"ولا تضعوا على قبري البنفسج، / فهو زهر المحبطين يذكر الموتى بموت الحب قبل أوانه. وضعوا/ على التابوت سبع سنابل خضراء إن وجدت/ وبعض شقائق النعمان إن/ وجدت". هكذا كتب محمود درويش في"جدارية"وكأنه يضع ترتيبات رحيله، ولكن للأسف ليست كل وصايا الراحلين قابلة للتنفيذ، فهذا ليس موسم القمح، والورد كان ضرورياً في مشهد وداع الشاعر مع العلم والكوفية الفلسطينيين، وشعر أكثر! عاد الشعر مع موت الشاعر، إلى الواجهة التلفزيونية رغماً عن طبيعتها غير الشعرية. كل ما في موت محمود درويش كان جديداً ومفاجئاً، مثلما كان شعره جديداً ومفاجئاً في كل قصيدة. الاهتمام البالغ بموته كان غريباً على مشاهد عربي اعتاد هذا الاستنفار التلفزيوني في موت السياسيين والحكام، ولا موت آخر يستحق الذكر سوى أخبار القتل للعشرات والمئات والآلاف من المجهولين الذين يظلون في النشرات أرقاماً بلا أسماء. لم يعتد المشاهد متابعة موت شاعر بهذا الزخم. موت الشعراء في العالم العربي ، لم يكن يشكل حدثاً استثنائياً في خريطة الفضاء العربي، ولم يشهد موت شاعر منذ تشكل الفضاء العربي هذا الاهتمام الذي لقيه رحيل شاعر يمثل هوية وطنية لشعبه. ولهذا استمرت الفضائية الفلسطينية في بث حي ومباشر، منذ لحظة إعلان الوفاة حتى مواراته الثرى. محمود درويش الذي عاد غريبا من الشمال إلى عمان ثم إلى رام الله، نزل أخيراً إلى الأرض، وسط حشد مندهش أمام التابوت الخشبي المزين بعلم فلسطين وكوفية. كان الجثمان في حاجة إلى حواجز وعسكر ووساطات سياسية ومفاوضات ليعود إلى التراب، ليس تراب الأرض التي ولد عليها في"البروة"ولكن فيما تيسّر من تراب الوطن، الذي لم يكتف بالقسمة غير العادلة التي قسمها الإسرائيليون، بل انقسم على نفسه باقتتال الأشقاء. هذا هو قدر الشاعر، منفي في الحياة والموت، ولا أحد يستطيع أن يعرف إن كانت الأرض في الوطن الهش المهدد قادرة على بث الطمأنينة في الجثمان! الدولة الفلسطينية أعدت له على كل حال وداعاً يليق بقائد وطني، تقدم رئيسها وظهر أمام الكاميرا والحشود التي جاءت بدافع من الحب وحده. وألقيت الكلمات التي لا يمكن أن تكون في مستوى شعره، أو في حجم الرحيل، لكن هذا ما تيسر. "الفضائية الفلسطينية"جعلت بثها المباشر حداداً مستمراً منذ إعلان الوفاة. وتابعت أخبار رحيل درويش بكل تفاصيلها. لم تكتف الكاميرا فقط بتتبع الجثمان، بل جعلت رحيل الشاعر مناسبة سياسية لتحويل هذا اليوم إلى يوم إجماع وطني. وكأنها تقول للفرقاء، لم يزل لدينا ما نجمع عليه. وذكرت في إحدى الشهادات التي قدمتها أن درويش كان حزينا في الفترة الأخيرة من حياته، بل في أشد حزن، على الاقتتال بين حماس وفتح، فهل أرادت الفضائية الفلسطينية التلميح إلى أن الحزن هو قاتل الشاعر، ألم يهزم الشاعر الحزن مراراً؟ "الفضائية السورية"خصصت أسبوعاً كاملاً، بثت فيه لقطات متلاحقة للشاعر، وأعادت بث القصائد التي ألقاها في دمشق، وخصصت برامج عدة حوارية للحديث عنه. في"العربية"تحول خبر موت درويش إلى حدث سياسي، ولأيام متوالية صدّرت الخبر، في نشراتها الإخبارية. وبثت الجنازة على "الجزيرة"مباشر، بالتفاصيل من عمان إلى رام الله. وعلى"الجزيرة"الرئيسة كان الخبر حدثاً سياسياً. لم تخل أية فضائية، وحتى القنوات الرسمية الأرضية في بلاد العرب من خبر رحيل درويش. ولم تكن الكاميرا التي رافقت جنازته خجولة في مواجهة الموت، بل نزلت إلى القبر وجاسته، وتحسسته ووخزت عين المشاهد بقرب مؤلم، وراقبت حتى اللحظات الأخيرة للنعش الذي غطته فجأة طبقة من الأحجار، وأصابت المشاهد بمزيد من الدهشة، هل الذي مات هو محمود درويش؟ الشاشات تعرض قبل وبعد الدفن مشاهد مستعادة للشاعر في أمسيات شعرية، آخرها أمسية رام الله قبل الرحيل بأسابيع، ولا تبدو في الأمسيات المستعادة أية نذر للموت، على رغم أن قصيدته الأخيرة"لاعب النرد"كانت رثاء واضحاً للذات. وحده الشاعر رأى موته مسبقاً، وهذه الحشود التي تتدافع في حضرة غيابه لم تكن أعدت نفسها لهذا الغياب لشاعر فلسطين الذي وصل بقضيتها إلى مصاف قضايا الإنسانية الكبرى. لا أحد بعد الآن يعرف أي وجه ستتخذه فلسطين؟ اهتمام الفضاء العربي بموت شاعر من طراز محمود درويش، لم يخرج عن أبعاده السياسية التي حكمت حياة محمود درويش وقصيدته، أراد درويش لدولة الشعر أن تسبق دولة السياسة، لكنه كان محكوماً بقضيته، وبما تطلبه الجماهير من قصيدته، ولم يخرج موته عن القاعدة، لكن راية الشعر ارتفعت أيضاً. لم تستطع الفضائيات وكاميراتها النهمة إلى الحدث أن تتجاهل البعد الشعري. هل تستطيع أي قناة تجاهل مرثية مارسيل خليفة وهو يودّع صاحبه على طريقته، بقصائده التي ترددها الأجيال؟ كان خليفة واقفاً أمام الكاميرا، ثم ترك المنصة واستراح، وبدأت دموعه تنهمر. غنى، أحن إلى خبز أمي وكانت أم الشاعر العجوز تجلس على مقعدها المتحرك، هي التي ظهرت على الشاشة وقالت: محمود ليس ابني وحدي وبعد خبر موت محمود لا يوجد خبر أكبر. رحل الشاعر ونزل الفضاء العربي إليه، ربما لأيام قليلة فقط، ليقول كلمته الأخيرة في وداع هذه القامة الشعرية، في لحظة لن يكررها تاريخ الشعر العربي، ولا التاريخ السياسي، الذي يطوي صفحاته بموت الشاعر. وسيكون أمام هذا الفضاء بعد رحيل الشاعر الوقت ليعود إلى ضفته الأخرى، ولتحيا الصورة من جديد، ويموت الشعر!