لا يحتاج قارئ رواية "حرير" للكاتب الايطالي أليسندرو باريكو الى أكثر من ساعتين اثنتين للانتهاء من قراءة الرواية، لكنه بالتأكيد يحتاج الى وقت طويل لنسيانها أو للتحرر من عالمها الخاص وأسئلتها المؤثرة، لو تسنى له النسيان. ذلك أن باريكو الذي يميل أشد الميل الى البساطة والتقشف الاسلوبي يؤلف عالماً موازياً لعالم الكتابة هو عالم الظلال والإيحاءات الخفية التي يترك الكاتب للقارئ مهمة اجتراحها ومتابعتها على امتداد الرواية. ثمة في مناخاته السردية فراغات متعمدة تشبه الى حد بعيد تلك التي يتركها الشعراء وراءهم في القصائد. لا بل اننا نستطيع القول إن الرواية برمتها تنبني فوق أرض الشعر ورؤاه، من خلال الترجمة الدقيقة والشفافة للشاعر اسكندر حبش. يختار أليسندرو باريكو النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليكون زمناً لأحداث روايته القصيرة، ويختار بلدة"لا فيل ديو"في الريف الفرنسي مسرحاً لهذه الأحداث. أما بطله هيرفيه جونكور الذي لم يتجاوز الثانية والثلاثين لدى بداية الرواية فيسوقه القدر سوقاً الى الانخراط في تجارة دود القز الرائجة في فرنسا والكثير من دول العالم يومذاك بعد ان كان والده قد عقد العزم على ان يوفر له مستقبلاً لامعاً في السلك العسكري. ومنذ السطور الأولى للرواية تتبدى لنا المفارقة التي نستطيع التقاطها بشيء من الانتباه والتركيز. فالبطل جونكور ينتقل بالصدفة من مهنة شديدة الذكورية هي الخدمة العسكرية الى مهنة"أنثوية"تماماً هي الاشتغال بدود القز وتجارة الحرير، وهو ما يصفه المؤلف بالانعطافة النسائية الملتبسة. ويحرص المؤلف على الاشارة الى ان اشتغال بطله بهذه التجارة عام 1861 ترافق مع كتابة فلوبير لروايته"سالامبو"ومع الحرب الشرسة التي خاضها ابراهام لنكولن لتوحيد أميركا وتخليصها من نظام العبودية والرق، في محاولة من الكاتب لتظهير صورة القرن التاسع عشر الممزقة بين الفظاظة القصوى والرقة القصوى، او بين لمعان الأسلحة ولمعان الحرير، وفق منظور عنترة العبسي. لم يمض وقت قليل على تجارته حتى تعرض جونكور، كما أهل قريته، الى مصاعب جمة ناجمة عن ظهور وباء نادر ضرب بويضات دود القز في معظم أنحاء العالم باستثناء اليابان حيث كان على البطل ان يرحل بحثاً عن البويضات السليمة، بناء على نصيحة صديقه بالدابيو الذي أسس هذه الصناعة وأسهم في ازدهارها في معظم أنحاء أوروبا قبل عقدين من الزمن. على ان المؤلف لا يهدر صفحات طوالاً من أجل تتبع المشقات التي يبذلها بطله في رحلة الآلاف الثمانية من الكيلومترات الفاصلة بين فرنساواليابان الواقعة وفق توصيفه على الطرف الآخر من العالم. فالحدث الأهم في الرواية لم يتمثل في الجانب الجغرافي، حتى ولا التجاري من الرحلة، بل في تلك المصادفة الاستثنائية التي جعلت جونكور يلتقي بتلك الشابة الجميلة والغامضة في منزل هاراكي، تاجر الحرير الياباني. تلك الشابة التي لا تشبه عيناها عيني الشرقيين تتبادل مع التاجر الفرنسي نظرات ثابتة ومعبرة لا تلبث ان تصبح حياته برمتها نهباً لها. هل يختار المرء قدره النهائي والمحتوم باختياره لمهنته؟ ربما يكون هذا السؤال هو النقطة الجوهرية في رواية باريكو، وربما نستطيع انطلاقاً منه ان نفسر وصف المؤلف لمهنة بطله بأنها مهنة شاذة، تنم عن انعطافة نسائية ملتبسة. فالاشتغال بالحرير يكف عن أن يكون اشتغالاً بدودة القز أو بتلك الخيوط النحيلة الواهية التي تفتن لخفتها النساء بل يصبح انشغالاً بالنساء أنفسهن وهن يصنعن من أجسادهن الشفافة ما يضارع أرواحهن في الشفافية والنقاء الأثيري. وعلى رغم أن جونكور كان يحب زوجته هيلانة بشغف ويحرص على إحاطتها بكل أشكال الحنو والدفء، فإنه وجد نفسه متعلقاً الى أبعد الحدود بتلك الفتاة التي كان عاشقها هيراكي يحبس من أجلها آلاف الطيور والعصافير ثم يطلقها دفعة واحدة للتعبير عن سعادته بجوارها. ولا يتردد الكاتب في تقديم الإيحاءات التي تقيم التجانس البالغ الدلالة بين الحرير الأصلي والحرير الآخر الذي ينبعث من لمسات المرأة:"شعر بهشاشة غلالة حريرية وضعت عليه، كما بيدي امرأة ? امرأة ? كانتا تمسحانه وهما تداعبان كل أنحاء جسمه. لم يتحرك ولو للحظة، ولا حتى حين شعر باليدين وهما تصعدان من كتفه الى عنقه، وبالأصابع الحرير وهي تصعد حتى شفتيه لتلمساه، لمرة ببطء، ثم تختفي". لم تعد طريق الحرير في رواية باريكو مجرد استعادة مكررة للتسمية الجغرافية المعهودة بقدر ما أصبحت الطريق الرمزية الموازية التي تعصف بالروح وتدفع بها نحو التخوم الأخيرة لنداء الأنوثة. وما اختيار اليابان لتكون النصف الآخر والأهم لجغرافيا الأحداث سوى نوع من التوأمة بين الذهاب الى أطراف العالم والذهاب الى أطراف المشاعر الانسانية. وعلى رغم اندلاع الحرب الأهلية في اليابان في تلك الفترة، فإن جونكور لم يتردد في ركوب المخاطر وتكبد الأهوال من أجل العثور مرة ثانية على تينك العينين المثبتتين نحو روحه الى ما لا نهاية. لكن المفاجأة الأهم في الرواية تتمثل بعد ذلك في محاولة هيلانة استعادة زوجها الضائع لا من طريق التهديد والوعيد والغيرة القاتلة بل عبر تقمص شخصية معشوقته اليابانية ومحاولة التماهي بها بواسطة الرسائل المبهمة التي وصلته من طريق البريد. وإذ تموت الزوجة بعد ذلك يصر جونكور على اقتناء آلاف الطيور، كما فعل هيراكي، وإطلاقها مرة واحدة للتعبير عن وفائه لها. وفي أحيان أخرى"كان يجول على معامل النسيج ليلمس الحرير المولود لتوّه"كما لو أنه يتلمس بواسطته زغب الأنوثة الخفيف أو نداءاتها الغامضة التي تهب من أقصى العالم.