عن منشورات دار توبقال المغرب، 2008 صدرت ترجمة أولى لأعمال الشاعر الفرنسي جون بول ميشال إلى العربية بعنوان"هذا الحظ وهذه النار"من توقيع الشاعر الجزائري الهواري غزالي، الذي كما جاء في المقدمة رافق الشاعر ونصوصه ثلاثة أعوام بكاملها حتى أتم هذا الإنجاز الإبداعي. وليس خافياً على أحد مدى صعوبة التجربة الشعرية التي يندرج فيها اسم هذا الشاعر الفرنسي المختلف، بقدر ما تتواصل مع سابقاتها من إرث الشعر الفرنسي والعالمي نجدها تقطع بصورة جذرية معها في مغامرة البحث عن فرادة الشكل والمعنى على السواء. جون بول ميشال يكتب قصائده بطريقة مقطعة، متعمداً هذا التقطيع، على مستوى المفردات والجمل كما لو أنه لا يريد لمفردته أن تكتمل، ولا لجملته أن تتوقف، ولا لنصه أن ينتهي حيث يبدو الانقطاع واضح المعلم، بل سمة دالة تعطي الانطباع بأن الشاعر يرغب في توليد حالة قلق مستديمة في داخل المتلقي المفترض الذي سيعاني حتماً من هذه التجريبية المفرطة التي تسم المرحلة الأولى من شعره، أو كما لو أنها دعوة لإعادة النظر في القراءة الانفعالية للشعر، تلك التي درجنا على قراءة الشعر بها. ها هو جون بول ميشال يحرص على زرع بذور الشك، التوجس والحيطة، وهو يحرك في داخلنا شيئاً مثيراً للصدمة والارتباك، ونحن ندخل مع نصوصه في معركة مصيرية ليس من أجل الفهم ذلك المطلب العسير، أي كيف نتذوق شعراً يتطلب جهداً مضاعفاً لتذوقه، تماماً مثلما يتطلب الوصول إلى الفهم جهداً تأويلياً مضافاً. خيار قصيدة مفتوحة على زمن تأملي، يتعدد في أكثر من صيغة، وينفتح على أكثر من أفق جديدة، مصاب بغواية الفن لذاته، أو كما جاء على لسان جون فيليب رامو الذي يستشهد به في كراساته الأولى:"ينبغي أن يصحح الفن بالفن" تمنحنا قصائد بول ميشال حق الاختيار بين دلالة وأخرى، فهو دائماً مفتوح على احتمالاته الكثيرة مثلما يكتب في أحد نصوصه: "متقدماً في الحرب سواء اثنين كان أو ألفاً، مصحوباً/ ب/ - عارياً/ قائلاً:/"مباركة"/ قائلاً:/"حتى الأحجار"/ أو قائلاً:/"أو حتى الضوء حين يبرق في العينين عقب اللكمات"./ أو كما في مقطع آخر:/"هذا الذي نعرفه، نحضنه دوماً/ بقوة حد خنقه/ بقوة نحضنه حتى حد فقدانه". وإذا كانت الكراسات الأولى من الأعمال الشعرية التي صدرت عام 1981 تتميز بالكثير من التجريبية الشكلانية المعقدة، ولكن المثيرة، فإنها تأخذ من ثم مساراً مختلفاً، وإن بقي وفياً لغواية البدء، ولو أقل انجذاباً لما قد يعتبره البعض تعمداً لعدم التواصل، فنشعر أنها تأخذ شكلها المغاير الذي يأخذنا الى البسيط الغامض، والجميل الهادئ، من دون التخلي عما يمكن اعتباره بروتوكلات ميشال الشعرية الثابتة، التي تقوم على الاستعصاء المستمر، والسفر في عزلة الكلمات، وعنف الاستعارات التي تترك القارئ على الدوام مسكوناً بالحيرة، ومتشبثاً بالرحلة مع الشاعر في دهاليز خياله وأشباح أمكنته وشخوصه، وباحثاً عن دلالات تريحه، ومعانٍ يستقر معها، أو تسكن ما تولده فيه من قلق وشغف وتأمل. يحدد الشاعر هويته من خلال العلاقة الغامضة التي ينسجها مع اللغة والعلامات. فنصوص جون بول ميشال تعانق الإشارات في كل بهائها وجلال مقامها، أي كنص ينفذ بعمق الى الحياة التي لا تُستوعب عبر عين الشاعر إلا من خلال مفتاح رؤية ما لا يرى، وإبصار ما لا يظهر على السطح:"لقد بحنا بحياتنا إلى الإشارات/ وحدها التي تستطيع إنقاذنا الآن". إن المعركة التي يخوضها الشاعر تبقى محدودة بالنسبي ومفتونة بالمطلق، منجذبة الى الذروة الكبرى ولكن محكومة بالنقص والهشاشة والشبهة:/"الشاعر العظيم الطموح/ أن يمتنع عن كل حماسة لا تفيد/ فقواه الكلام/ تقهرها حقيقة الوجود" إنها نصوص تتطلب قدراً كبيراً من الجهد والتعب في تلقيها ويخرج منها أكثر تبصراً بالشعر كعملية تنفذ إلى الأبعد، وتغوص إلى الأعمق، نصوص مفكر فيها بعناية، مصوغة كي ترفع من مستوى ذكائنا الشعري، وتزيد من تخصيب رؤيتنا للوجود والحياة. ومن هنا لا بد من التنويه بجهد المترجم الشاعر الهواري غزالي الذي لم يعطنا مفاتيح هذه النصوص في مقدمته التي كتبها للمجموعة، ولكنه عبر عن تقاطعات عاشها، وتلذذ بها، وتألم منها، وقادت إلى تقديم هذا الشاعر الى المكتبة العربية التي نتصور أنها ستثري شعريتها بنفس شعري خالص ومغاير، وله نكهة ذات فرادة عالية.