"عاشقة الليل" لم تعد تميّز كثيراً بين الليل والنهار، في القاهرة التي اختارتها مدينة أخيرة للاستراحة في عزّ الشيخوخة، وتحت وطأة المرض الذي أقعدها السرير منذ سنوات. تسأل في القاهرة عن الشاعرة العراقية نازك الملائكة فلا يجيبك أحد جواباً شافياً. بعضهم يَعجبون لمثل هذا السؤال وفي ظنهم أنها رحلت مثلما رحل رفاقها بدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبدالوهاب البياتي... وبعضهم يُفاجأون فيسألون بدورهم: نازك الملائكة في القاهرة؟ لكنّ قلّة قليلة جداً تعلم أنها مريضة ولا تبارح السرير ولا تستقبل أحداً ولا تردّ على مكالمة... ويقول هؤلاء إن زوجها عبدالهادي محبوبة كان صلتها بالحياة أو بالخارج، وقد أشرف شخصياً على إصدار أعمالها الكاملة التي تبناها المجلس الأعلى للثقافة عام 2002. ويروي الناقد جابر عصفور كيف كان زوجها الذي يتحدث بالفصحى، حريصاً على عدم ورود أي خطأ طباعي في الأعمال الكاملة، وكيف كان يتردد على المجلس لتصحيح فاصلة أو حرف. لكنّ الزوج الوفي لم يلبث أن فارق الحياة قبل ثلاث سنوات تاركاً شاعرة"شظايا ورماد"في عهدة ابنهما محمد البراق الذي يعمل في مجال العلوم. هذا كلّ ما استطعت أن أعرفه عن نازك الملائكة التي طالما رغبت في لقائها ولو لقاء عابراً. فهذه الشاعرة التي زاحمت الشعراء الروّاد على كتابة القصيدة التفعيلية الحديثة، كانت بمثابة ظاهرة كبيرة، عطفاً على كونها شاعرة رائدة. ولعلها الوحيدة في جيلها الريادي التي استطاعت أن توازي بين النقد والابداع الشعري، فأثارت الكثير من السجال حول قصيدة التفعيلة وبنيتها العروضية الجديدة، وهاجمت قصيدة النثر، وخاضت معركتها الشعرية بجرأة ووعي نقديّ. حاولتُ خلال أيام أمضيتها في العاصمة المصرية متابعاً"ملتقى القاهرة الشعري"أن أحقق رغبتي في زيارة نازك الملائكة، لكنني فشلت. حصلت على رقم هاتف منزلها بعد جهد، وطلبته مرات كثيرة ولم يكن أحد يرفع السمّاعة. لكنني لم أيأس. حاولت مرة أخرى وإذا صوت امرأة يردّ، صوت امرأة شابة. سألتها عن الشاعرة فأجابت باختصار أن صحتها في تحسّن. قلت لها: هل يمكنني أن أزورها؟ قالت بلطف:"لا. لا أحد يزورها منذ سنوات. إنها ترفض أن تلتقي أحداً". لم تضف السيدة الشابّة أي كلام آخر. لكنني سألتها إن كان ممكناً أن أتحدث مع ابنها. غابت لحظات ثم كلّمني ابنها الدكتور محمد البراق بلطف شديد، وكرّر ما قالته زوجته ربما، لكنه فاجأني أن أمه تخرج أحياناً لزيارة بعض الأقارب. كان كلامه مشوباً ببعض الارتباك وكأنه لا يريد أن يعلن أن الشاعرة لا تغادر السرير وأن صحتها ليست على ما يرام... كأن الابن يريد أن يحافظ على الصورة المشرقة التي طالما عُرِفت بها الشاعرة الرائدة، متجاهلاً كل ما يقال أو يشاع في بعض الاوساط"القاهرية"عن أحوال اكتئابها وانهيارها النفسي والجسدي وفقدانها الذاكرة... عندما حصلت على عنوان بيت نازك الملائكة من السيدة التي كلمتها هاتفياً، قلت: استقل سيارة التاكسي وأذهب. العنوان هو: 86 شارع سوزان مبارك، حدائق القبة، الدور الخامس، الشقة الرقم واحد. العنوان يعرفه سائق التاكسي ولا يحتاج الى أن يسأل عنه. لكنّ الحيرة تساورك عندما تجد نفسك أمام المبنى والبوابة المقفلة، لا تجرؤ على قرع الجرس ولا على التحدث مع مَن تحدثت هاتفياً. تقنع نفسك أن الزيارة غير مسموح بها وأن التطفل في مثل هذا الموقف أمر سيئ جداً. هل يكفي أن تنظر الى الطابق الخامس وتقول: هنا تسكن"عاشقة الليل"بل هنا تنام غائبة عن الحياة والعالم؟ أقنعت نفسي أن من المستحيل فعلاً لقاء نازك الملائكة. السيدة والابن هما على حق. ينبغي للشاعرة أن تخلد الى سكينتها، أن ترقد بهدوء على سرير المرض أو"الغياب"أو اليقظة الأخرى. إنها حتماً تتألم بصمت كعادتها، مدركة أن العراق بعيد، وأن الليل الذي غنّته كثيراً يحل الآن على بغداد والمدن والقرى. وتدرك كذلك أنها ترقد في احدى ضواحي القاهرة، عاصمة مصر التي أوحت لها عام 1947 بقصيدتها الشهيرة"الكوليرا"التي نافست بها قصيدة السياب"هل كان حباً؟"ولم يحسم حتى الآن مَن كان منهما سبّاقاً في كتابة القصيدة التفعيلية الأولى في تاريخ الشعر العربي. في الرابعة والثمانين، ترقد نازك الملائكة على سرير أحلامها التي لا يدري أحد الى أين تحملها ولا أي عالم تبني لها، في ليل الحياة الطويل.