على الأقل، اثنان من كبار المبدعين في الفن السابع في القرن العشرين، اقتبسا مسرحية ماكسيم غوركي الشهيرة"الحضيض"، وبالاسم نفسه: جان رينوار في فرنسا، وآكيرا كوروساوا، في اليابان. الأول عند نهاية ثلاثينات القرن العشرين، والثاني أواسط خمسيناته. والحقيقة أن هذا التحديد التاريخي يبدو لنا، هنا، مهماً، انطلاقاً من الأوضاع السياسية التي كانت مخيمة على البلدين المذكورين في كل من التاريخين. فحين حقق جان رينوار فيلمه عام 1936، من بطولة ممثله المفضل جان غايان، كان التهديد النازي للعالم كبيراً، لكن فرنسا كانت تعرف حكم"الجبهة الشعبية"اليساري الذي كان رينوار من دعاته ومؤيديه، ومن هنا الجهود التي بذلها للتخفيف من سوداوية النص الأصلي وتفاؤليته. أما حين حقق كوروساوا فيلمه، عام 1957، ومن بطولة توشيرو ميغوني، الذي كان ممثله المفضل كذلك، فإن اليابان والعالم كانا يعيشان بؤس مرحلة ما - بعد - الحرب العالمية الثانية التي كان ضوء آخر النفق فيها لا يزال بعيداً. ومن هنا ما يقال دائماً من أن"إمبراطور السينما اليابانية"كوروساوا كان من أكثر مقتبسي نص غوركي، محافظة على روحيته السوداوية ونظرته المرعبة الى الشرط الإنساني. والحقيقة إننا إذا كنا ذكرنا هنا رينوار وكوروساوا، فإنهما لم يكونا سوى اثنين من عشرات المبدعين الذين، طوال القرن العشرين، دنوا من مسرحية غوركي هذه، وفي شتى البلدان وأصناف الفنون. إذ هنا، لا بأس من ذكر أن ما من مخرج مسرحي، وما من مبدع سينمائي، إلا وفكر مرة أو أكثر في أن يعيد، بعمل إبداعي ما، ليس فقط إحياء"الحضيض"، بل تفسيرها أيضاً. ومع هذا، حين قدمت المسرحية، عام 1902، من قبل مسرح الفن، للمرة الأولى عام 1902، بإخراج قسطنطين ستانسلافسكي، هاجمها النقاد بشدة، وكان في مقدم المهاجمين انطون تشيكوف، الذي كان يعيش آخر أيامه في ذلك الحين وذروة شهرته كواحد من أكبر المؤلفين المسرحيين في روسيا والعالم، ولقد كان المأخذ الرئيس لتشيكوف على"الحضيض"، كون الفصل الرابع والأخير فيها لا لزوم له على الإطلاق، إذ رأى أن الشخصيات الأساسية والدرامية حقاً، اختفت منذ الفصل الثالث. بحيث أن كل الشخصيات التي بقيت حتى النهاية، لا أهمية لها. كذلك كان من مآخذ تشيكوف أن ثمة شخصيات تبدو خارجة عن السياق البارون، الممثل، وغيرهما بحيث كان يمكن، طالما أن المسرحية طبيعية ورمزية، اختصارها في شخصية واحدة. فإذا أضفنا الى هذا النقد الذي أورده تشيكوف أن المسرحية من دون حبكة تتصاعد من بدايتها حتى نهايتها، يصبح أمامنا مجموع الانتقادات التي ما فتئت تطاول"الحضيض"منذ مئة سنة وأكثر. غير أن الطريف في هذا كله هو أن ماكسيم غوركي، انضم، بعد فترة يسيرة من العرض الأول ل"الحضيض"الى طائفة منتقديها... بل انه في أحاديث ونصوص له كثيرة، تبدى أكثر قسوة من تشيكوف. أما حين ذكره كثر، بأن المسرحية قد حققت نجاحاً كبيراً وإقبالاً منذ عروضها الأولى لم يفته أن يعزو النجاح الى ستانسلافسكي المخرج قائلاً إن إخراج هذه المسرحية أنقذها !. لكن الغريب هو أن ماكسيم غوركي الذي عاش أكثر من ثلاثة عقود من السنين بعد ذلك، لم يعمد الى تعديل نص المسرحية، أو إحداث أية إضافات فيها، هو الذي كان، في كل مرة تعرض"الحضيض"في روسيا، أو مترجمة في العالم، يجدد انتقاداته ويبدي دهشته للنجاح، خصوصاً لتقبل الناس عملاً فنياً لا حبكة فيه. مهما يكن من أمر، منذ البداية، لم يعد ماكسيم غوركي قراءه أو مشاهدي المسرحية بأية حبكة. ذلك أن هذه المسرحية التي تحمل عنواناً عاماً هو"الحضيض"، حملت دائماً، وبقلم غوركي عنواناً ثانوياً هو"مشاهد من الحياة الروسية". والحقيقة التي من شأنها أن تثير دائماً مزيداً من الدهشة، هي أن"الحضيض"حقاً، مجموعة مشاهد من الحياة الروسية، فما الذي جعل أمماً أخرى تقتبس هذه المشاهد مطبقة إياها على أحوالها الخاصة... بل وصل الأمر بكوروساوا، الى حد اقتباس العمل حرفياً، مع جعل"الأحداث"تدور في ملجأ في اليابان؟ ليس ثمة، على هذا السؤال، جواب واضح. فقط يمكننا أن نرصد بدهشة، إعجاب المبدعين والجمهور، من دون النقاد، بعمل تدور"أحداثه"كلها في ملجأ للفقراء المعدمين في مدينة نجني نوفغورود الروسية، عند منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين، أي في وقت كانت روسيا، تغلي بالثورة وبأوضاع اجتماعية تعد لتلك الثورة التي سرعان ما اندلعت فعلاً عام 1905، لكنها أجهضت لتعتبر"بروفة عامة"لثورة 1917. ويقول لنا دارسو عمل غوركي أن المأوى الذي جعله مكان"أحداث"الرواية كان موجوداً بالفعل. وخبره غوركي من قرب، ويبدو ان اختباره له دام زمناً طويلاً، بحيث أنه حين أنجز النص وتقرر أن يخرجه ستانسلافسكي ضمن إطار موسم"مسرح الفن"، طلب غوركي من الممثلين، أن يعيشوا بعض الوقت في مأوى نجني نوفغورود، ويختلطوا بسكانه كي يكونوا أقدر على أداء أدوارهم، وهذا ما كان بالفعل. بل تقول الحكاية أيضاً، أن غوركي، حين قدم النص للمرة الأولى، الى قسطنطين ستانسلافسكي، أرفقه بمجوعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية للمكان وزواياه، والمقيمين فيه وزواره. وكان غوركي يتطلع الى أن يكون العمل نسخة طبق الأصل عن الحياة. وتقديم البؤس، نسخة طبق الأصل عن البؤس نفسه. بعد هذا كله، هل علينا أن نطرح السؤال حول ما تقوله هذه المسرحية؟ إنها تحدثنا فقط، كما بات واضحاً حتى الآن، عن مجموعة من المعدمين، المنبوذين، من حثالة المجتمع حتى وإن كان بينهم من ينطبق عليه الوصف العربي"عزيز قوم ذل"، يعيشون في ذلك المأوى. بالكاد للواحد منهم ماض، وبالكاد يمكن أياً منهم أن يتطلع الى مستقبل. إنهم هنا معاً، لا يحلمون بشيء، وبالكاد يتذكرون شيئاً. وربما لا يعرفون أي شيء عن العالم الخارجي. يعيشون يوماً بيوم، يأكلون كيفما اتفق، وينامون كيفما اتفق. وهم إذا كان لهم، بين الحين والآخر، أن يغضبوا، فإنهم يغضبون على بعضهم البعض، ضد بعضهم البعض. وحين يقترف واحد منهم جريمة قتل، يكون الضحية كالمجرم، من أبناء الحثالة. ولعل في إمكاننا هنا أن نذكر بأن انتقاداً إضافياً من تشيكوف، كما من غير تشيكوف لاحقاً، كمن هنا: تساءل النقد عما إذا كان من الصواب أن يمر، مرور الكرام، مشهد القتل، وهو أصلاً الحدث الوحيد المهم في المسرحية، من دون أن يترك أية آثار في مسار المسرحية. لقد تساءل تشيكوف هنا: ما الذي منع غوركي من أن يطور ذلك الحادث خلال الفصول التالية ما كان من شأنه أن يجعل لها حبكة؟ في الحقيقة كانت أسئلة النقاد دائماً كثيرة في شأن"الحضيض"، ومع هذا، فإن أياً من الأسئلة لم ينقص من قيمتها لدى الجمهور الذي كان ? ولا يزال ? مستعداً لمشاهدتها وتفحص تلك"المشاهد من الحياة الروسية"ولو مقدمة إليه من داخل مأوى مظلم تلوح فيه القذارة والبؤس، وما يصنعه ظلم المجتمع للبشر حتى ظلم الإنسان بالتالي لأخيه الإنسان. بل إن الغريب في الأمر أن أياً من المبدعين الذين اقتبسوا مسرحية غوركي هذه، في السينما أو في غيرها، بمن فيهم رينوار وكوروساوا، لم يفكر في إحداث قلبة"حديثة"تطرأ عليها في اقتباس من الاقتباسات. وحتى مكسيم غوركي الاسم المستعار لألكسي بشكوف 1868 - 1936 الذي اعتبر خلال الثلث الأول من القرن العشرين، أديب الثورة الروسية الأكبر، هو الذي كان صديقاً لتولستوي كما للينين لاحقاً، لم يفكر في ذلك. مهما يكن كان غوركي على أية حال أكثر انشغالاً بالثورة وبكتبه الكثيرة، من أن يفعل، وكذلك كانت حاله منذ مجيء ستالين للسلطة، ومناصبته إياه عداء كان خفياً، ثم صار علنياً الى درجة أن كثراً يقولون اليوم أن غوركي حين مات، إنما مات مسموماً بأمر من ستالين. [email protected] نشر في العدد: 16751 ت.م: 13-02-2009 ص: 14 ط: الرياض