درسان جديدان معبّران شهدهما العالم أخيراً يفترض أن يتعلم منهما العرب، وأهل الحل والربط بالذات، اضافة الى الدروس الكثيرة التي مرت عليهم، لكنهم بكل أسف لم يتعلموا منها ولن يتعلموا. كما يفترض أن تتعظ منها اسرائيل ولكنها لم تتعظ ولن تتعظ حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا. الدرس الأول هو: اعتقال الزعيم الصربي رادوفان كاراجيتش بعد سنوات من الهروب والاختباء والتخفي ليحال مخفوراً الى محكمة لاهاي الدولية ويحاكم بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية على خلفية الجرائم الوحشية التي ارتكبها مع غيره من قادة الصرب والمذابح التي نفذوها بحق النساء والرجال والأطفال المسلمين البوسنيين خلال حرب البوسنة والهرسك. فليس هناك جريمة بلا عقاب مهما طال الزمن، ولا يضيع حق إنسان تعرض لظلم أو قتل أو إرهاب مهما حاول المجرم أن يهرب من الحساب، ويوم الحساب عسير في الدنيا والآخرة، وهذا ما حصل لكثيرين كان آخرهم السفاح الصربي الآخر سلوبودان ميلوسوفيتش الذي مات ذليلاً خلال محاكمته. أما الدرس الثاني فيتمثل في توجيه التهم للرئيس السوداني عمر البشير والتوصية بإصدار مذكرة توقيف بحقه على خلفية المذابح المشينة وجرائم القتل والاغتصاب التي جرت في دارفور التي تعيش كارثة فتن وحروب مدمرة منذ عقود عدة من دون أن تتمكن السلطات الحاكمة من إيقافها ومعاقبة المسؤولين عنها وتطبيق حكم العدالة بحقهم وحماية السكان المدنيين العزل وإعادتهم الى ديارهم بعد أن أجبروا على النزوح والتعرض لشتى أنواع الذل والمهانة والحاجة والجوع والضياع. وهناك من دافع عن البشير من حيث المبدأ لاعتبارات عدة، من بينها الاحتجاج على حصر الملاحقات بحق العرب والمسلمين، في اطار تكرار الحديث عن نظرية المؤامرة ضدهم، ولكن محاكمة كاراجيتش وميلوسوفيتش وغيرهما تدحض ذلك لأن هؤلاء من القادة الصرب الذين لوحقوا بسبب ارتكاب مذابح ضد المسلمين، وهذا ما حصل في كوسوفو المسلمة أيضاً. وهناك من دافع عن البشير من باب التضامن مع رئيس عربي لا يجوز أن يتعرض للمحاكمة والمهانة وهو يمثل شعباً ودولة ذات سيادة. وهناك من دافع عن البشير من منطلق استبعاد مسؤوليته عن حرب دارفور وتأكيد محاولته السعي لوقفها وقبول إرسال قوات أفريقية تحت راية الأممالمتحدة الى مناطق التوتر والعنف. ومع كل هذا لا بد من تسجيل مسؤولية النظام السوداني عن كل ما يجري في السودان من الجنوب الى الشرق والوسط، ومن دارفور الى كسلا ومناطق النوبة، أولاً من مبدأ مسؤولية الدولة والسلطة الحاكمة، وثانياً من منطلق وجوب عدم الانحياز الى فئة ضد فئة أخرى بخاصة وأن هذه الحرب المشينة تجري بين مسلمين عرب سودانيين ومسلمين أفارقة سودانيين. كما أن هذا النظام لم يجلب على السودان سوى الخراب والدمار وتدمير المؤسسات منذ أن تمرد على السلطات القائمة على أسس ديموقراطية والمنتخبة من الشعب في انقلاب عسكري 30 حزيران/ يونيو 1989 يحمل شعار"ثورة الإنقاذ"، قام على أسس دينية اسلامية وشارك فيه الدكتور حسن الترابي زعيم الجبهة القومية الاسلامية ثم تخلى عن مبادئه وانقلب على الترابي. وأخشى ما أخشاه أن تتسارع التطورات وتتلاحق الأحداث فينتهي السودان كدولة وكوحدة وتعم الحروب والفتن وتنجح مؤامرة التقسيم والتفتيت مما يهدد الأمن القومي العربي، لا سيما أمن مصر والسعودية، ويثير فتناً بين الأفارقة والعرب وينهب ثروات هذا البلد العربي العريق الذي يوصف بسلة الغذاء العربي من دون أن ننسى ما اكتشف فيه من ثروات معدنية ونفطية: يورانيوم وآبار نفط في الجنوب ودارفور بالذات تم التعتيم عليها مما يفسر سر الاهتمام الدولي بالسودان ومشاعر المحبة الطارئة التي هبطت عليه فجأة. الدرس المطلوب الاستفادة منه، قبل فوات الأوان، يتطلب مسارعة نظام الحكم الى تكريس كل متطلبات الوحدة الوطنية والتخلي عن أنانيته ونزعاته للسيطرة والتفرد بدعوة جميع الأحزاب والقيادات، من دون أي استثناء أو تمييز، للمشاركة في حكومة وحدة وطنية تمهد لانتخابات عامة حرة ونزيهة وشفافة تحت اشراف دولي لينطلق من رحمها نظام حكم قوي وقادر على لجم الأمور ووقف الحروب وتحقيق مصالحات كاملة بين جميع الأفرقاء ومنع التدخل الدولي من أي جهة أتى، وعندها يمكن الدفاع عن الرئيس البشير وغيره وحمايته من أي تهديد، بل وإحاطته بكل مظاهر الاحترام والتقدير ليدخل التاريخ من بابه الواسع كزعيم تخلى عن الحكم من أجل الوطن وضحى بنفسه من أجل الشعب، فالسلطة تأتي وتذهب بلمح البصر ولكن ما يبقى راسخاً هو الاسم والفعل والخير والشرف والتضحية. هذا الدرس كان يمكن أن يتعلم منه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لو استمع الى نداءات العقل والحكمة وضحى بنفسه لإنقاذ العراق، ولكنه مضى في غيه حتى الرمق الأخير واستمر في تعنته منذ الحرب العراقية - الايرانية مروراً بغزو الكويت ورفض كل مساعي حل الأزمة بالانسحاب المشرف وصولاً الى الحرب الأخيرة: ضاع العراق تحت وطأة الاحتلال الأميركي وسادت الفتن العرقية والطائفية والمذهبية ونهبت الثروات وضاع الشعب بين قتيل وجريح ومهجر ومهاجر ومقهور ومظلوم ومغلوب وغالب فيما يحوم شبح التقسيم والتفتيت وتنتشر رايات الإرهاب والعنف على رغم ما قيل عن تراجع العمليات وفتح الباب على مصراعيه للتدخلات الأجنبية، وفوق كل ذلك دمر صدام نفسه وسمعته وشرفه وعائلته. فاعتقل وأهين وحوكم وأعدم بأسلوب وحشي غير انساني شهد قبله مصرع ولديه عدي وقصي وتشريد عائلته في ديار المنفى. من هذه الدروس يجب أن نأخذ العبر ونعمل على وقف مسيرة التدهور الناجمة عن الارتكابات الفظيعة بحق أوطاننا وأمتنا وشعوبنا: ديكتاتورية وتفرد وطغيان، نهب وفساد وهدر، صراعات وحروب وفتن، عنف وإرهاب وتطرف، سجون وظلم واعتقالات تعسفية وأحكام ظالمة واعدامات، قتل وتدمير واغتيالات وانتهاكات لحقوق الانسان. كل هذه الموبقات أدت الى نهاية مأسوية واحدة: خراب وخيبات أمل وتشرذم وانقسامات وخلافات وضياع وفقر مدقع ونزيف ثروات وأدمغة وخبرات وشباب هم عماد الوطن، ولا حل إلا بالعودة الى العقل والتعامل مع الأحداث بحكمة ومرونة وعقلانية وكسر القيود التي أدمت أيادي الشعوب وكممت أفواهها. لا حل إلا بالوحدة الوطنية والديموقراطية والحرية التي هي أساس أي نجاح ومنطلق أي تقدم واصلاح وتطوير، ولا حل إلا بالمشاركة ووقف التفرد وسيادة القانون على اساس العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان: فالعنف يولد العنف والدم يستجلب الدم وأي منطق يعتمد على القهر وفرض الأمر الواقع بالقوة مصيره الفشل مهما طال الزمن، والتاريخ شاهد حي على ذلك ولو كان هذا الوضع متوفراً لما سقط العراق بمثل هذه السرعة ولما تهاوت بغداد والمدن الأخرى وكأنها بنيان كرتوني. لا بد أن ينتصر الحق ويهزم الباطل لأن ما بني على باطل فهو باطل، وأن القوة في النهاية هي للحق ولن يكون الحق للقوة حتى ولو عربدت وادعت أنها منتصرة. ويكفي أن نشير إلى أمثلة تهاوي نظام صدام البوليسي وانهيار المعسكر الاشتراكي وزوال الاتحاد السوفياتي بعد 70 سنة من الحكم بالحديد والنار وارتكاب المذابح بحق الملايين ومصرع الملايين في حروب عبثية وتهجير الملايين وتفريغ مدن بكاملها ونفي سكانها إلى سيبيريا ومحاربة الأديان واضطهاد رجال الدين ومعاقبة المؤمنين. أما الدروس العامة التي لم تتعلمها اسرائيل فهي مشابهة ونتيجتها مماثلة، فمهما طال زمن الاحتلال سيأتي يوم تدفع فيه ثمن جرائمها... ومهما تجبرت وعربدت وفرضت وهددت وهجّرت من العرب، أبناء فلسطين الأصليين، فإن الخاتمة ستكون بهزيمتها لأن ما بني على باطل فهو باطل في فلسطين أيضاً. وتجربة حرب تموز في لبنان بداية لنهايات أكبر، فإذا لم يتعظ الإسرائيليون ويرضخوا لإرادة السلام ومبادئ الشرعية الدولية، فإن العواقب ستكون وخيمة عليهم. وهذا ينطبق على الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول التي ما زالت تتحدث عن"القوة العظمى"وعن"العصا الغليظة"وعن القدرة على شن حربين في آن واحد، حسب نظرية المحافظين الجدد المتصهينين في الولاياتالمتحدة التي سقطت على أبواب عاصمة الرشيد. ونأمل أن تستوعب الولاياتالمتحدة هذا الدرس بعد تجربتي العراق وأفغانستان وبعد فيتنام طبعاً، فالحرب لا تحل مشكلة بل تزيدها تعقيداً... السلام هو الحل، وحقوق الدول والشعوب هي المخرج من أي أزمة، وفي أي حدث. وما دامت الولاياتالمتحدة تقف على عتبة تغيير رئاسي وسياسي يجب علينا أن نذكرها بوقائع صعود الامبراطوريات وسقوطها ونعيد إلى الأذهان مشاهد النهايات المأسوية الدرامية لدعاة الحروب والانتصارات الوهمية: من الاسكندر الكبير إلى هينبعل الذي هزم الرومان ووصل إلى مشارف روما بعد انتصارات كبرى انتهت بهزيمة مدوية هرب فيها من ساحة المعركة وحيداً ذليلاً. وهذا ما حصل لجنكيزخان وتيمولنك ولنابليون، الامبراطور الذي هزم الامبراطوريات الأوروبية ووصل إلى أبواب فلسطين، ثم لهتلر المنتصر في البدايات والمهزوم والمنتحر في النهايات ومعه موسوليني - الدوتشي - الذي اعدم ملعوناً مهاناً. والسجل طويل وحافل للامبراطوريات التي تهاوت وللقياصرة الذين سقطوا شر سقطة، وللأبطال الذين تحولوا إلى أقزام في لمح البصر وبينهم قادة عرب لا داعي لرش الملح على جراح ذكراهم والتذكير بالمصائب التي جلبوها على أمتهم. إنها النهاية الحتمية لكل من يظن أنه قادر على قهر الشعوب وتحقيق الانتصارات بقوة السلاح. السلام يبني والمحبة تعمر والتسامح يحقق المعجزات. أما الحروب فهي خاسرة حتى ولو انتصر أصحابها إلى حين، ومعهم كل من يلجأ للعنف ويختار الإرهاب سبيلاً لتحقيق مآربه أو التعبير عن قناعاته ومبادئه حتى ولو كانت محقة وعادلة. دروس كثيرة حبذا لو تعلمنا منها وأخذنا العبر واتعظنا من التجارب المريرة التي مرت بأمتنا عبر العصور، مع أن الدلائل كلها تشير إلى عكس ذلك لا سيما ما جرى أخيراً في لبنان ثم في فلسطين بين"حماس"و"فتح"من اقتتال وانتقام بين الاخوة، فيما الأعداء تغمرهم السعادة شماتة بهم وبعارهم الذي ما بعده عار! * كاتب عربي