هذه الحلقة الثانية والاخيرة من الدراسة التي أعدها حميد جعفر، رجل الاعمال العراقي والخبير في قطاع النفط والغاز، والتي تتناول فرص تحسين السياسة النفطية بعد الانتقادات التي تعرض لها مشروع قانون النفط الذي أقرته الحكومة العراقية مؤخراً. 4- الغاية من إنشاء شركة نفط وطنية عراقية ان الغاية من انشاء شركة نفط وطنية عراقية هي لإدارة واعادة تأهيل الحقول النفطية المنتجة حالياً وممتلكاتها، والارتقاء بمستويات انتاجها كي تصل الى طاقة تتراوح بين 3.5 مليون - 4 ملايين برميل يومياً. وهذا يشكل تحدياً كبيراً وفق المقاييس الدولية، ولا سيما اذا ما نظرنا الى الحالة المزرية الراهنة لمنشآت العراق النفطية والكادر الوطني العراقي الذي تفكك من جراء الحرب والعقوبات والهجرة غير المسبوقة للعقول العراقية. فضلا عن الافتقار للأموال ونقص التكنولوجيا. ولذا فإن مهمة انشاء شركة نفط وطنية عراقية ستتطلب موارد مالية وادارية هائلة. ولكن اذا ما احسن توجيهها وتنفيذها، فإن ذلك من شأنه ان يؤدي الى ظهور واحدة من أكبر شركات النفط في العالم وتكون قادرة على تشغيل أكثر من نصف طاقة العراق الانتاجية الممكنة. ولذا ينبغي على شركة النفط الوطنية العراقية ألا تحوّل اهتمامها ومواردها عن هذه المهمة الكبيرة، وبالتالي ينبغي ان لا يسمح لها بممارسة اعمال أخرى مثل تطوير حقول النفط، والقيام بأعمال التنقيب، او الاستثمارات الاجنبية، أو الخدمات العراقية البترولية غير المطورة. كما يجب ان تبقى بمنأى عن التدخلات السياسية، ويجب كذلك ان تعمل كمؤسسة تجارية تحت الاشراف التنظيمي للوزارة، كسائر غيرها من الشركات العاملة. ولهذا، لا بد من وضع معايير وضوابط المساءلة لها كغيرها من المؤسسات التجارية، لضمان كفاءة أدائها وعدم تبديد الموارد الوطنية. وعلى شركة النفط الوطنية العراقية الجديدة ان تعمل وبسرعة كبيرة، كأي كيان تجاري آخر، كي تصبح معتمدة على نفسها ماليا، وأن لا تعتمد على أي تمويل من خزينة الدولة. وفي المقابل، ينبغي ان يسمح لها في تحقيق الأرباح كغيرها من الشركات الصناعية الاخرى. وبهذه الطريقة، ستكون شركة النفط الوطنية العراقية مسؤولة امام المساهمين أمام الدولة وليس وزارة النفط لبيان كفاءة عملياتها ونتائجها. وعليه، يجب ان تكون الشركة الوطنية حرة في ادارة أعمالها بكفاءة من دون تدخل الاحزاب السياسية. ويجب ان يقر تفويضها وسلطتها وهيكلها تبعا لذلك. كما يجب ألا يكون رئيسها وزير النفط او اي شخصية سياسية أخرى، ويجب ان يتم تعيين اعضاء مجلس ادارتها لفترات محددة غير قابلة للتجديد وهكذا. وفوق كل اعتبار يجب أن لا تقوم شركة النفط الوطنية العراقية وبأي حال من الاحوال، بدور الجهة التنظيمية، إذ يجب ان تبقى هذه المهمة مستقلة وضمن مسؤولية الهيئات التنظيمية للدولة الاتحادية مثل مجلس النفط والغاز، والوزارات المعنية على مستوى الدولة والمحافظات. وفي نهاية المطاف، يمكن خصخصة شركة النفط الوطنية جزئيا في السنوات التالية من خلال توزيع ملكيتها بشكل واسع وشفاف بين العراقيين وبطريقة الاكتتاب العام. وأخيراً، فإن محاولات بعض الاطراف وبدوافع سياسية لمنح ما بين 80 و90 في المئة من احتياطي العراق بما في ذلك حقوق النفط غير المطورة الى شركة النفط الوطنية من خلال ملاحق مقترحة على القانون، ستقضي على أي أمل في تحقيق تقدم اقتصادي سريع للعراق. كما ستؤدي الى تكريس التخلف وتقويض امكانية تطوير قطاع الطاقة الحيوي في العراق واعادة العراق الى المركزية والنموذج القديم المتمثل بسيطرة الدولة. على رغم انه حتى نظام البعث الاشتراكي قد بدأ بالتخلي عن هذا النموذج في ثمانينات القرن الماضي، بل ان ذلك سيكون جريمة ترتكب بحق الشعب العراقي وانتهاكاً واضحاً للدستور العراقي في كل الاحوال. وسيخسر العراق سنوات من فرص التقدم، وسيضيِّع العراقيون البلايين من أموال الدولة التي هم بأمس الحاجة لها لاستعادة الازدهار والرخاء وبأسرع وقت ممكن. علينا ان نرفض هذه الأفكار البالية من نماذج الاقتصاد المركزي. وكما قال أحد الحائزين جائزة نوبل مرة:"اننا لا نستطيع ان نحل مشاكل الأمس بالعقلية نفسها التي خلقت هذه المشاكل!". 5- استخدام أموال الدولة تتراوح تقديرات أموال الاستثمارات المطلوبة للتطوير الكامل والسليم للقطاع النفطي العراقي بين عشرات الى مئات البلايين من الدولارات. ومن دون الخوض في مناقشة الأرقام، فمن الواضح ان احتياجات العراق هائلة وهو يعاني اليوم بالفعل من ديون كبيرة من الحجم نفسه، وأولويات عليا متنافسة على اموال الدولة مثل البنية التحتية والأمن والصحة والتعليم. وفي كل الاحوال، وكمبدأ اساسي، ينبغي ان لا تستنزف أموال الدولة او خطوط الائتمان للاستثمارات التجارية في الوقت الذي تتوافر فيه استثمارات القطاع الخاص المتاحة، وهذه سياسة متبعة حالياً على نطاق واسع، اقليمياً وعالمياً، بل وحتى في بلدان متقدمة تتوافر فيها الأموال والأفراد المؤهلون فعلاً. ولكن لماذا؟ لأنه وبكل بساطة مبدأ اقتصادي جيد وهو الأفضل من اجل ضمان كفاءة تحقيق أفضل النتائج وتحقيق الاستغلال الأمثل لأموال الدولة. وهذا سبب آخر لتحديد وتقييد دور الحكومة في الاستثمار والتشغيل في قطاع البترول: اذ لا جدوى من إضاعة أموال العراق في استثمارات يمكن ان يقوم به القطاع الخاص وبكفاءة اكثر وبعائد اقتصادي أكبر للعراق. 6- الشروط التجارية تتهم بعض الردود على قانون النفط والغاز المقترح بأنه يبيع ثروة العراق للمصالح الاجنبية أو التخلي عن 70 في المئة من ثروة العراق النفطية. وهذا محض هراء بالطبع. اذ ان ايام الحكومات الاستعمارية التي تملي شروطها قد ولت ومنذ أمد بعيد، ويجب أن لا يغطي الخطاب السياسي القومي الفارغ على واقعية المنطق الاقتصادي العملي. فالدول المنتجة للنفط والواثقة ليست بحاجة للتفكير بهذه الطريقة، واذا كانت الدول العربية التي تتبع النهج الاشتراكي مثل مصر وسورية وليبيا يمكنها أن تحقق تطوراً اقتصادياً بتطبيق هذا النوع من عقود المخاطرة، فمن المهين حقاً ان نفترض ان العراقيين غير قادرين على القيام بذلك ومن أجل المصلحة الوطنية العليا. ان العراق بإمكانه وينبغي عليه ان ينتزع أفضل الشروط التجارية من الشركات باعتباره يمثل اكبر حوض للنفط غير مستغل في العالم ونظراً لقلة تكاليف الانتاج ولوجود احتياطيات كبيرة وفي ضوء ارتفاع اسعار النفط في الوقت الحاضر. فعلى سبيل المثال، لتطوير حقل رئيسي، تكون نسبة الربح النفطي الممنوح لشركة خاصة تقوم بالاستثمار بموجب اتفاق تقاسم الانتاج هي خمسة في المئة او حتى أقل. وهذا يعني ان الدولة تحتفظ ب95 في المئة او أكثر من عائدات الانتاج من الحقل بعد حساب التكاليف، ومن دون المجازفة بالاستثمار من قبلها. وعلى النقيض من ذلك، فإن كل سنة من التأخير في تطوير هذا الحقل النفطي هي خسارة اقتصادية دائمة للشعب العراقي لا تقل عن 10 في المئة معدلات البنك المركزي العراقي اليوم تقترب في الحقيقة من نسبة 20 في المئة. 7- الجوانب الغامضة في مشروع القانون الحالي يتناول المشروع الحالي لقانون النفط والغاز قضايا كثيرة بطريقة حديثة متطورة، لكنه لا يزال يتضمن جوانب غامضة تتطلب المعالجة. فالجانب الايجابي فيه انه يميز تمييزاً واضحاً بين الجهة التنظيمية والجهة الخاضعة للتنظيم، وبالتالي يقضي على التضارب والغموض المتعلقين بإشراف الحكومة، وهو يسعى الى كسب استثمار القطاع الخاص في جميع جوانب عمليات ما قبل الانتاج، بما في ذلك وهو الأهم تشجيع القطاع العراقي الخاص، كما انه يتضمن اقامة شركة نفط وطنية عراقية ويمنحها السلطة لاعادة تأهيل الحقول العراقية المنتجة حاليا وهذا في حد ذاته يمثل مهمة كبيرة كما ذكر سابقاً. ولكن للأسف، يبدو ايضاً ان مشروع القانون يخول شركة النفط الوطنية الحق في تطوير الحقول غير المستغلة، وحتى اجراء عمليات التنقيب، ولكن من دون مساءلة او تخطيط مدروس حول التكاليف من خزينة الدولة. وهنا"يكمن الشيطان في التفاصيل". واذا لم تحدد هذه التفاصيل بشكل واضح لا لبس فيه، يمكن ان تعيدنا وبسهولة الى النظام القديم غير الموثوق به وهو نظام سيطرة الدولة: فاذا ما اعطيت شركة النفط الوطنية العراقية الحق للاستيلاء على كل شيء حينئذ سوف لن نتقدم ولا خطوة واحدة للأمام وعندها سيكون قانون النفط والغاز لتنظيم الاستثمار في هذا القطاع من دون جدوى. 8- القطاع الخاص العراقي وهناك عنصر أخير لكنه مهم كذلك لتحقيق سياسة ناجحة وذلك بتطوير وتشجيع قطاع خاص عراقي حقيقي وفي جميع جوانب صناعة النفط العراقية، وكما هي الحال لأي صناعة نفطية ناجحة تسهم في نجاح الصناعات النفطية في العالم. وهذا سيتيح أفضل فرصة لزيادة العمالة العراقية. ويوفر مردودات اقتصادية ايجابية مضاعفة، ونقل التكنولوجيا، والمنافسة العالمية في الادارة والقوى العاملة. فضلاً عن انه يشكل ايضاً أفضل رد على المنتقدين الخائفين من الأجانب والهيمنة الأجنبية. وعلى رغم ورود اشارات حول تشجيع القطاع الخاص العراقي في مشروع القانون الحالي، إلا أن غياب الآليات لتنفيذ هذا البند يضع شكوكاً حول جدية صانعي السياسة في التطبيق العملي لهذه المبادرة. يجب أن يكون تدريب أو اعادة تدريب كوادر النفط والغاز من العراقيين العاملين شرطاً مفروضاً على جميع الشركات والمشاريع العاملة في الصناعة النفطية في العراق، مع اعطاء الأولوية الحقيقية، والمشاركة الفعالة للقطاع الخاص العراقي الذي يحتاج إلى الرعاية والتشجيع كي يتطور مهنياً. وطالما أن القطاع الخاص العراقي لا يزال في مراحل نشأته الأولى، يجب البدء ببرنامج رسمي، كأن يكون على سبيل المثال برعاية وتوجيه البنك الدولي - الهيئة المالية الدولية لتشجيع تنمية قدرات القطاع الخاص العراقي في جميع جوانب الصناعة النفطية، بما فيها عمليات ما قبل الانتاج وعمليات التنقيب، وليس فقط خدمة عمليات ما بعد الانتاج. وعلاوة على ذلك، ولإضفاء قوة حقيقية لهذا التوجه الايجابي يجب أن يلزم القانون او على الأقل يشجع شركات النفط العالمية لتأسيس شراكة مع شركات القطاع الخاص العراقية المؤهلة، وتطوير قدراتها. وفي الختام وخلاصة القول: انه لا يمكن أن يكون هناك اطار تنظيمي فعال لقطاع النفط في العراق من دون فصل واضح بين دور الجهة التنظيمية والجهة الخاضعة للتنظيم، ولا يمكن الحديث عن سياسة نفطية ناجحة لتطوير هذا القطاع من دون توافر عدد كبير من الشركات المتنافسة لتحقيق أكبر قدر من الانتاج للعراق، وتحت رقابة سلطة تنظيمية حكومية محايدة وقوية، يكون جل تركيزها على زيادة العائد الاقتصادي للدولة ولمصلحة الشعب العراقي. * رجل أعمال عراقي والرئيس التنفيذي لمجموعة"الهلال"النفطية