في الدول المتقدمة هناك تقاليد وأعراف وواجبات تقضي بالتحرك فور وقوع أي حدث أو حلول مناسبة ما لدراسة الأبعاد والخلفيات والأسباب والنتائج ولانعكاسات وتحديد الدروس المستخلصة لتقديمها لأصحاب القرار أولاً ثم عرضها على الشعب مباشرة للاطلاع على الحقائق وتكوين رأي عام واع من أجل الاستفادة منها وتجنب تكرارها، أو على الأقل تلافي أخطارها. مراكز دراسات وأبحاث حكومية وخاصة وبرلمانية وقانونية وإعلامية تكلف رسمياً بإجراء مثل هذه الدراسات والأبحاث، أو تتطوع للقيام بها، أو تنطلق من جامعات كبرى تكلف كبار أساتذتها ومحاضريها بهذه المهمة الكبرى لتكون بمتناول الطلاب على مدى الأجيال وتتحول الى مادة تدرَّس لهم أو تضاف الى المواد المتخصصة والمتعلقة بها مثل العلوم السياسية والاقتصاد والتاريخ. هذه الميزة التي تختص بها الدول الديموقراطية تعتبر في ديارنا العامرة ترفاً أو مجرد أوراق وملفات وكتب ترمى في سلة المهملات أو في أدراج النسيان ورفوف المكتبات المغبرة. ومع الأخذ في الاعتبار بعض الاستثناءات والمبادرات الايجابية يمكن الجزم بأن معظم الأحداث والعواصف والمصائب والأزمات تمر مرور الكرام من دون أن نتعظ بها أو نأخذ الدروس والعبر منها أو بذل الجهد قليلاً للتعمق في مكوناتها وتقديم بحث موضوعي وحيادي عن مفاعيلها ووسائل تجنب حدوثها في المستقبل. انها سياسة النعامة ودفن الرؤوس في الرمال ورفض الاعتراف بالوقائع منعاً للإحراج طالما أن المنطلقات فردية ومصلحية على طريقة"أنا على حق والكل على باطل"، أو"أنا العظيم الذي لا يخطئ ولا يتحمل مسؤولية عواقب سياساته والكوارث الناجمة عنها". يضاف الى ذلك هذا العداء المستشري للقراءة والاستخفاف بمؤسسات البحوث والدراسات واستخدامها من قبل البعض كمطية للتهليل له ولسياساته وللتقليل من الانتقادات والتعتيم على الحقائق والوقائع وتحديد النتائج والمسببات والاضرار والخسائر بدقة وموضوعية وصولاً الى استخلاص الدروس المطلوبة لتلافي تكرار ما حدث. فالمؤمن لا يلدغ من جحره مرتين، ونحن لدغنا مئات المرات ولم نتعلم، والفاشل هو من يكرر الوقوع في الخطأ نفسه مرات ومرات ويقع ثم يقوم ليعيد الكرة على رغم أن"التكرار يعلم الحمار"كما يقول المثل، ويضيف"ان الحمار لا يقع في حفرة مرتين لأنه يتعلم من الوقعة الأولى ويحيد عن الحفرة"بينما نحن نقع كل يوم في الحفرة التي نصبها الآخرون لنا أو نصبناها لأنفسنا أو"لأخينا"، ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها! هذه المقدمة وجدتها ضرورية ومناسبة لاستعراض أحداث عام صعب نودعه بلا أسف وندعو الله أن لا يعيده علينا بالشكل نفسه والصورة والأبعاد والآثار والمفاعيل. فقد كان عام 2008 عاصفاً على مختلف الأصعدة ارتكبت فيه الكثير من الأخطاء والخطايا وتعمقت فيه الخلافات العربية - العربية والأزمات الداخلية. وزاد الطين بلة ختامه الدرامي عبر الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي وصلت طلائع شظاياها الى ديار العرب لكن الآثار الحقيقية لم تصل بعد وينتظر أن تكون كارثية في حال عدم التنبه لمفاعيلها واتخاذ الاجراءات العملية والقرارات الحاسمة لتحصين الذات ومجابهة سهامها السامة التي ستدفع ثمنها غالياً الشعوب الفقيرة والطبقات التي تعيش على حافة الفقر والجوع. في كل حدث درس، وفي كل مفترق طرق عبرة لمن يعتبر، ولكن لا حياة لمن تنادي، فالأحداث تتكرر والأخطاء تتلاحق والتاريخ يعيد نفسه والعرب يعيدون تجاربهم المريرة وكأن شيئاً لم يكن أو كأنهم لم يكتووا بنار خطاياهم وإصرارهم على ارتكاب المعاصي بحق أوطانهم وأمتهم وأجيالهم. ففي درس فلسطين الصارخ شهد العام المنصرم أفدح الجرائم بيد ابنائها فضربت من بيت أبيها ومن حركات كان يفترض أنها الحامي والضامن والمناضل من أجل التحرير وتحقيق آمال الشعب وتأمين حقوقه المشروعة. شقوا الصف وفرقوا خريطة الآمال وفصلوا غزة الباسلة عن وطنها الموعود وساد الشقاق بين ضفتيها عبر"حماس"و"فتح"فيما العدو الاسرائيلي يعربد ويهود ويقيم المستعمرات الاستيطانية ويرفض التنازل قيد أنملة عن شروطه التعجيزية ومخططاته التوسعية الجهنمية وصولاً الى ختام الظلم بإحياء الدعوات العنصرية لترحيل عرب فلسطين الصامدين منذ عام 1948 وفق خطة"الترانسفير"المشؤومة. والدرس الأول الذي لم يتعلمه أصحاب الشأن هو أن الخلافات والشقاقات تؤدي بالقضية الفلسطينية الى التهلكة وتمنح العدو الذرائع للرفض والوقت لمواصلة مخططاته. فقد شهدنا على مدى الخمسين سنة الماضية خلافات وشقاقات وانشقاقات وحالات تمرد وقيام عشرات المنظمات والفصائل والحركات المتناحرة فيما العدو موحد حول هدف واحد وإن اختلفت الرؤى السياسية وتعددت الآراء والتكتيكات والمناورات من دون أن تؤثر على الاستراتيجية الصهيونية العامة، وهذا ما تأكد مرة أخرى عند سقوط ايهود اولمرت في فخ الفساد والاستعداد لانتخابات عامة يمكن أن تعيد"الليكود"المتطرف الى الحكم في اطار خطة تبادل الأدوار. أما الدرس الثاني فهو يرتبط بالدرس الأول المتعلق بضرورات توحيد الصف ونبذ الخلافات من أجل تحقيق الهدف الأسمى وهو استعادة الحقوق وتحرير الأرض وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، فلم نتعلم بعد أن السلام لا يتحقق إلا بالوحدة وأن الرهان على الآخرين مصيره الفشل. وهنا أيضاً مر عام كامل والرهان على وعود الرئيس جورج بوش والرحلات المكوكية لوزيرة خارجيته ووعود الدولتين واجتماعات اللجنة الرباعية وبدعة"انابوليس"وصيغتها الفاشلة وخريطة الطريق التي لا تدل على شيء بل تزيد من الضياع و"التوهان"في مجاهل السياسات الدولية والانحياز الأعمى والتخاذل العربي. أما في العراق فالدروس لا تعد ولا تحصى وازدادت وضوحاً العام الماضي من خلال أحداثه التي شكلت مفترق طرق في مصير هذا البلد العربي المنكوب، فقد حسمت الولاياتالمتحدة أمرها وأقرت بالفشل وعمدت الى تسريع ولادة اتفاق أمني لشرعنة وجودها بعد زوال مظلة الأممالمتحدة عن القوات الأميركية المحتلة، والسؤال الكبير المطروح في العالم الآن هو: هل تعلمت الولاياتالمتحدة من الدرس القاسي وأخذت العبر؟ وهل تخلت قياداتها عن نظريات مجانين المحافظين الجدد حول الهيمنة على العالم وإقامة الإمبراطورية الأميركية والقدرة على شن حربين في آن واحد وعن التخلي عن الحلفاء والأممالمتحدة والتفرد في القرارات؟ وهل فهم القادة الأميركيون معنى ضربة الحذاء في وجه بوش من قبل صحافي عراقي ودعه على طريقته؟ يبدو ان الدرس قد أعطى ثماره وهو ما تجلى في قراءة نتائج انتخابات الرئاسة الاميركية والأجواء السائدة بعد انتخاب باراك أوباما، اول رئيس اسود ومن أب مسلم كيني يدعى حسين، ثم من ملامح سياسته الخارجية المعلنة وهويات الفريق الذي اختاره لمساعدته. والسؤال الذي نطرحه كعرب هو: هل استوعب القادة العراقيون والعرب الدرس بعد كل ما جرى بداية من ديكتاتورية صدام وحكم الفرد والعناد وصولاً الى غرائز التقسيم والتقزيم وأحلام اقامة كيانات ومشاريع الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية؟ تلك هي المسألة لأن المضي في مثل هذه السياسات مآله الفشل بعد ارتكاب المزيد من المذابح والقتل والدمار بحيث لا ينجو أحد منها وتكون عواقبها مدفوعة الثمن من قبل كل انسان عراقي. الوضع العراقي اليوم يقف على مفترق طرق، لكن الايجابي الوحيد في أحداث العام المنصرم تمثل في انخفاض حدة الأعمال الارهابية وانحسار المقاومة والتفاف الغالبية حول مفهوم الدولة بعد تشكيل مجالس الصحوة وعودة السنة العرب الى ممارسة دورهم المطلوب بعد محاولات ظالمة لتهميشهم ومحاصرتهم وتشويه صورتهم بربطهم بمزاعم الارهاب. ولا شك ان المقاومة أدت دورها في جعل مهمة الاحتلال مستحيلة ثم في حمله على الاعتراف بالانسحاب خلال عامين على رغم محاولات الالتفاف على الاتفاق الأمني وتكرار الحديث عن اقامة قواعد دائمة وعن البقاء في المدن. وفي لبنان كما في العراق أحداث دامية ودروس ضائعة في كلمات متقاطعة لا يبدو ان الحل قريب ولا كلمة السر معروفة أو متاحة. فقد تواصلت دوامة الاغتيالات من دون الكشف عن خيط واحد من خيوط التحقيق فيما لجنة التحقيق الدولية تحزم حقائبها للانتقال الى لاهاي على وعد بأن تحول نتائج التحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه الى المحكمة الدولية في مطلع آذار مارس المقبل. كما شهد العام الماضي أحداثاً مؤسفة كادت تؤدي الى حرب أهلية وفتنة طائفية سنية - شيعية وهي ما عرفت بأحداث 7 أيار مايو عندما استخدم"حزب الله"للمرة الأولى سلاحه في الداخل وانتشر مسلحوه في بيروت ومشارف الجبل بعد خلافات واتهامات وتشنج مستمر منذ ثلاثة أعوام. ولكن الحكمة انتصرت في النهاية وتم التوصل الى"اتفاق الدوحة"الذي سهل انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وبدء حوار مع سورية لإقامة علاقات ديبلوماسية وفتح صفحة جديدة بين البلدين، ومواصلة الحوار الوطني فيما يستعد الجميع لانتخابات نيابية حاسمة في أيار 2009. وهنا ايضاً يطرح السؤال: هل اتعظ اللبنانيون من دروس الأحداث؟ وهل ما جرى في العام 2008 سيشكل بداية لنهاية الأزمة اللبنانية المستمرة منذ 30 عاماً؟ وهل سيتم التوصل الى اتفاق حول سلاح"حزب الله"والاستراتيجية الدفاعية وغيرهما من القضايا الخلافية؟ كل الدلائل تشير الى ان أحداً لم يتعلم من الدروس ويأخذ العبر، بل على العكس يبدو ان التهدئة الحالية تشبه الى حد بعيد هدوء ما قبل العاصفة إذا استمرت التحديات والعنتريات والتهديدات والعناد في المواقف. الارهاب بدوره خفت حدته خلال العام المنصرم إلا من بعض العمليات المحدودة في الجزائر وغيرها اضافة الى رواسب وبقايا ما يسمى"فتح الاسلام"التي تناثرت بعد تحطيم قيادتها في حرب مخيم نهر البارد وسط تساؤلات عن الخطوة التالية وعن الدرس الكبير الذي يفترض أن من لجأ الى هذه الفتن قد وصل اليه، وهو ان العنف يولد العنف وان الارهاب نهايته وخيمة على اصحابه وعلى أمتنا، وان السبيل الأمثل هو التمسك بتعاليم الدين والعمل بالدعوة وبالموعظة الحسنة والحوار. وهذا ما تأكد بعد نجاح الدعوة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار بين الأديان وتوج بقمة الأممالمتحدة في نيويورك. أحداث كثيرة متقاطعة مرت بها أمتنا خلال عام 2008 لا مجال لحصرها من بينها ما جرى في السودان وطلب تسليم رئيسه ودرسه أن الحكم عدالة وقانون وان الأنظمة العسكرية لم تجر على بلدها وشعوبها سوى الخراب والدمار والفقر والحروب والتهجير. أما الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية فدروسها أكبر وتحتاج الى بحث مستفيض، لكن بكلمة واحدة يمكن القول ان ما جرى يجب ان يدفع العرب الى الاستثمار في ديارهم والكف عن بعثرة الأموال في الخارج وان عليهم ان يخشوشنوا فإن النعم لا تدوم وان يحافظوا على قرشهم الأبيض ليومهم الاسود. وداعاً عام العواصف والمفاجآت والمآسي، لا أعاده الله علينا بما حمله وما أصابنا من سهام نتذكر محطاته الرئيسية في هذه العجالة لعل وعسى... أن لا تكون دروسه ضائعة في أحداثه المتقاطعة! * كاتب عربي نشر في العدد: 16698 ت.م: 22-12-2008 ص: 15 ط: الرياض