في تحرر الجسد شيء من تحرر العقل والذهنية والعادات، وانصراف إلى قدر من تحقيق الذات، الفردية والاجتماعية، يعفي المرء من كبت الرغبات بحيث تتحول إلى حجب تحول دون الإبداع والتعبير عن طاقات الإنسان الداخلية. خطت الكتابة العربية في السنوات الأخيرة باتجاه نزع الكثير من حجب المحرم الخاص بالجسد، فرأينا لغة مشبوبة في الشعر ووصفاً مدققاً لحركة الجسد في الكتابات القصصية والروائية. ثمة جرأة في الكتابة وفي اكتشاف مواضع من الجسد ورغباته لم نعهدها في الكتابة العربية المعاصرة من قبل، واقتراب من التابو وانتهاك له، ما أثار، وما زال يثير الكثير من الجدل حول ضرورة هذه الكتابة وعدم وقوعها في أسر مخاطبة الغرائز والغربة في مغازلة القارئ العام الذي ينجذب إلى هذا النوع من الكتابة. ومع أن الموروث العربي الشعري والسردي يحفل بقدر كبير من الانعتاق من أسر التابو، المتعلق بوصف أعضاء الجسد، خصوصاً في حكايات"ألف ليلة وليلة"، وفي الكتب التي ألفها علماء وأدباء حول مثل هذه الموضوعات، إلا أن عصوراً مرت والمسلمون يخجلون في الكتابة من ذكر أعضاء الجسد وممارساته، في الوقت الذي يتفنن العامة في كسر التابو وابتداع أوصاف للجسد وأعضائه تتساوق مع ما كتبه رجال دين وعلم مثل الشيخ النفزاوي والسيوطي وغيرهما. لكن الكتابة الأدبية تنزع على الدوام إلى كسر المألوف، والسائد والمتعارف عليه، لتخطو باتجاه أرض الحرية المنشودة. ولهذا، فإن ما نشهده اليوم من سيل الكتابات التي تتجرأ على السائد والمحرم، وما تواضعت العادة على منعه، يفتح للكتابة السردية، على وجه الخصوص، أفقاً من التأمل في الجسد الإنساني ورغباته، وما تعنيه هذه الرغبات المتفلتة على صعيد حياة الفرد والمجتمع. ليست الرغبة مجرد حال انعتاق، بل هي أحياناً تعبير عن نقص، عن مكبوت سياسي أو اجتماعي، أو ذاتي. ولهذا، فإن تواتر وصف الجسد في عمل سردي ما قد يوظف في سياق التعبير عن حال الإحباط السياسي أو انهيار منظومة القيم، وانسحاب البشر إلى ممارسة الجنس تفريغاً للإحباط وتعبيراً عن انعدام التوازن وافتقاد الطريق. بالمعنى السابق، فإن معظم ما يكتب الآن حول الجسد لا يدخل في باب التصوير البورنوغرافي، ولا يقيم في أرض وصف الجسد، بل إنه موظف في سياق التعبير عن محاولة التحرر من القمع السياسي والاجتماعي والمذهبي والطائفي، أو الهروب من هذا القمع إلى ممارسة بلا رقيب وتفريغ للشحنة العاطفية للشخصيات المكبوتة الحالمة بالحرية. في هذا السياق يمكن فهم عدد كبير من الصفحات التي يكتبها القاصون والقاصات والروائيون والروائيات في سياق ما يسمى تحايلاً وهروباً، وخضوعاً للمعايير السائدة،"كتابة الجسد". ويمكن أن نرجع ما يفيض عن حواف هذه الكتابة، من مبالغة في الوصف، إلى الرغبة في كسر المحرم والتحرر من التابو والقول إن التواصل الجسدي ليس مجرد علاقة بيولوجية، تناسلية، بل هو أيضاً تعبير عن رغبة في التحرر من الضغوطات التي يتعرض لها الإنسان في المجتمعات المعاصرة. علينا أن نفهم فيض الكتابة العربية عن الجسد في سياق رغبة التحرر، فلا نتهم الكتاب والكاتبات بأنهم يسعون إلى الانتشار وزيادة توزيع ما يؤلفونه، لأن الأفلام والمسلسلات التي تعرض مشاهد الجنس، الموظف في سياق أو المجاني الإباحي منه، لا عد لها ولا حصر، ويمكن المهتم أن يحصل على ما يريد مما تتيحه ثورة تكنولوجيا المعلومات في وقت انهيار الحصون الرقابية التي كانت تمنع وتسمح في ما مضى من الزمان. وبغض النظر عن كون هذه الكتابات مشدودة باتجاه الوصف التفصيلي، الذي يشي بنوع من الرغبة الإباحية أحياناً، أو كونها توظف ذلك الوصف في سياق التعبير الإبداعي الحقيقي، فإن ما يهمنا هو أن الكتابة العربية قد توصلت إلى كسر حاجز تابو الجسد في زمان توالد المحرمات، وازدياد القمع والقتل، لا على يد الدولة هذه المرة بل بأيدي جماعات نصّبت نفسها مانحة لصكوك الغفران ومالكة لأبواب الجنة والنار.