الفرصة مهيأة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    البليهي: تفكيرنا الآن في مباراة الوحدة.. وننتظر الجماهير غدًا    يايلسه: يجب أن يعلم الجميع أين كنا الموسم الماضي    واتساب يختبر ميزة لإنشاء صور ب"AI"    اللجنة الوزارية تنقل أزمة غزة إلى باريس    "SANS" تدير الحركة الجوية بمطار البحر الأحمر    المملكة تستهدف تحلية 16.2 مليون م3 من المياه يوميًا    جيسوس: مالكوم ظلم بعدم استدعائه لمنتخب البرازيل    اتفاقية ب25 مليون دولار لتصدير المنتجات لمصر    توجيهات عليا بمحاسبة كل مسؤول عن حادثة التسمم    دار طنطورة.. التراث والحداثة بفندق واحد في العلا    "العلا" تكشف عن برنامجها الصيفي    المخرجة السعودية شهد أمين تنتهي من فيلم "هجرة"    تحذيرات علمية من مكملات زيت السمك    تراجع أسعار الذهب في تعاملات اليوم    معالي أمين منطقة عسير يزور معرض صنع في عسير    خريجو «خالد العسكرية»: جاهزون للتضحية بأرواحنا دفاعاً عن الوطن    ارتفعت 31.5 % في الربع الأول    أمسك.. حرامية المساجد!    متى القلق من آلام البطن عند الطفل ؟    قد لا تصدق.. هذا ما تفعله 6 دقائق من التمارين يومياً لعقلك !    5 أطعمة تعيق خسارة الوزن    الاتفاق يتغلب على الشباب بهدف في دوري روشن    «رحلة الحج» قصص وحكايات.. «عكاظ» ترصد: كيف حقق هؤلاء «حلم العمر»؟    السلاحف البحرية معرضة للانقراض    الفتح يتغلب على الحزم بهدفين في دوري روشن    الاتحاد يتغلب على ضمك برباعية في دوري روشن    مصدر هلالي ل "الرياض": إصابة مالكوم غير مقلقة    لندن: تقديم رجل مسن للمحاكمة بتهمة مساعدة روسيا    هزة أرضية بقوة 3.9 درجات تضرب نيو ساوث ويلز الأسترالية    توقف الخدمات الصحية في أكبر مستشفيات جنوب غزة    مواجهة الهلال والوحدة بين الطائف والرياض    «الحونشي»    «الثقافة» و«التعليم» تحتفيان بالإدارات التعليمية بمختلف المناطق    سفارة المملكة في إيرلندا تحتفي بتخرج الطلبة المبتعثين لعام 2024    الاستثمار الثقافي والأندية الأدبية    حظي عجاجه والحبايب (قراطيس) !    الدكتوراه لفيصل آل مثاعي    القمر يقترن ب «قلب العقرب» العملاق في سماء رفحاء    هل بقيت جدوى لشركات العلاقات العامة؟    نمو الجولات السياحية ودعم الاقتصاد الوطني    تنوع أحيائي    ثانوية السروات تحتفي بتخريج الدفعة الأولى من نظام المسارات    نزاهة: حادثة التسمم الغذائي بأحد مطاعم الرياض لن تمضي دون محاسبة    فيصل بن خالد يرأس اجتماع الجهات الأمنية والخدمية المشاركة في منفذ جديدة عرعر    فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية يكرم موظف سوداني    فيلم "نورة"يعرض رسميا في مهرجان كان السينمائي 2024    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للربو"    القبض على وافد بتأشيرة زيارة لترويجه حملات حج وهمية ومضللة    دفعة جديدة من العسكريين إلى ميادين الشرف    أمير حائل يشكر جامعة الأمير محمد بن فهد    رفع كسوة الكعبة المشرَّفة للحفاظ على نظافتها وسلامتها.. وفق خطة موسم الحج    تمكين المرأة.. وهِمة طويق    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 142 مجندة من الدورة التأهيلية    الخريجي يقدم العزاء بمقر سفارة إيران    الاستعداد النفسي أولى الخطوات.. روحانية رحلة الحج تبعد هموم الحياة    توريد 300 طن زمزم يومياً للمسجد النبوي    دشن هوية «سلامة» المطورة وخدمات إلكترونية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد سير العمل في الدفاع المدني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما أنتجت هزيمة حزيران ثقافتها الغاضبة وسينماها المتسائلة . من "العصفور" الى الواقع : أفلام اللايقين الخلاق
نشر في الحياة يوم 08 - 06 - 2007

هل يمكن التحدث عن هزيمة حزيران على أنها نقطة انعطاف جذرية حدثت في فضاء الثقافة العربية، بمعنى أن يكون هناك حديث عن ثقافة ما قبل حزيران يونيو وثقافة ما بعد حزيران؟
من الواضح أن الجواب الذي يخطر، للوهلة الأولى، على البال هو: أجل. فحزيران أحدث في ضمير الثقافة العربية شرخاً أساسياً. وهذا الشرخ قد تكون عبرت عنه ظواهر ثقافية مباشرة في مجالات الأدب والفنون، لا سيما الشعر والسينما والمسرح... وصولاً الى الظواهر الفكرية والفلسفية... غير أن الأعمق من تلك الظواهر، كان ذلك التبدل البطيء الذي حدث في الأشياء والمواضيع الثقافية العربية، ولعل الوقت قد حان للحكم ما اذا كان ذلك التبدل حصيلة لهزيمة حزيران وحدها، أم أنه كان، في جزء كبير منه، حصيلة للتطورات التي طرأت على الوعي الابداعي في العالم كله خلال فترة الستينات، ولم يكن الوعي الإبداعي العربي في منأى منها. فبشكل عام تعتبر سنوات الستين ثورة جذرية أصابت، بخاصة، الوعي الثقافي بفعل ثورات الغناء والموسيقى من جهة، وثورات الشبيبة أيار/ مايو الفرنسي، أحداث المكسيك، والتجذر ? بالمعنيين السلبي والإيجابي ? الذي اتخذته الأحداث السياسية ربيع براغ ثم غزوها من جانب قوات حلف وارسو ? الثورة الثقافية في الصين... الخ، واذ تأتي هزيمة حزيران في خضم ذلك كله يبدو من المنطقي التوقف عند التساؤل حول تضافر كل هذه العناصر والمؤثرات لصنع تلك"الخضة"الثقافية التي تلت حزيران. ولكن سواء أكان هناك تضافر، أم كان هناك تأثر بالهزيمة وحدها، فإن ما يمكن الوقوف عنده انما هو واقع حصول هزة أساسية في الثقافة العربية... خلال السنوات التالية لحزيران، وهي هزة جاءت، في جوانب عدة منها، مفيدة لحركية الإبداع العربي.
بين لوم وآخر
كان اللوم لوم الذات ولوم الآخر، جزءاً أساسياً من الشكل الذي اتخذه الرد المشرقي على الهزيمة، ومثل هذا اللوم تجلى خصوصاً في كتابات مفكرين من أمثال صادق جلال العظم وحليم بركات وأدونيس في مجلة"مواقف"... فبالنسبة الى هؤلاء كان من المؤكد أن مسؤولية الهزيمة تقع على عاتقنا نحن ولم يكن من قبيل الصدفة أن يعنون صادق جلال العظم أحد أشهر كتبه"النقد الذاتي بعد الهزيمة" وأحياناً بشكل بسيكو ? ميتافيزيقي. على هذا النحو تبدت الهزيمة أشبه بقدر مرسوم، وأشبه بمصير مكتوب للفرد العربي... وقليلون هم الذين دار في خلدهم في معمعمان التشاؤم والخوف أن يتساءلوا بعض الشيء عن الأسباب الموضوعية، لا الذاتية للهزيمة، وأن يلحظوا أننا في الحقيقة لم نكن نحارب اسرائيل وحدها، بل كنا نحارب ونحن مشتتون، عالماً مجتمعاً لمرة نادرة في تاريخه، وقد وضع اسرائيل في الواجهة. وأن يلحظوا أن المعركة دارت والشعب العربي كله مغيب عنها، بفعل طبيعة الدول الحاكمة من ناحية وبفعل الأمية المستشرية من ناحية ثانية.
من هنا تبدو لقطة القفص في فيلم"العصفور"ليوسف شاهين أكثر تعبيراً عن حقيقة الأزمة من عشرات الكتب: كان المطلوب للرد على الهزيمة، وقبل ذلك لتفادي الهزيمة، اطلاق الشعب من قفصه واشراكه في الدفاع عن أمته، وليس بالمعنى العسكري الصرف. هذا النوع من السينما أدرك عمق الأزمة وحدد خطوطها: انها أزمة انعدام الثقة بين النخبة الحاكمة من جهة، والشعب المحكوم من جهة ثانية، والنخبة المبدعة من جهة ثالثة... وانعدام الثقة هذا هو الذي مكن الهزيمة من فرض حضورها... بحيث إنها طاولت كل طرف على حدة، ومن دون أن يخوض أي طرف حرباً حقيقية.
هذا الجانب من جوانب الهزيمة عبرت عنه السينما بأفضل مما عبر عنه أي فن آخر، اذ في الوقت الذي راح فيه المسرح يهذي ويثرثر حول لعنة الذات وحول الانسحاق الفكري، وفي الوقت الذي راح فيه الفكر يبحث عن الهزيمة في التركيب البسيكولوجي للشخصية العربية، اتجهت السينما، عبر الكثير من الأفلام لدراسة الوضع الحقيقي الذي مكن اسرائيل من الانتصار: ففي"العصفور"ليوسف شاهين وفي"أغنية على الممر"لعلي عبدالخالق، بين أفلام أخرى، جرى الحديث عن الانفصام بين السلطة والشعب، جرى الحديث عن طرفين يقاتل كل منهما على طريقته، فتتشعب الطرق ويتمكن العدو من الطرفين معاً... اذاً، بالنسبة الى السينما ليست الهزيمة قدراً، ولا هي نتيجة لقوة اسرائيل، بل هي هزيمة سياسية واضحة الأسباب جذورها في ضعفنا لا في تفوق العدو."قولوا الحقيقة!"صرخ"أغنية على الممر"وپ"افتحوا القفص!"صرخ"العصفور"... واتركوا الباقي للناس.
على أي حال، يمكن الاشارة هنا، من ناحية أخرى، الى ان السينما العربية كانت من أكثر الفنون تأثراً بهزيمة حزيران، لأن السينما العربية بعد حزيران كانت شيئاً آخر تماماً غير السينما العربية قبل حزيران، اذ بفضل الحركة النقدية التي قامت في ذلك الحين، تمكنت السينما العربية من أن تتجذر بشكل مدهش طوال سنوات تالية... وليس في مصر وحدها... بل في بلدان عربية عدة كذلك.
غير أن هذا التجذر لم يستمر إلا طوال عقدين ونصف العقد فقط، مختتماً بفعل أحداث أوائل سنوات التسعين، ثورة، لم يبق منها اليوم سوى أفلام قليلة تنتج كل سنة، حتى في مصر، ووعود بانبعاثات، غالباً ما تحدث ولكن لتخبو بعد ذلك. ولم يكن صدفة أن تتوقف تلك"الثورة"مع الكارثة التي حلت بالعالم العربي اثر ما اقترفه صدام حسين من احتلال الكويت وما تلا ذلك من ارباكات طاولت المبدعين كما طاولت الكل ولا تزال. وهنا قد يكون من المفيد أن نكتفي بالحديث عن ربع القرن السينمائي الأول الذي تلا الهزيمة.
اذاً السنوات 1967 ? 1992، مرحلة تاريخية أغلقت على ذاتها وعما قريب ستبدو ذات طابع مستقل في مسار التاريخ العربي الراهن. مرحلة بدأت بهزيمة عام 1967 التي فجّرت لدى الانسان العربي وعياً جديداً، غالباً ما سادته رغبة انتقاد الذات ووضع الماضي القريب والراهن المؤلم على بساط البحث، كما ولّدت لديه بحثاً مضنياً عن آفاق مستقبلية جديدة... انتهت بوضع يثير الكثير من الأسئلة حوال انجازات الفكر العربي في الزمن الراهن، بين أمور أخرى.
وتماماً كما أن أحداث ومآسي عام 1967 والسنوات التي تلته لم تأت من العدم، يمكن القول إن الأسئلة التي طُرحت من جرائها على العقل العربي لم تأت بدورها من العدم، سواء أكانت أسئلة عبرت عن نفسها في نقد صارم، أو في نفي قاطع، أو ? وهذا يحدث أحياناً ? في اعلان الرضى التام عن كل ما حدث. فلقد كان للتاريخ الحديث الذي بدأ ? بالنسبة الينا ? مع بداية صيف عام 1967، ما ? قبل ? تاريخه. ينطبق هذا على الأمور السياسية والاجتماعية كما ينطبق على شؤون الإبداع، بما فيها فن السينما، الذي إذ أطلت عليه أحداث عام 1967، وجدته موزعاً بين اتجاهات شتى تنحصر أو تكاد في اتجاهين رئيسيين: سينما ترفيهية"جماهيرية"يصنع معظمها في القاهرة وبيروت التي كانت مجرد امتداد للقاهرة من الناحية الانتاجية السينمائية، سينما ملتزمة تحاول أن تُطرح اسئلتها على الواقع والوعي العربيين، يصنع بعضها في القاهرة... ولكن يصنع معظمها خارج القاهرة، في الجزائر مثلاً، وفي بعض البلدان الأخرى التي كانت بدأت تخطو خطواتها الأولى.
شرارة ما...
وكما ثوَّرت هزيمة حزيران 1967، أموراً كثيرة في حياتنا العربية، وفي مقدمها بعض وعينا لذاتنا، كان من الطبيعي لشرارة التثوير تلك أن تطاول الفن السابع، الفن الشعبي الأكثر حساسية بالتأكيد. وهذه الشرارة حين اندلعت وجدت من يتلقفها، اذ كانت الساحة السينمائية العربية تعرف مسبقاً نتاجات عرفت كيف تتوغل في قضايا الوعي حتى من قبل بزوغ لحظة الهزيمة/ انبثاق الوعي: كان هناك صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وتوفيق صالح في مصر، وأفضل ما أعطته السينما الجزائرية في ذلك الطرف البعيد، غرب الوطن العربي، وإرهاصات وعي هنا، وتساؤل هنالك. وهكذا، منذ الشهور التالية للهزيمة مباشرة راحت العملية تتسارع: في مصر انبثقت جماعة للسينما الجديدة تطرح على نفسها وعلى السينما مهمات طموحة، كما بدأ يوسف شاهين وأبو سيف وغيرهما يتساءلون عن السينما ودورها، وفي الجزائر بدأت تحدث عملية الانتقال من سينما تمجيد الثورة والنضال البطولي الذي صاحبها، الى سينما الأسئلة المقلقة حول ما حدث وكيف حدث. وفي الكويت وسورية والعراق والمغرب وتونس تكاثر القلق من حول السينما، وتكاثرت الأدوار التي أنيطت بها، نظرياً... ولكن عملياً في بعض الأحيان.
لقد ولد هذا كله، تلك الثورة السينمائية التي تجلت مظاهرها خلال ثلاث أو أربع سنوات تالية. بحيث إننا اليوم، مع التراجع الزمني الضروري يمكننا أن نقول إن الصدفة لا يمكنها أن تكون مسؤولة وحدها، عن انبثاق أفلام مثل"المومياء"وپ"الأرض"وپ"بس يا بحر"وپ"المخدوعون"وانجازات جماعة السينما الجديدة المصرية ? على تواضعها -، وأفلام عبدالعزيز طلبي ومحمد بوعماري في الجزائر، خلال فترة قليلة من الوقت.
فالحال أن الهزيمة والوعي الذي صاحبها، أجبرا طليعيي السينما العربية على نقل الهواجس التي تختمر في العقل العربي الى الشاشة الكبيرة، فكانت تلك الثورة الفكرية، ولكن أيضاً تلك الثورة التعبيرية التي أدت الى نقلة نوعية في لغة السينما نفسها، خلال تلك السنوات والسنوات التالية لها. ولن يكون من المجازفة القول إن"مومياء"شادي عبدالسلام وپ"بس يا بحر"لخالد الصديق وپ"الأرض"ثم"العصفور"ليوسف شاهين، وبعدهما"المخدوعون"لتوفيق صالح وپ"كفر قاسم"لبرهان علوية وپ"الحياة اليومية في قرية سورية"لعمر أميرالاي، كانت هي الابداعات المؤسسة لتلك الثورة التعبيرية/ الشكلية الجديدة. ولئن كان شادي عبدالسلام قد أدخل الفن التشكيلي الى لغة السينما من باب عريض، فإن خالد الصديق وعمر أميرالاي عرفا كيف يزرعان الأسس لذلك البعد الانثروبولوجي الذي طبع في ما بعد جزءاً كبيراً من نتاجات السينما العربية، عبر توغل الى عناصر المعيوش اليومي بطقوسيته وارتباكاته وبعده التأسيسي. هذا بينما ارتدى تصوير حياة الأيام والأعمال لدى يوسف شاهين في"الأرض"خاصة طابع الرمز السوسيولوجي مع تأسيس أولي - سيكون له دور كبير بعد ذلك - للعبة التعبير عن المكبوت الجنسي في ارتباطه بمرحلة الانتقال من الطفولة المبكرة الى زمن الصبا. هذا بينما أسس توفيق صالح وبرهان علوية لعلاقات جديدة بين"القضية"وسبل التعبير عنها: بين المعيوش وشكله السينمائي، والأدب وفن السينما، في"كفر قاسم"من ناحية، وپ"المخدوعون"من ناحية أخرى. وهذه الدروس جميعها سوف لن تضيع هباء خلال المرحلة التالية.
التاريخ كما هو
فالحال أن السينما العربية الجيدة والجديدة، التي عادت وأنتجت خلال السنوات التالية، وصولاً الى تعبيرات"الواقعية الجديدة"في مصر على يد محمد خان وبدايات خيري بشارة وبعض انتاجات الراحل عاطف الطيب وعلي بدرخان ورأفت الميهي وصولاً الى شريف عرفة وداود عبدالسيد ويسري نصرالله، كما وصولاً الى النهضة السينمائية الجديدة في تونس، والانتاجات المتميزة في المغرب أو على يد السينمائيين اللبنانيين، أو بعض السوريين الذين حلّق كل واحد منهم منفرداً، هذه السينما العربية تدين بالكثير للحظات التأسيس التي تحدثنا عنها. فلقد كانت تجديدات يوسف شاهين الشكلية والتعبيرية هي التي شقت الطريق، من ناحية في اتجاه انبثاق سينما تمزج بين الاجتماعي والسياسي عبر أسئلة القلق والغضب، ومن ناحية ثانية في اتجاه تلك السينما الذاتية التي عبرها طرح السينمائي أسئلته على واقعه، ولكن من خلال تاريخه الخاص وقلقه الطفولي الغامض من"ريح السد"لنوري بوزيد، الى"حلفاوين"فريد بوغدير، ومن"أحلام المدينة"لمحمد ملص الى"شرفات صيفية"ليسري نصرالله. أما تعامل برهان علوية مع مكان منغلق ينكشف عبر علاقة شخوصه بالتاريخ المعيوش، فلقد كان العامل المؤثر في انبثاق نوع من السينما كان من تجلياته أيضاً أفلام عدة عادت وربطت بين المعيوش التاريخي وتعبيره اليومي كما لدى برهان علوية نفسه في أفلامه التالية، ولكن أيضاً في أفلام عراقية وسورية عدة، امتزج فيها الانثروبولوجي بالسياسي "الأسوار"في العراق،"بقايا صور"في سورية، ولكن خصوصاً أفلام أسامة ومحمد وعبداللطيف عبدالحميد، وجزء كبير من انتاجات"الواقعية الجديدة"في مصر كما في الجزائر وغيرها، وصولاً الى الفيلم الفلسطيني الكبير"عرس الجليل"لميشال خليفي، وپ"شمس الضباع"لرضا الباهي في تونس.
اذا كانت هناك سمة أساسية يمكن الاستناد اليها للحديث عن السينما العربية خلال ربع القرن التالي للهزيمة، فإن هذه السمة ستكون ذات اسم محدد هو: اللايقين. فالسينما لم تعد واثقة من شيء. كل يقين سابق وجاهز سلفاً، لم يعد مقبولاً... فالصحافي في الفيلم الجزائري"نهلا"لفاروق بلوفة، لم يعد ذلك المثقف البسيط الذي يذهب الى المكان الذي يحاول استقصاء الوضع فيه لبنان الحرب الأهلية ليكتشف كل الحقائق ميدانياً، بل صار ذلك العربي الذي لا يخجله أن يعلن عجزه عن الوصول الى الحقائق. وفي"وقائع سنوات الجمر"للأخضر حامينا، كما في"نوّه"وپ"الفحام"تتكاثر الأسئلة وتتضاءل اليقينات. والعصفور المنطلق من قفصه في"عصفور"يوسف شاهين ليس رداً على الهزيمة، بل هو سؤال عن الحرية، الحرية نفسها التي ستدفع"هند وكاميليا"ثمنها غالياً في فيلم محمد خان. ولبنان لدى برهان علوية ومارون بغدادي لن يعود موطناً لحرب عادلة أو حتى مرفوضة، بل سيصبح حضاً كبيراً على ولوج المنفى. وپ"ابن السبيل"في فيلم محمد عبدالرحمن التازي، كما حال"يوسف"في"البحث عن سيد مرزوق"لداود عبدالسيد، ليس شخصاً يقوم بمجرد رحلة ? عادية أو استثنائية في حياته ? بل هو الإنسان العربي الذاهب الى اللامكان. اللامكان نفسه الذي تصل اليه تحقيقات الصحافي في"العوامة رقم 70"لخيري بشارة، أو جهود نور الشريف في"سواق الأوتوبيس"لعاطف الطيب.
قد يجد بطل محمد خان نوعاً من الخلاص في اللجوء الى الريف أو الى ما يشبه الريف في"خرج ولم يعد"أو في"فارس المدينة"، لكن المخرج نفسه ينبهنا الى أن هذا الحل عبثي عبثية السؤال المطروح نفسه، وعبثية محاولة عبدالوهاب في"أيام"أحمد المعنوني، الهرب ناحية المدينة بعيداً عن ريف يموت. ترى اليس أحمد هو في نهاية الأمر ذلك التوق الموؤود داخل كل واحد منا، الى البعيد؟ أتراه في هذا يختلف كثيراً عن سي عباس في"شيشخان"محمود بن محمود، الذي كان قد صور في"عبور"مأساة الرحيل الأبدي لإنسان يلفظه مجتمعه قبل أن تلفظه المجتمعات الأخرى؟
أين اليقين؟
لم يعد ثمة من يقين...
ولكن أوليس في قول هذه الحقيقة التي باتت تبدو يقينية في حد ذاتها، نوع من التطهير؟ أوليس في محاولة ايصال القلق من طريق العدوى منقولة على الشاشة، محاولة للتواصل تنسف اليأس من أساسه؟
سيكون الرد ايجاباً لو نحن رأينا مع هربرت ماركوزه، أن التحرر المقبل لن يأتي إلا من طريق الفن... آخر أمل للإنسان.
وما الإضافات الخلاقة التي أضافها شادي عبدالسلام ويوسف شاهين، المبتكران الكبيران للأشكال السينمائية العربية، ومبدعا اللغة الفيلمية العربية التي عادت وانعكست لتصل الى أقصى درجات حضورها لدى مخرجين من أمثال ناصر خمير ومحمد ملص ومحمد عبدالرحمن التازي في"ابن السبيل"ولكن أيضاً في"باديس" والطيب الوحيشي في"ظل الأرض"خاصة ومؤمن السميحي وأسماء البكري وخصوصاً لدى محمد خان... ما هذه الاضافات سوى فعل تحرير أساسي، تجلى ويتجلى باستمرار عبر مخاطبة العين في لغة بصرية أخاذة، عبر مساءلة تفاصيل التاريخ الجماعي للأمة، والذاتي لأفرادها ومنهم السينمائيون أنفسهم وعبر الإطلال على الواقع من منظور آخر... منظور له ايلام العبقرية ومرارة الإبداع وقسوة السؤال، وجمال الانقلاب على الذات الجماعية والفردية. حتى لو كان ربع القرن التالي للهزيمة في تاريخ السينما العربية لم ينتج إلا هذه الأمور، سيكون بالتأكيد واحداً من أكثر مراحل تاريخنا إثماراً وخلقاً...
وهو هكذا بالتأكيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.