون الشاي ونكهته المميزة يستطيعُ المرءُ أن يحدسَ مدى براعة الشخص الذي أعدّه.
يظنون أنهم في سويسرا
ما اشبه الحياة في الجمهورية الإسلامية بتقلباتِ الطقس في شهر نيسان ابريل، حينما تفاجئنا السويعاتُ القصارُ لإشراقةِ الشمسِ وهي تفتح البابَ لزخّاتِ المطر والعواصف. لم يكنْ في الامكانِ حتى التنبؤ بما قد يحدث. كان النظام يدخلُ في دواماتٍ من التسامحِ الذي تباغتهُ القوانين الصارمة من دون سابقِ إنذار. وكنا آنذاك، بعد حقبة من الهدوء النسبي او ما يسمى باللبرلة، قد دخلنا من جديدٍ في مرحلةٍ من المعاناة المفاجئة. وأصبحتِ الجامعات مرة اخرى هدفاً لانتقادات المتشددين الذين صارَ شغلهم الشاغل فرضَ قوانين جديدة أكثر صرامة. فراحوا يطالبون بفصلِ الذكورِ عن الاناث في الفصولِ الدراسية، وبمعاقبة الأساتذةِ غير الملتزمين بالتعليمات والضوابط الجديدة.
كانت جامعة"العلّامة الطباطبائي"، حيث كنت أعمل منذ عام 1987، قد تميّزت بكونها الجامعة الأكثر ليبرالية بين جامعات طهران. وسرَتْ إشاعة أن أحدَ المسؤولين من وزارةِ التعليم العالي سأل باستنكار ما اذا كان منتسبو الكلياتِ في جامعة العلّامة يظنون أنهم يعيشون في سويسرا! وكانت كلمة"سويسرا"قد أصبحتْ تعبيراً شائعاً لوصف الانحلال في الغرب، وصار اي برنامج او نشاطٍ غير إسلامي يُستهان به بإطلاق عبارة ساخرة تقول: ان إيران أصبحت"سويسرا"بلا شك. بيد ان الضغطَ على طلبةِ الجامعة كان أقوى وأعنف. وكم كنت أشعر بالعجز كلما استمعتُ الى تفاصيل المعانات التي لا تنتهي، والتي كان يتعرض اليها طلبتي كل يوم!
فإذا ما أسرعَتْ طالبةٌ لتلحقَ بالدرس، عاقبوها على الهرولة! وإذا ضحكَتْ عاقبوها على الضحك في الممرات! وأيضاً، كانوا يعاقبونها إذا ما ضُبطَتْ وهي تتحدّث مع أحدٍ من الجنس الآخر! ذات يوم، اقتحمتْ"ساناز"قاعةَ الدرسِ قبل نهاية المحاضرةِ بقليلٍ وهي تبكي. ومن بين سيل دموعها المنهمرة استطعتُ ان أفهمَ أنها تأخرتْ لأن حارساتِ البوابةِ عثرنَ على أحمر خدودٍ في حقيبتها عند التفتيش، وكنّ قد حاولنَ إعادتها الى البيت مع كتاب توبيخ!
* مقاطع من كتاب آذر نفيسي"لوليتا في طهران"الذي تصدر ترجمته العربية قريباً عن"منشورات الجمل"بتوقيع ريم قيس كبة.
نشر في العدد: 16916 ت.م: 28-07-2009 ص: 22 ط: الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.