التعنيف يُدخل الأشخاص في قائمة طويلة من الأمراض، ويؤثر على الإنتاجية والمهارات الاجتماعية والاقتصاد الوطني، ويرفع من معدلات الجريمة، والمفروض أن تعمل أجهزة الدولة المعنية، على متابعة سلوك العوائل العنيفة.. نشرت الصحافة السعودية في الربع الثالث من مايو الجاري، عن زيادة في بلاغات العنف الأسري التي استقبلتها واحدة من الجمعيات الخيرية المحلية، واسمها جمعية (مودة) للتنمية الأسرية، وفيها أنها تعاملت مع 15 ألفاً و255 بلاغاً في 2023، وبزيادة تصل إلى 60 % مقارنة بعام 2022، وتوجد مشكلة في إحصاءات العنف الأسري، على المستوى المحلي، والسبب صدورها من ثلاثة أجهزة حكومية، وتحديداً من جهاز الشرطة السعودي، ومن إدارة الحماية الاجتماعية بوزارة الموارد البشرية، ومن وحدات العنف في وزارة الصحة، وبشكل يظهر التعارض والتضارب فيما بينها، وكانت هيئة حقوق الإنسان في المملكة، قد انتقدت هذا التصرف في دراسة مستقلة أصدرتها عام 2014، مشيرة إلى أن جهاز الشرطة السعودي رصد 12 ألفاً و267 قضية عنف أسري، خلال خمسة أعوام، وتفوق في أرقامه على ما أفصحت عنه وزارتا الموارد البشرية والصحة، وأرجعت ذلك لعدم تعامل الوزارتين بالجدية المطلوبة، فيما يتعلق بالعنف الأسري، ولكنها رجحت احتمالية أن الأرقام في مجملها، قد لا تعكس الواقع الفعلي، أو تحاول التشويش عليه أو تحجيمه. حوادث العنف الأسري في المجتمع السعودي موجودة بالتأكيد، وهذه الحوادث مستوطنة في كل البلدان والثقافات على اختلافها، والدليل إحصاءات منظمة الصحة العالمية في 2020، التي أكدت أنه، وفي المتوسط، واحدة من كل ثلاث نساء في العالم، تكون ضحية لهذا النوع من العنف، وسعودياً، وصلت الحالات المبلغ عنها في 2015، لقرابة ثمانية آلاف و16 حالة، من بينها، (650) حالة أحيلت إلى القضاء، والبقية تم إنهاؤها بالحلول الودية والصلح، وارتفعت الأعداد في 2018، بحسب وزارة الموارد البشرية، إلى 13 ألف حالة، والمتوقع أنها أكبر من ذلك؛ لأن غالبية الضحايا لا يبلغن، تجنباً للفضيحة أو التزاماً بالأعراف والتقاليد، وبالمقارنة نجد أن العنف الأسري في بريطانيا، وفق إحصاءات بي بي سي، يتجاوز بمراحل الأرقام السعودية، فقد وصل إلى 869 ألف حالة عام 2021، وفي إقليمي إنجلترا وويلز وحدهما، وذلك استناداً لبلاغات تم جمعها من 26 مكتباً للشرطة في الإقليمين، علاوة على أن النساء الإنجليزيات والويلزيات يمثلن 73 % من إجمالي الضحايا. أحدث الدراسات المحلية تفيد بأن ما نسبته 83 %، من قضايا العنف الأسري، تنتهي بأخذ التعهد على المعتدي، ولا تسجنه أو تغرمه مالياً، لأنها لا توصل قضيته إلى المحكمة، رغم أن النظام نص عليها كحق عام للدولة، وهو يختلف عن الحق الخاص للضحية الذي يقدره القاضي، ما قد يؤدي لكوارث لا يمكن تصورها، ويجعل المعنف يكرر أفعاله، ما لم يذهب لما هو أبعد، ومن الأمثلة، قضية العنف الأسري الي انتهت بالقتل في مدينة الخرج السعودية عام 2021، ولأسباب تافهة. السابق لا يبرئ ساحة المرأة السعودية تماماً، من وجهة نظر بعض القانونيين، فقد يكون العنف الأسري مفبركاً أو مقصوداً، لإقامة دعاوى كيدية ضد الزوج من بعضهن، يتم حفظها في العادة، وتستخدمها المرأة لاحقاً، لإثبات حقها في الحصول على النفقة والحضانة معاً، واللافت أن الدراسات أثبتت أن المرأة تعتبر المسؤولة الأولى عن حوادث العنف الأسري، وفي 75 % من الحالات، أو بواقع ثلاث حالات من كل أربع، والمعنى أن البداية تكون من عندها، لأنها تترجم انفعالها العاطفي إلى اعتداء جسدي، ولا أجد تعليقاً مناسباً. التعنيف يُدخل الأشخاص في قائمة طويلة من الأمراض، ويؤثر على الإنتاجية والمهارات الاجتماعية والاقتصاد الوطني، ويرفع من معدلات الجريمة، والمفروض أن تعمل أجهزة الدولة المعنية، على متابعة سلوك العوائل العنيفة، وعلى تفعيل نظام الإثبات بالمحادثات الصوتية والرسائل النصية، فيما يخص العنف النفسي، لصعوبة إثباته أو إحضار شهود عليه، مع البحث عن طرف ثالث من أقارب الدرجة الأولى إلى الرابعة لإعالة الأبناء، عندما لا تكون العائلة الأصلية مؤهلة لتربيتهم، بالإضافة إلى التفريق بين الزوجين، تعزيراً، إذا لم تنجح الوسائل السلمية في معالجة سلوكياتهم المتجاوزة. الأنظمة الحمائية ضد العنف الأسري في المملكة كثيرة، من أبرزها، نظام الحماية من الإيذاء الذي صدر في 2013 وعُدل في 2022، ومعه أربعة أنظمة إضافية، تؤدي وظائف موازية، والتشريعات السعودية تفوقت على غيرها، وحققت في العشرة أعوام الماضية قفزات استثنائية، وبالأخص في مجال حماية الحقوق والحريات، ولعل الإرباك يأتي من تعدد مصادر الإحصاءات، وهذا يغيب الأرقام الثابتة، ولا يساعد في رسم خطط واضحة لمواجهة هذه المشكلة المؤذية، وبالرغم من اختلافها إلا أنها كلها متفقة، على الزيادة السنوية المستمرة في حوادث العنف الأسري، وما سبق يؤكد على ضرورة وجود سجل وطني موحد لرصد هذا النوع من العنف، وبصورة تمكن من الاعتماد عليه كمرجع لرسم الاستراتيجيات المستقبلية في التعامل مع هذه الظاهرة، ولا أتصور أن عقوبة الحبس لعامين والغرامة التي تصل إلى 100 ألف، أو حوالي 27 ألف دولار كافية.