أتى اعتقال مجرم الحرب الفار رادوفان كاراجيتش زعيم صرب البوسنة المتهم أمام القضاء الدولي بارتكاب الإبادة الجماعية لثمانية آلاف مسلم في عقر دار أوروبا عام 1995، أتى ليُخفّف الأصوات الجماهيرية العربية المتعالية على العدالة بذريعة الكرامة الوطنية والتي صرخت"مؤامرة"لدى سماع أنباء توجيه المحكمة الجنائية الدولية تهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور الى الرئيس السوداني عمر البشير. فملاحقة كاراجيتش ثم اعتقاله على أيادي حكومة صربيا ليمثل أمام القضاء في لاهاي، ينسف المقولة السائدة في الأوساط العربية والافريقية بأن الغرب، وبالذات أوروبا البيضاء، يستهدف القارة الافريقية السوداء. وبالأهمية ذاتها، يأتي اعتقال كاراجيتش ليصفع الحالمين بالصفقات السياسية كوسيلة للإفلات من العقاب. والمحكمة الدولية لمعاقبة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان هي في مقدمة المفاجآت الآتية الى عرّابي وزبائن الإفلات من العقاب. ذلك لأن الالتزام الدولي بإنهاء زمن غضّ النظر عن الجرائم الإرهابية وجرائم الإبادة الجماعية قد خرج من قمقم الصفقات الثنائية بما فيها تلك التي تدخل دول فائقة الأهمية طرفاً فيها. وقد حان الأوان للشعوب أن تكف عن تلقائية الخلط بين الدفاع عن كرامة الوطن والدفاع عن أخطاء الحكام. فذلك يعميها عما هو حقاً في مصلحة البلاد ويعزز الانطباع عنها بأنها تدوس على العدالة، في اللحظة ذاتها التي تصرخ فيها بأنها ضحية اللاعدالة الدائمة الآتية عليها من حكامها ومن قيادات الغرب والشرق على السواء. أول ما يأتي الى الذهن العربي هو ازدواجية الغرب عندما يتعلق الأمر بما يرتكبه الغرب من جرائم حرب وما ترتكبه اسرائيل من جرائم إبادة وتنظيف عرقي واغتيالات سياسية تتنافى مع مسؤولياتها كدولة تحتل اراض فلسطينية بحسب القانون الدولي. ذلك الصمت الدائم على التجاوزات الاسرائيلية يضع أوروبا والولاياتالمتحدة في قفص اتهامهما الدائم بالنفاق والازدواجية من قبل ملايين العرب والمسلمين في مختلف القارات. وذلك الالتفاف على التجاوزات الأميركية في غوانتانامو وفي سجن أبو غريب والسكوت على اختراع القوانين العشوائية ما بعد إرهاب 9/11 في الولاياتالمتحدة، انما يزيد من حدة الغضب العارم من الملاحقات الدولية للجرائم والتجاوزات التي تُرتكب في القارة الافريقية وفي منطقة الشرق الأوسط. الكبرياء والغطرسة ودفن الرؤوس في الرمال تحول دون استماع الغرب الى شكوى الشرق من الازدواجية وافرازاتها. انما هذا لا يعفي اولئك الذين يقاومون العدالة بذريعة الازدواجية. فالعكس تماماً هو المطلوب من أجل التمكن من فرض العدالة على الذين يحمون الغرب واسرائيل من استحقاقات العدالة. موضوع السودان ليس عبارة عن مؤامرة أوروبية وإنما هو، في الواقع، موضوع اهمال وتجاهل وعجرفة الحكومة السودانية محتمية بالتزام الصين بحمايتها نتيجة مصالح نفطية. المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو اوكامبو ليس شخصية محبوبة لأنه رجل مفرط بالغرور. انما هذا لا يجعله تلقائياً غبياً عندما يتعلق الأمر بتوجيهه الى الرئيس السوداني اتهام ارتكاب جرائم حرب، وهو الاتهام الأول ضد حاكم ما زال في السلطة. فلو لم يكن في حوزة اوكامبو ما يكفي من الأدلة لتوجيه مثل هذه التهمة لما سجل هذه السابقة. والأمر لم يكن وليدة اللحظة وانما هو نتيجة عناد وغطرسة الرئيس السوداني وحكومته. لم تساعد السودان الادعاءات التي اطلقتها الحكومة السودانية، بالذات عبر سفيرها لدى الأممالمتحدة، أن لا مجازر في دارفور ولا استخدام لاغتصاب النساء والفتيات والقاصرين كأداة من أدوات الحرب القذرة هناك. النفي والتظاهر بالاستغراب لدى سماع هذه التهم لم يتمكنا من إخفاء واقع مقتل 35 ألف شخص بصورة فورية وقتل 100 ألف آخرين قتلاً بطيئاً وإجبار أكثر من مليونين ونصف المليون على النزوح عن ديارهم. فلقد ارتُكبت الفظائع في دارفور وكان أجدى بالحكومة السودانية ابداء الاهتمام بإنهاء هذه الفظائع بدل القول إن هذه افتراءات باطلة. وها هو الرئيس السوداني يحفر مأزقاً آخر لنفسه بتعهده"أن السودان لن يسلّم شعرة من أي مواطن سوداني للمحكمة الجنائية الدولية"، في أول رد له على مذكرة توقيفه لكونه رئيس الحكم الذي، بحسب التهمة الموجهة إليه، مارس الإبادة الجماعية وارتكب جرائم حرب. إذا كانت الحكومة السودانية تعتقد أن الصين ستحميها في مجلس الأمن، عليها أن تعيد النظر والحسابات. إن الصين، على رغم مصالحها النفطية الكبرى في السودان وعلى رغم حمايتها مطلع هذا الشهر لروبرت موغابي من العقاب باستخدامها سوية مع روسيا حق النقض الفيتو على مشروع قرار يعاقب رئيس زيمبابوي على تجاوزاته المرعبة، لن تتحدى المحكمة الجنائية الدولية لا سيما عشية استضافتها الألعاب الأولمبية. ثم ان مجلس الأمن هو الذي كلف المحكمة الجنائية بالمهمة وليس في وسعه أكثر من العمل نحو تأجيل البتّ بالتهمة التي وجهها اوكامبو الى البشير، في اقصى الحالات. ولأن روسيا أيضاً لن تتولى موقع القيادة في عربة تحدي المحكمة الجنائية لا سيما في مسألة مجازر وفظائع تُرتكب في دارفور، تتجه الأنظار الى ليبيا، العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن والذي يمثل، رمزياً، الاتحاد الافريقي وجامعة الدول العربية. ردود فعل جامعة الدول العربية لم تكن متطرفة على رغم انتقاداتها لقرار اوكامبو، ووزراء الخارجية العرب صاغوا بنود خطة عربية يقال إنها تتضمن اقتراحات لمؤتمر دولي واقليمي لحل مشكلة دارفور وتوفير سبل انقاذ ماء الوجه للبشير للقيام بما تعالى عن القيام به سابقاً. هذا لا ينفي واقع رفع شعارات تحدي المحكمة الجنائية ليس فقط في تظاهرات أخرجتها الخرطوم ك"دولاب عمل يومي"وإنما ايضاً في مواقف لرئيس القمة العربية، الرئيس السوري بشار الأسد، الذي اصدر بياناً رئاسياً وصف فيه اصدار مذكرة التوقيف بحق الرئيس السوداني بأنه"ابتزاز للسودان وتدخل سافر في شؤونه الداخلية"، معرباً عن رفض سورية قيادة وشعباً ذلك القرار. وكانت دمشق اعتبرت قرار أوكامبو"سابقة خطيرة في العلاقات الدولية"، واستنكرته. الرئيس السوداني يقول إن السودان لم يوقّع اتفاقية روما التي أقرت تشكيل المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي ليس ملزماً بما يصدر عنها من قرارات. لكن مجلس الأمن وضع مسألة دارفور تحت الفصل السابع من الميثاق الملزم لجميع الدول. وبحسب المحامي السوري نايف سليم قيسية"ان القانون الدولي ملزم، وفي حال تعارض القانون الدولي مع القانون الوطني، فالأولوية هي للقانون الدولي". كذلك الأمر بخصوص المحكمة الخاصة بلبنان والتي أنشأها مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق والتي أقلعت هذه السنة وستدخل حيز التفعيل مطلع السنة المقبلة لمحاكمة المتورطين في الجريمة الإرهابية التي أودت بحياة رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه والاغتيالات السياسية الإرهابية الأخرى التي يثبت التحقيق ارتباطها باغتيال الحريري. صحيح أن رياح التغيير السياسي تعصف في واشنطن وباريس ودمشق وطهران والدوحة وأنقرة وتل أبيب، وأن رائحة الصفقة الكبرى تعبق الكواليس والغرف المغلقة، إنما هناك بديهيات قانونية في شأن المحكمة الخاصة بلبنان، سيكون صعباً جداً القفز عليها مهما كانت طبيعة الصفقات والمقايضات. ثم هناك التزامات اخلاقية على الأممالمتحدة، وبالذات الأمين العام بان كي مون الذي لن يجازف بها ويعرّض كامل سيرته التاريخية للانتقاص من أجل تقديم خدمات سياسية على حساب العدالة والقانون وقرارات مجلس الأمن، لا سيما الصادرة بموجب الفصل السابع من الميثاق. وإذا كان من عنوان بارز لولاية بان كي مون في منصب الأمين العام، فهو عدم جواز الإفلات من العقاب وانهاء التهاون مع الضالعين في الجرائم الإرهابية والاغتيالات السياسية. الأهم أن التحقيق الدولي في هذه الجرائم ليس محدداً بشخص واحد، ولا هو سلعة سياسية في ايدي مجلس الأمن والدول الفاعلة الأخرى خارجه. فهناك أدلة واثباتات ووثائق واستنتاجات موثقة ومحفوظة، وهناك قرارات دولية ملزمة، وهناك عملية مفصلة دخلت فيها دول عدة ودخلت هي بذاتها مرحلة يستحيل التراجع عنها أو ايقافها ما لم ترتكب الحكومة اللبنانية عملية انتحارية تفجر فيها نفسها في جسد المحكمة الدولية. يُقال حالياً ان ما يمكن أن يلحق الأذى الكبير بالمحكمة هو أمران: التمويل والحكومة اللبنانية. ويودّ البعض الإيحاء بأن هذين الأمرين محسومان لجهة انحسار المحكمة وانهائها تدريجاً. واقع الأمر أنه، في ما يتعلق بالتمويل، لدى الأممالمتحدة ما يكفي من أموال لتشغيل المحكمة للسنة الأولى، ولديها ما يطمئنها إلى توافر التمويل للسنة التالية. المشكلة أن معظم الحكومات غير قادرة على التعهد بكميات محددة من الأموال للسنة الثانية بسبب الطريقة المعتمدة للتصديق على الموازنات فيها. لكن في وسع عدد من الدول العربية الحؤول دون"تجويع تمويل"المحكمة الدولية. والحكومة اللبنانية ملزمة بموجب الفصل السابع من الميثاق بالتعاون مع المحكمة الدولية. فإذا ماطلت وتملّصت، قد تلحق الأذى بنفسها. ولكن تشغيل المحكمة عائد إلى قرار يتخذه الأمين العام بان كي مون، بالتشاور مع الحكومة اللبنانية، إنما من دون الخضوع لرأيها، حسب قانون انشاء المحكمة. ثم أن رفض التعاون مع محكمة تم انشاؤها لمحاكمة الضالعين في اغتيالات سياسية للبنانيين، بينهم رئيس حكومة، سيكون انتحاراً مهما حاولت جهات التودد إلى الأمين العام، كما يفعل امين عام"حزب الله"السيد حسن نصرالله، بفتحه قناة تحبّب وتحاور مباشر مع بان كي مون بمعزل عن الحكومة اللبنانية، وبالذات للتفاوض مع إسرائيل في قضية تبادل الاسرى. لا إفلات من المحاسبة والعقاب سواء كان المجرم أبيض اللون أو أسود، ومهما تم من ابرام الصفقات ومهما تخيّل البعض أنه تحت حماية الصين أو روسيا في مجلس الأمن أو تحت العناية الاميركية أو الاسرائيلية في الصفقات الثنائية، ومهما خرجت التظاهرات"المدولبة"وتم دفن الرؤوس في الرمال. ان الاحتجاج على الازدواجية في محلّه بكل تأكيد، لكن فضح وتعرية الذين يمارسونها لا يأتيان عبر نفي الواقع ونفي العدالة، وانما يأتيان باحتضانها لتكون سيفاً يُرفع في وجه الازدواجيين.